08 نوفمبر 2024
جدل تركيا وتطبيع العلاقات مع إسرائيل
في خضم أخذ ورد حول اتفاق المصالحة التركي-الإسرائيلي، بعد أكثر من ست سنوات من التوتر، وما تلاه من مبادرة تركيا إلى تنفيس الاحتقان مع روسيا التي تردّت علاقتها بها بعد إسقاط أنقرة إحدى طائراتها الحربية العام الماضي في مجالها الجوي، جاءت هجمات مطار إسطنبول الدموية لتعيد التذكير بالتعقيدات الجيوستراتيجية التي تعيشها تركيا اليوم. وأيّ قراءة لا تأخذ في اعتبارها هذه التعقيدات الجيوستراتيجية، ولا تنطلق من أن تركيا دولة وليست حزباً، ولا شخصاً، مهما بلغت قوته وكاريزماهيته، مثل رجب طيب أردوغان، فإن هذه القراءة ستصل إلى نتائج خاطئة مشوّهة، اللهم إلا إذا كان هذا هو المطلوب في سياق محاولة شيطنة تركيا ومواقفها السياسية في إقليمٍ انشرخت فيه المواقف بين من يقف مع الطغاة وداعميهم الكثيرين، وبين من يقف فيه مع الشعوب وطموحاتها.
منذ وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 بزعامة أردوغان، حققت تركيا قفزاتٍ اقتصادية هائلة، وساهمت نظرية رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو (تصفير المشكلات) مع الجيران في تعزيز وضع تركيا إقليمياً. وخلال سنوات حكم الحزب ما بين عام 2002 وحتى انطلاق الثورات العربية مطلع عام 2011، كانت علاقات تركيا إيجابيةً جداً مع دول كسورية وإيران، واللتين كانتا مصنّفتين ضمن ما يُعرف بـ "محور الممانعة"، كما فتحت تركيا خطوط اتصال مباشرة مع حركة حماس. في المقابل، لم يسع حزب العدالة والتنمية إلى قطع علاقات تركيا بدول حليفة لها تاريخياً، قبل وصول الحزب إلى الحكم، كإسرائيل، غير أن ذلك لم يعن عدم توتر العلاقات بينهما بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أواخر عام 2008، ثم الاعتداء الإسرائيلي عام 2010 على سفينة "مافي مرمرة" التركية التي كانت محمّلةً بمساعداتٍ إنسانيةٍ لقطاع غزة المحاصر، وقتل قوات الاحتلال عشرة من الناشطين الأتراك على متنها في المياه الدولية. أيضاً، فتحت تركيا خطوط تواصل مع إقليم كردستان العراقي، وتوّجت ذلك باتفاق تاريخي، عام 2013، لوقف إطلاق النار مع حزب العمال الكردستاني التركي، على أمل إنهاء عقود طويلة من الصراع الدموي بين الطرفين.
كانت تركيا في حقبة 2002-2011، ماضية في إعادة صياغة دورها الإقليمي والدولي وتحالفاتها، من دون التضحية بالقديم منها، مثل عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعلاقاتها بإسرائيل. ولكن أيضاً، من دون قبول الدونية والارتهان ضمن نسق العلاقات تلك، كما كان عليه الحال. ومن هنا، رفض البرلمان التركي، مثلاً، نشر قواتٍ أميركية على أراضي تركيا تمهيداً لاجتياح العراق عام 2003، مع الحفاظ على العلاقات الإستراتيجية بالولايات المتحدة و"الناتو"، كما أن تصعيد التوتر مع إسرائيل لم يُفض إلى قطع العلاقات الدبلوماسية معها.
كان ذلك في حقبة ما قبل انطلاق الثورات العربية، غير أنه، مع انطلاقتها، وجدت تركيا نفسها
ضمن محيطٍ فوضويٍّ تشتعل فيه الحرائق. حاولت تركيا، ابتداءً، أن تتناغم مع مطالب الشعوب في الدول التي لا تربطها بها علاقاتٌ قوية، كتونس ومصر، وأن تمسك بالعصا من المنتصف في الدول التي تربطها بها مصالح وعلاقات إستراتيجية كسورية، إلا أن مقاربة أنصاف المواقف لم تعمل. وعبثاً حاولت تركيا أن تثني الرئيس السوري، بشار الأسد، عن سفك الدماء، وسافر أوغلو، عندما كان وزيراً للخارجية إلى دمشق، والتقى الأسد في أغسطس/ آب 2011 لحثه على إجراء إصلاحاتٍ سياسيةٍ هيكلية، غير أن الأسد ونظامه وحلفاءهما أخذتهما العزّة بالإثم، وأعلنوا عداءهم لتركيا، على الرغم من أن تركيا حاولت أن تعيد تأهيل نظام الأسد ضمن المعطيات الجديدة، لا التخلص منه، وكانت النتيجة أن انهارت سورية كدولة، وأصبحت عملياً تحت الوصاية الإيرانية والروسية والأميركية، وتضعضع نظامها، وسفكت دماء شعبها، ودمرت البلد تدميراً، دع عنك انبعاث صراع طائفي في مجمل المنطقة، يكاد يأتي عليها كلياً، على غرار العراق وسورية.
لم تقف معضلات تركيا عند ذلك الحد، فهي، مع إعلانها الانحياز لخيار الشعوب في سورية ومصر، كانت كمن نَفَشَ يده في عش دبابير، فاستثارت عداءَ أنظمةٍ عربيةٍ أعلنت انحيازها، منذ اليوم الأول، لخيار القمع والكبت والديكتاتوريات، كما استثارت عداء إيران ومحورها، وهو من كان قريباً منها في الأمس، وهي كانت خسرت إسرائيل من قبل، ثم استفزّت الولايات المتحدة ودولاً غربية أخرى، جرّاء تبنيها سياساتٍ مستقلةً عنهم، متهمين إياها بتسهيل مرور "الجهاديين" إلى سورية وغض الطرف عنهم، إن لم يكن دعمهم. ثمّ جاء انهيار الاتفاق مع حزب العمال الكردستاني عام 2014 المترافق مع تفكّك الدولة السورية، وسعي أكرادها إلى تحقيق استقلالٍ، على النمط الكردي العراقي، بعد أن بدا أن التقاطعات الدولية في سورية تخدم هذا الهدف، وهو ما أنعش آمال الأكراد الأتراك بالانفصال. ولكن، هذه المرة ضمن معطياتٍ جديدة، وجدوا فيها دعماً إسرائيلياً، وروسياً، وبعض عربي، بل وحتى أميركي-غربي، ضمني. وبعد ذلك، جاء التوتر مع روسيا بعد إسقاط طائرتها الحربية، وما ترتب عليه من لَجْمِ للقدرة التركية على التدخل في سورية لدعم حلفائها على الأرض، وفي ظل عدم حماسة من "الناتو" للدفاع عن تركيا العضو فيه. أما ثالثة الأثافي، فتمثلت بإعلان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تركيا عدواً، بعد فترة من غض الطرف عنها، موجهاً بذلك انتحارييه وتفجيراته إلى قلبها، في وقتٍ يقوم فيه الأكراد بالأمر نفسه، وهو ما ينذر بتدمير السياحة في تركيا وضرب اقتصادها.
إذن، وجدت تركيا الدولة نفسها تنجرّ، أكثر فأكثر، إلى أتون فوضى مدمّرة، تكاد تهرسها هي أيضاً، كما هرست غيرها من دول الإقليم، ولم يعد أمامها سياسياً إلا أن تعيد النظر في علاقاتها، وأن تسعى إلى إعادة إحياء تحالفاتٍ قديمة، أو تخفيف الاحتقان فيها قدر الإمكان. كان خطأ تركيا، منذ اليوم الأول، أنها تصرّفت بشكل أكبر من حجمها وإمكاناتها ضمن صراعاتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ بالوكالة، أما خطأها الأكبر فيتمثل بعدم إلقائها ثقلها مبكراً في الصراع السوري لحسمه، أو للوصول إلى تسوياتٍ تؤخذ مصالحها فيه بالاعتبار، قبل أن يتم تدويل ملفه. تركيا دولة كبيرة إقليمياً، وهي قادرةٌ على أن يكون لها كلمة، وأن تفرض اعتبار مصالحها، لو بقي الصراع محصوراً في الإقليم. ولكن، عندما يكون قطبان، كأميركا وروسيا، طرفين في الصراع، حينها تفقد تركيا تلك الميزة، خصوصاً وأنها اليوم بلا حلفاء حقيقيين أقوياء. في المحصلة، اصطدمت مبادئ تركيا وطموحاتها الواسعة مع إمكاناتها المحدودة، فكانت المواءمة التي نراها اليوم، من دون أن يعني ذلك تنازلاً كلياً عن المبادئ، بقدر ما أنها حُقِنَتْ بِجُرْعَةٍ واقعية.
يبقى لنا كلمة، هنا، وأوجهها للشامتين من أنظمة القمع العربية وأنصارها وأنصار إيران. لُمْتُمْ تركيا في الأمس، عندما انطلقت من مواقف مبدئيةٍ متناغمةٍ مع خيارات الشعوب، كما في سورية ومصر، وتلومونها اليوم عندما أخذت، في اعتبارها، مصالحها كدولة مع تخفيف حدة المبادئ. في حين أنكّم لم تتناغموا يوماً مع مطالب شعوبكم، ودائماً ما كانت حساباتكم حسابات أنظمة (طائفيةٍ في حالة إيران) لا حسابات دول. إننا نعارض أي تطبيعٍ مع الكيان الصهيوني المحتل مبدئياً. ولكن أي عارٍ أكبر من أن تفاوض تركيا على تخفيف الحصار عن قطاع غزة، في حين يشترك في جريمته السلطة الفلسطينية ومصر، وكثير من أنظمة العرب!؟
منذ وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 بزعامة أردوغان، حققت تركيا قفزاتٍ اقتصادية هائلة، وساهمت نظرية رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو (تصفير المشكلات) مع الجيران في تعزيز وضع تركيا إقليمياً. وخلال سنوات حكم الحزب ما بين عام 2002 وحتى انطلاق الثورات العربية مطلع عام 2011، كانت علاقات تركيا إيجابيةً جداً مع دول كسورية وإيران، واللتين كانتا مصنّفتين ضمن ما يُعرف بـ "محور الممانعة"، كما فتحت تركيا خطوط اتصال مباشرة مع حركة حماس. في المقابل، لم يسع حزب العدالة والتنمية إلى قطع علاقات تركيا بدول حليفة لها تاريخياً، قبل وصول الحزب إلى الحكم، كإسرائيل، غير أن ذلك لم يعن عدم توتر العلاقات بينهما بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أواخر عام 2008، ثم الاعتداء الإسرائيلي عام 2010 على سفينة "مافي مرمرة" التركية التي كانت محمّلةً بمساعداتٍ إنسانيةٍ لقطاع غزة المحاصر، وقتل قوات الاحتلال عشرة من الناشطين الأتراك على متنها في المياه الدولية. أيضاً، فتحت تركيا خطوط تواصل مع إقليم كردستان العراقي، وتوّجت ذلك باتفاق تاريخي، عام 2013، لوقف إطلاق النار مع حزب العمال الكردستاني التركي، على أمل إنهاء عقود طويلة من الصراع الدموي بين الطرفين.
كانت تركيا في حقبة 2002-2011، ماضية في إعادة صياغة دورها الإقليمي والدولي وتحالفاتها، من دون التضحية بالقديم منها، مثل عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعلاقاتها بإسرائيل. ولكن أيضاً، من دون قبول الدونية والارتهان ضمن نسق العلاقات تلك، كما كان عليه الحال. ومن هنا، رفض البرلمان التركي، مثلاً، نشر قواتٍ أميركية على أراضي تركيا تمهيداً لاجتياح العراق عام 2003، مع الحفاظ على العلاقات الإستراتيجية بالولايات المتحدة و"الناتو"، كما أن تصعيد التوتر مع إسرائيل لم يُفض إلى قطع العلاقات الدبلوماسية معها.
كان ذلك في حقبة ما قبل انطلاق الثورات العربية، غير أنه، مع انطلاقتها، وجدت تركيا نفسها
لم تقف معضلات تركيا عند ذلك الحد، فهي، مع إعلانها الانحياز لخيار الشعوب في سورية ومصر، كانت كمن نَفَشَ يده في عش دبابير، فاستثارت عداءَ أنظمةٍ عربيةٍ أعلنت انحيازها، منذ اليوم الأول، لخيار القمع والكبت والديكتاتوريات، كما استثارت عداء إيران ومحورها، وهو من كان قريباً منها في الأمس، وهي كانت خسرت إسرائيل من قبل، ثم استفزّت الولايات المتحدة ودولاً غربية أخرى، جرّاء تبنيها سياساتٍ مستقلةً عنهم، متهمين إياها بتسهيل مرور "الجهاديين" إلى سورية وغض الطرف عنهم، إن لم يكن دعمهم. ثمّ جاء انهيار الاتفاق مع حزب العمال الكردستاني عام 2014 المترافق مع تفكّك الدولة السورية، وسعي أكرادها إلى تحقيق استقلالٍ، على النمط الكردي العراقي، بعد أن بدا أن التقاطعات الدولية في سورية تخدم هذا الهدف، وهو ما أنعش آمال الأكراد الأتراك بالانفصال. ولكن، هذه المرة ضمن معطياتٍ جديدة، وجدوا فيها دعماً إسرائيلياً، وروسياً، وبعض عربي، بل وحتى أميركي-غربي، ضمني. وبعد ذلك، جاء التوتر مع روسيا بعد إسقاط طائرتها الحربية، وما ترتب عليه من لَجْمِ للقدرة التركية على التدخل في سورية لدعم حلفائها على الأرض، وفي ظل عدم حماسة من "الناتو" للدفاع عن تركيا العضو فيه. أما ثالثة الأثافي، فتمثلت بإعلان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تركيا عدواً، بعد فترة من غض الطرف عنها، موجهاً بذلك انتحارييه وتفجيراته إلى قلبها، في وقتٍ يقوم فيه الأكراد بالأمر نفسه، وهو ما ينذر بتدمير السياحة في تركيا وضرب اقتصادها.
إذن، وجدت تركيا الدولة نفسها تنجرّ، أكثر فأكثر، إلى أتون فوضى مدمّرة، تكاد تهرسها هي أيضاً، كما هرست غيرها من دول الإقليم، ولم يعد أمامها سياسياً إلا أن تعيد النظر في علاقاتها، وأن تسعى إلى إعادة إحياء تحالفاتٍ قديمة، أو تخفيف الاحتقان فيها قدر الإمكان. كان خطأ تركيا، منذ اليوم الأول، أنها تصرّفت بشكل أكبر من حجمها وإمكاناتها ضمن صراعاتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ بالوكالة، أما خطأها الأكبر فيتمثل بعدم إلقائها ثقلها مبكراً في الصراع السوري لحسمه، أو للوصول إلى تسوياتٍ تؤخذ مصالحها فيه بالاعتبار، قبل أن يتم تدويل ملفه. تركيا دولة كبيرة إقليمياً، وهي قادرةٌ على أن يكون لها كلمة، وأن تفرض اعتبار مصالحها، لو بقي الصراع محصوراً في الإقليم. ولكن، عندما يكون قطبان، كأميركا وروسيا، طرفين في الصراع، حينها تفقد تركيا تلك الميزة، خصوصاً وأنها اليوم بلا حلفاء حقيقيين أقوياء. في المحصلة، اصطدمت مبادئ تركيا وطموحاتها الواسعة مع إمكاناتها المحدودة، فكانت المواءمة التي نراها اليوم، من دون أن يعني ذلك تنازلاً كلياً عن المبادئ، بقدر ما أنها حُقِنَتْ بِجُرْعَةٍ واقعية.
يبقى لنا كلمة، هنا، وأوجهها للشامتين من أنظمة القمع العربية وأنصارها وأنصار إيران. لُمْتُمْ تركيا في الأمس، عندما انطلقت من مواقف مبدئيةٍ متناغمةٍ مع خيارات الشعوب، كما في سورية ومصر، وتلومونها اليوم عندما أخذت، في اعتبارها، مصالحها كدولة مع تخفيف حدة المبادئ. في حين أنكّم لم تتناغموا يوماً مع مطالب شعوبكم، ودائماً ما كانت حساباتكم حسابات أنظمة (طائفيةٍ في حالة إيران) لا حسابات دول. إننا نعارض أي تطبيعٍ مع الكيان الصهيوني المحتل مبدئياً. ولكن أي عارٍ أكبر من أن تفاوض تركيا على تخفيف الحصار عن قطاع غزة، في حين يشترك في جريمته السلطة الفلسطينية ومصر، وكثير من أنظمة العرب!؟