24 أكتوبر 2024
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. التداعيات والعلاقة المستقبلية
أدلى البريطانيون في 23 يونيو/ حزيران 2016 بأصواتهم حول عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي، في استفتاءٍ دعا إليه رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون. وشارك في الاستفتاء 46,501,241 مليون ناخب، وجاءت نتائج التصويت لمصلحة خيار الخروج بنسبة 51.9 في المئة (17,410,742 مليون) مقابل 48.1 في المئة (16,141,241 مليون) لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي. ولوحظ في دراسة السلوك التصويتي للبريطانيين وجود انقسامٍ "جيلي" بين الشباب الذين صوّتوا للبقاء في الاتحاد الاوروبي بنسبة 73 في المئة في الفئة العمرية (18-24 سنة) والفئة العمرية الأكبر سنًا (55-64 سنة) التي صوتت للخروج بنسبة 57 في المئة.
أثارت نتائج الاستفتاء حالةً من الذعر في الأوساط المالية والسياسية الأوروبية والعالمية، كما مثلت تحدياً لعملية التكامل والاندماج الأوروبي، وهدّدت بتداعياتٍ سياسية واقتصادية ومالية كبيرة على بريطانيا، وعلى الاتحاد الأوروبي الذي فقد عضوية دولةٍ أساسيةٍ فيه. وطُرحت أسئلةٌ حول شكل العلاقة المستقبلية التي ستربط ثاني اقتصاد في القارة الأوروبية وخامس اقتصاد في العالم بالاتحاد الأوروبي، وتأثير خروجه في مستقبل الاتحاد، وقدرته على الاستمرار، بعد أن أخذت أصواتٌ تتعالى، في دول أوروبية أخرى، تطالب بالاستفتاء مثل البريطانيين.
العلاقات البريطانية -الأوروبية: انعدام الثقة
تميزت العلاقة البريطانية -الأوروبية قبل الاستفتاء البريطاني بحالة يمكن وصفها بـ "عدم الارتياح المتبادل"، القائمة على تاريخٍ طويلٍ من عدم الثقة، وعدم الانسجام في التوجهات والرؤى بين بريطانيا والجماعة الأوروبية، ووخصوصاً مع الدولتين الكبيرتين في الاتحاد؛ ألمانيا وفرنسا. ولم تكن بريطانيا متحمسة يوماً لعملية التكامل والاندماج الأوروبي؛ إذ لم تكن بين الدول الست التي وقعت على اتفاقية روما لتأسيس المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1957 (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، ولوكسمبورغ)، بل نأت بنفسها عنها، وتأخر انضمامها إليها حتى عام 1973 بعد أن عارضت فرنسا طلب انتسابها مرتين. كما عرقل الموقف البريطاني استكمال الاندماج الأوروبي في عدة مناسبات، ولطالما اعتبرت بريطانيا نفسها، ولا سيما المحافظين فيها، دولةً أطلسيةً أكثر منها أوروبية، متّخذة سياسة اقتصادية وخارجية أكثر قرباً من الولايات المتحدة. لكن ذلك لم يمنعها من التطلع إلى تحقيق مصالح كبرى، سياسية واقتصادية، من خلال الانضمام للنادي الأوروبي من ناحية، والاستمرار في تأدية دورها التاريخي في منع هيمنة فرنسية -ألمانية مشتركة على القرار الأوروبي، من ناحية أخرى.
ومنذ التوقيع على اتفاقية ماستريخت المؤسِّسة للاتحاد الأوروبي عام 1992، تعالت في
بريطانيا أصواتٌ تتساءل عن مستقبل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من ضغوطٍ مورست على رؤساء الحكومات البريطانية المتعاقبين، خلال العقدين الماضيين، لتنظيم استفتاءٍ حول عضوية بريطانيا في الاتحاد، فإنّ أحدًا لم يرضخ لهذا الطلب. ووقع التحول الجوهري، عندما عاد المحافظون إلى الحكم بعد غياب استمر 13 عاماً، إذ طرحت حكومة رئيس الوزراء الجديد حينها، ديفيد كاميرون، في عام 2010 فكرة الاستفتاء المعطّل، فقد وعد بأنّ أية اتفاقية أوروبية تعطي سلطات أكبر لبروكسل على حساب الدول الأعضاء يجب أن يتم التصديق عليها من خلال التصويت أو استفتاء شعبي. ومع بداية عام 2013، ذهب كاميرون خطوةً أبعد عندما أعلن عزم حكومته إجراء استفتاء على البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي.
تداعيات على بريطانيا
عندما وعد كاميرون بإجراء استفتاء حول عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي، بدا واثقاً من قدرة حكومته على إقناع البريطانيين باختيار البقاء، إلا أنّ جملة عوامل تفاعلت، خلال السنوات الأخيرة، وأدت إلى نتائج مغايرة، فقضية الهجرة واللجوء واستئثار قوة العمل القادمة من دول أوروبا الشرقية الأعضاء بفرص عمل البريطانيين، فضلاً عن صعود قوى اليمين، كلها أدت دوراً رئيساً في دفع جزءٍ كبيرٍ من البريطانيين إلى التصويت لمصلحة العزلة والانكفاء.
مثّلت نتائج الاستفتاء صدمةً بالنسبة لكثيرين، وبدأت تداعيات الخروج تتفاعل على المستوى الاقتصادي، فور صدور النتائج؛ إذ فقدت العملة البريطانية أكثر من 10% من قيمتها في يوم واحد، بينما شهدت أسواق الأسهم والسندات والبورصات الأوروبية، خصوصاً بورصة لندن، حالة من الفوضى بعد إعلان نتائج الاستفتاء.
وتراوحت التوقعات بين احتمال حصول هجرة واسعة لرؤوس الأموال وعزوفٍ عن الاستثمار في قطاع العقارات والخدمات المزدهر في لندن، واحتمال انتقال العاصمة المالية للاتحاد الأوروبي، من لندن إلى باريس أو إلى فرانكفورت، حيث مقر البنك المركزي الأوروبي، فضلاً عن مسارعة وكالات التصنيف العالمية إلى إعادة النظر في التصنيف الائتماني السيادي لبريطانيا. ويمكن توقّع التأثير السلبي المحتمل في الاقتصاد البريطاني نتيجة قرار الخروج أكثر، إذا عرفنا أنّ الاتحاد الأوروبي يعدّ شريك بريطانيا التجاري الأول؛ إذ بلغت صادرات المملكة المتحدة إليه في عام 2015 ما نسبته 44 في المئة من إجمالي صادراتها، علماً أن الميزان التجاري بين الطرفين يميل لمصلحة الاتحاد الأوروبي، ولا يبدو أنّ ثمة مصلحة له بالتنازل عن ذلك، حتى بعد الانفصال.
ومن المتوقع أيضًا أن تكون هناك تداعيات كبيرة متعلقة بحُرّية تنقّل الرعايا البريطانيين داخل الاتحاد الأوروبي، إذ يوجد نحو 1.26 مليون بريطاني يعيشون في دول أوروبية، بينها إسبانيا (381 ألفًا) وإيرلندا (253 ألفًا) وفرنسا (172 ألفاً) وألمانيا (96.9 ألفاً) وإيطاليا (72.23 ألفًا). كما كانت عضوية الاتحاد الأوروبي تمكّن المواطن البريطاني من التنقّل بحرية، والعمل داخل دول الاتحاد الأوروبي من دون الحاجة إلى تصريحٍ خاص، أما الآن، فسوف يحتاج إلى تأشيرة دخولٍ لزيارتها، بالإضافة إلى تكبّد أعباء مالية إضافية للسفر. وفضلاً عن ذلك، هناك شكوك وتساؤلات حول مصير موظفين بريطانيين كثيرين يعملون في مؤسسات أوروبية، وخصوصاً في بروكسل.
كما قد يقود خروج بريطانيا إلى تعقيد العلاقة مع جيرانها، فربما تغلق إسبانيا حدودها مع جبل
طارق الذي تبلغ مساحته 6 كيلومترات، والملتصق بإقليم الأندلس، حيث يعيش 33 ألف بريطاني. وفي الشمال، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إقامة حدودٍ بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا؛ ما يؤثر في حركة الأفراد. وقد بدأت الشكوك تتنامى حول مستقبل المملكة المتحدة وقدرتها على البقاء دولةً موحدةً بعد أن تعالت أصواتٌ تطالب بإعادة طرح مسألة استقلال إسكتلندا؛ إذ يسعى دعاة استقلالها إلى بقائها عضواً في الاتحاد الأوروبي. وجاء التوجه هذا عبر رئيسة وزراء إسكتلندا، نيكولا سترجن، التي رأت أنّ تنظيم استفتاء جديد حول استقلال إسكتلندا بات مرجحاً جدًا، لأنها لا تريد أن يصبح الإسكتلنديون خارج الاتحاد الأوروبي رغمًا عنهم، بوصف أكثريتهم صوّتت لمصلحة البقاء فيه.
سوف تدفع هذه التداعيات بريطانيا إلى البحث عن بدائل لممارسة تأثيرها في الساحة الدولية، ولا سيما في حلف شمال الأطلسي والدول الصناعية السبع الكبرى، وخصوصاً بعد أن خرجت روسيا منها.
تداعيات على الاتحاد الأوروبي
أما تداعيات خروج بريطانيا على مستوى الاتحاد الأوروبي، فيُرجّح أن تكون كبيرة أيضاً، على الرغم من محاولات احتوائها، فمع خروجها سيفقد الاتحاد الأوروبي 12.5 في المئة من سكانه، وقرابة 15 في المئة من قوة اقتصاده، كما أنه سيستغني عن قوةٍ عسكريةٍ ذات تأثير مهم في الأمن الأوروبي. وفيما يتعلق بعملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، فإنّ خروج بريطانيا سوف يستدعي إعادة النظر في آليات اتخاذ القرار داخل مؤسسات الاتحاد؛ إذ سوف يؤدي خروجها إلى فقدان 29 من الأصوات في مجلس الوزراء الأوروبي، وكذلك 73 مقعدًا في البرلمان الأوروبي (8.5 في المئة من الوزن النسبي للتصويت)؛ ما يتطلب إعادة تحديد الحد الأدنى للأغلبية المؤهلة، الأمر الذي سيؤدي، حتماً، إلى تغيّرٍ في توازن القوى لمصلحة الدول الكبرى التي تمتلك تمثيلاً أكبر في مؤسسات الاتحاد في عملية صنع القرار الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا).
كما أنّ غياب بريطانيا، دولةً غير عضو في منطقة اليورو، سيغيّر من طبيعة العلاقة بين أعضاء منطقة اليورو (19 دولة) والدول الأوروبية غير الأعضاء في منطقة اليورو (8 دول) لمصلحة التركيز أكثر على منطقة اليورو، بوصفها محركاً لمزيد من الاندماج الأوروبي في المستقبل.
ومن الناحية الإستراتيجية، سيؤدي خروج بريطانيا إلى زيادة الضغوط على المحور الألماني - الفرنسي لزيادة إنفاقهما العسكري، بهدف احتواء تأثير الغياب البريطاني على السياسة الدفاعية والأمنية الأوروبية. كما تتنامى الخشية الأوروبية من انتشار عدوى الاستفتاءات في أوروبا، بما يدفع الأحزاب اليمينية إلى المطالبة بأن تحذو حذو بريطانيا، وخصوصاً في الدول التي تعاني أزمات اقتصادية (اليونان، إسبانيا، المجر، إيطاليا). سيهدّد هذا الأمر عملية التكامل برمتها، ويفاقم من حدة الشكوك حول قدرة الاتحاد على الصمود.
لندن وبروكسل: سيناريوهات محتملة
بعد قرار بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي، يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات محتملة
لتحديد العلاقة بين الطرفين، ويمكن التوصل إليها في المفاوضات المتوقع أن تبدأ في الأسابيع المقبلة، لتنظيم عملية خروج بريطانيا. يتمثل الأول فيما يعرف بالخيار النرويجي؛ بمعنى أن تغادر بريطانيا النادي الأوروبي، مع بقائها في المنطقة الاقتصادية الأوروبية؛ ما يمنحها حق الانضمام إلى السوق الأوروبية الموحدة. ولكن، مع تحريرها من قواعد الاتحاد الأوروبي الخاصة بالسياسات الزراعية ومسائل العدالة والشؤون الداخلية وغيرها.
السيناريو الثاني يتمثل بالنموذج السويسري؛ فسويسرا ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، لكنها تتفاوض معه على اتفاقيات تجارية على أساس قطاعي، أي أن تحظى بحق الدخول المباشر إلى السوق الأوروبية الموحدة من خلال اتفاقيات ثنائية متنوعة. لكنّ هذا السيناريو يعني أن تضطر بريطانيا إلى إعادة التفاوض على اتفاقياتٍ ثنائية متعدّدة مع الاتحاد الأوروبي، على غرار سويسرا التي فاوضت الاتحاد تسع سنوات، لتوقيع 120 اتفاقية تضمن لها الدخول إلى سوق الاتحاد الأوروبي، وتشارك بشكل كامل في السوق الموحدة مقابل تطبيق داخلي لقواعد الاتحاد الأوروبي.
السيناريو الثالث، وهو الأقل ترجيحًا، هو النموذج التركي، بحيث تبرم بريطانيا اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، من دون السماح لمواطنيها التنقّل بحرية داخل الاتحاد الأوروبي.
خاتمة
وضع قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي مستقبل نموذج الاندماج الدولي موضع تساؤل كبير، إذ كان الاتحاد يوصف، حتى وقت قريب، بالأكثر نجاحاً. كما وضع صنّاع القرار والمؤسسات الأوروبية أمام واقعٍ جديدٍ يتطلب إعادة النظر في أسباب تراجع الحماس لفكرة الاندماج الأوروبية والعودة للاحتماء بالدولة الوطنية التي يبدو أن بعضهم بالغ في توقّع قدرة أوروبا على تجاوزها، والانتقال نحو هويةٍ أوروبية فوق-وطنية، تمثل مدخلاً للتغلب على تحدياتٍ وصراعاتٍ كثيرة واجهتها على مدى قرون. سوف تواجه بريطانيا، في المستقبل، مشكلة تعريف هويتها من جديد؛ فليست العودة إلى هوية بريطانيا ما قبل الانضمام للاتحاد الأوروبي ممكنة، ولا سيما مع الأسئلة التي تثيرها أسكتلندا وإيرلندا الشمالية، وإذا لم تنجح في إعادة صوغ هويتها، قد تجد نفسها في مواجهة تهديداتٍ فعلية لكيانها كمملكة متحدة. كما أنّ الانقسام بين "العمال" و"المحافظين" قد لا يبقى الانقسام السياسي الوحيد، إذ أظهر الاستفتاء وجود انقساماتٍ على أسسٍ جديدة، ليس الاستقطاب الجيلي أقلها أهمية.
أثارت نتائج الاستفتاء حالةً من الذعر في الأوساط المالية والسياسية الأوروبية والعالمية، كما مثلت تحدياً لعملية التكامل والاندماج الأوروبي، وهدّدت بتداعياتٍ سياسية واقتصادية ومالية كبيرة على بريطانيا، وعلى الاتحاد الأوروبي الذي فقد عضوية دولةٍ أساسيةٍ فيه. وطُرحت أسئلةٌ حول شكل العلاقة المستقبلية التي ستربط ثاني اقتصاد في القارة الأوروبية وخامس اقتصاد في العالم بالاتحاد الأوروبي، وتأثير خروجه في مستقبل الاتحاد، وقدرته على الاستمرار، بعد أن أخذت أصواتٌ تتعالى، في دول أوروبية أخرى، تطالب بالاستفتاء مثل البريطانيين.
العلاقات البريطانية -الأوروبية: انعدام الثقة
تميزت العلاقة البريطانية -الأوروبية قبل الاستفتاء البريطاني بحالة يمكن وصفها بـ "عدم الارتياح المتبادل"، القائمة على تاريخٍ طويلٍ من عدم الثقة، وعدم الانسجام في التوجهات والرؤى بين بريطانيا والجماعة الأوروبية، ووخصوصاً مع الدولتين الكبيرتين في الاتحاد؛ ألمانيا وفرنسا. ولم تكن بريطانيا متحمسة يوماً لعملية التكامل والاندماج الأوروبي؛ إذ لم تكن بين الدول الست التي وقعت على اتفاقية روما لتأسيس المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1957 (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، ولوكسمبورغ)، بل نأت بنفسها عنها، وتأخر انضمامها إليها حتى عام 1973 بعد أن عارضت فرنسا طلب انتسابها مرتين. كما عرقل الموقف البريطاني استكمال الاندماج الأوروبي في عدة مناسبات، ولطالما اعتبرت بريطانيا نفسها، ولا سيما المحافظين فيها، دولةً أطلسيةً أكثر منها أوروبية، متّخذة سياسة اقتصادية وخارجية أكثر قرباً من الولايات المتحدة. لكن ذلك لم يمنعها من التطلع إلى تحقيق مصالح كبرى، سياسية واقتصادية، من خلال الانضمام للنادي الأوروبي من ناحية، والاستمرار في تأدية دورها التاريخي في منع هيمنة فرنسية -ألمانية مشتركة على القرار الأوروبي، من ناحية أخرى.
ومنذ التوقيع على اتفاقية ماستريخت المؤسِّسة للاتحاد الأوروبي عام 1992، تعالت في
تداعيات على بريطانيا
عندما وعد كاميرون بإجراء استفتاء حول عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي، بدا واثقاً من قدرة حكومته على إقناع البريطانيين باختيار البقاء، إلا أنّ جملة عوامل تفاعلت، خلال السنوات الأخيرة، وأدت إلى نتائج مغايرة، فقضية الهجرة واللجوء واستئثار قوة العمل القادمة من دول أوروبا الشرقية الأعضاء بفرص عمل البريطانيين، فضلاً عن صعود قوى اليمين، كلها أدت دوراً رئيساً في دفع جزءٍ كبيرٍ من البريطانيين إلى التصويت لمصلحة العزلة والانكفاء.
مثّلت نتائج الاستفتاء صدمةً بالنسبة لكثيرين، وبدأت تداعيات الخروج تتفاعل على المستوى الاقتصادي، فور صدور النتائج؛ إذ فقدت العملة البريطانية أكثر من 10% من قيمتها في يوم واحد، بينما شهدت أسواق الأسهم والسندات والبورصات الأوروبية، خصوصاً بورصة لندن، حالة من الفوضى بعد إعلان نتائج الاستفتاء.
وتراوحت التوقعات بين احتمال حصول هجرة واسعة لرؤوس الأموال وعزوفٍ عن الاستثمار في قطاع العقارات والخدمات المزدهر في لندن، واحتمال انتقال العاصمة المالية للاتحاد الأوروبي، من لندن إلى باريس أو إلى فرانكفورت، حيث مقر البنك المركزي الأوروبي، فضلاً عن مسارعة وكالات التصنيف العالمية إلى إعادة النظر في التصنيف الائتماني السيادي لبريطانيا. ويمكن توقّع التأثير السلبي المحتمل في الاقتصاد البريطاني نتيجة قرار الخروج أكثر، إذا عرفنا أنّ الاتحاد الأوروبي يعدّ شريك بريطانيا التجاري الأول؛ إذ بلغت صادرات المملكة المتحدة إليه في عام 2015 ما نسبته 44 في المئة من إجمالي صادراتها، علماً أن الميزان التجاري بين الطرفين يميل لمصلحة الاتحاد الأوروبي، ولا يبدو أنّ ثمة مصلحة له بالتنازل عن ذلك، حتى بعد الانفصال.
ومن المتوقع أيضًا أن تكون هناك تداعيات كبيرة متعلقة بحُرّية تنقّل الرعايا البريطانيين داخل الاتحاد الأوروبي، إذ يوجد نحو 1.26 مليون بريطاني يعيشون في دول أوروبية، بينها إسبانيا (381 ألفًا) وإيرلندا (253 ألفًا) وفرنسا (172 ألفاً) وألمانيا (96.9 ألفاً) وإيطاليا (72.23 ألفًا). كما كانت عضوية الاتحاد الأوروبي تمكّن المواطن البريطاني من التنقّل بحرية، والعمل داخل دول الاتحاد الأوروبي من دون الحاجة إلى تصريحٍ خاص، أما الآن، فسوف يحتاج إلى تأشيرة دخولٍ لزيارتها، بالإضافة إلى تكبّد أعباء مالية إضافية للسفر. وفضلاً عن ذلك، هناك شكوك وتساؤلات حول مصير موظفين بريطانيين كثيرين يعملون في مؤسسات أوروبية، وخصوصاً في بروكسل.
كما قد يقود خروج بريطانيا إلى تعقيد العلاقة مع جيرانها، فربما تغلق إسبانيا حدودها مع جبل
سوف تدفع هذه التداعيات بريطانيا إلى البحث عن بدائل لممارسة تأثيرها في الساحة الدولية، ولا سيما في حلف شمال الأطلسي والدول الصناعية السبع الكبرى، وخصوصاً بعد أن خرجت روسيا منها.
تداعيات على الاتحاد الأوروبي
أما تداعيات خروج بريطانيا على مستوى الاتحاد الأوروبي، فيُرجّح أن تكون كبيرة أيضاً، على الرغم من محاولات احتوائها، فمع خروجها سيفقد الاتحاد الأوروبي 12.5 في المئة من سكانه، وقرابة 15 في المئة من قوة اقتصاده، كما أنه سيستغني عن قوةٍ عسكريةٍ ذات تأثير مهم في الأمن الأوروبي. وفيما يتعلق بعملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، فإنّ خروج بريطانيا سوف يستدعي إعادة النظر في آليات اتخاذ القرار داخل مؤسسات الاتحاد؛ إذ سوف يؤدي خروجها إلى فقدان 29 من الأصوات في مجلس الوزراء الأوروبي، وكذلك 73 مقعدًا في البرلمان الأوروبي (8.5 في المئة من الوزن النسبي للتصويت)؛ ما يتطلب إعادة تحديد الحد الأدنى للأغلبية المؤهلة، الأمر الذي سيؤدي، حتماً، إلى تغيّرٍ في توازن القوى لمصلحة الدول الكبرى التي تمتلك تمثيلاً أكبر في مؤسسات الاتحاد في عملية صنع القرار الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا).
كما أنّ غياب بريطانيا، دولةً غير عضو في منطقة اليورو، سيغيّر من طبيعة العلاقة بين أعضاء منطقة اليورو (19 دولة) والدول الأوروبية غير الأعضاء في منطقة اليورو (8 دول) لمصلحة التركيز أكثر على منطقة اليورو، بوصفها محركاً لمزيد من الاندماج الأوروبي في المستقبل.
ومن الناحية الإستراتيجية، سيؤدي خروج بريطانيا إلى زيادة الضغوط على المحور الألماني - الفرنسي لزيادة إنفاقهما العسكري، بهدف احتواء تأثير الغياب البريطاني على السياسة الدفاعية والأمنية الأوروبية. كما تتنامى الخشية الأوروبية من انتشار عدوى الاستفتاءات في أوروبا، بما يدفع الأحزاب اليمينية إلى المطالبة بأن تحذو حذو بريطانيا، وخصوصاً في الدول التي تعاني أزمات اقتصادية (اليونان، إسبانيا، المجر، إيطاليا). سيهدّد هذا الأمر عملية التكامل برمتها، ويفاقم من حدة الشكوك حول قدرة الاتحاد على الصمود.
لندن وبروكسل: سيناريوهات محتملة
بعد قرار بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي، يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات محتملة
السيناريو الثاني يتمثل بالنموذج السويسري؛ فسويسرا ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، لكنها تتفاوض معه على اتفاقيات تجارية على أساس قطاعي، أي أن تحظى بحق الدخول المباشر إلى السوق الأوروبية الموحدة من خلال اتفاقيات ثنائية متنوعة. لكنّ هذا السيناريو يعني أن تضطر بريطانيا إلى إعادة التفاوض على اتفاقياتٍ ثنائية متعدّدة مع الاتحاد الأوروبي، على غرار سويسرا التي فاوضت الاتحاد تسع سنوات، لتوقيع 120 اتفاقية تضمن لها الدخول إلى سوق الاتحاد الأوروبي، وتشارك بشكل كامل في السوق الموحدة مقابل تطبيق داخلي لقواعد الاتحاد الأوروبي.
السيناريو الثالث، وهو الأقل ترجيحًا، هو النموذج التركي، بحيث تبرم بريطانيا اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، من دون السماح لمواطنيها التنقّل بحرية داخل الاتحاد الأوروبي.
خاتمة
وضع قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي مستقبل نموذج الاندماج الدولي موضع تساؤل كبير، إذ كان الاتحاد يوصف، حتى وقت قريب، بالأكثر نجاحاً. كما وضع صنّاع القرار والمؤسسات الأوروبية أمام واقعٍ جديدٍ يتطلب إعادة النظر في أسباب تراجع الحماس لفكرة الاندماج الأوروبية والعودة للاحتماء بالدولة الوطنية التي يبدو أن بعضهم بالغ في توقّع قدرة أوروبا على تجاوزها، والانتقال نحو هويةٍ أوروبية فوق-وطنية، تمثل مدخلاً للتغلب على تحدياتٍ وصراعاتٍ كثيرة واجهتها على مدى قرون. سوف تواجه بريطانيا، في المستقبل، مشكلة تعريف هويتها من جديد؛ فليست العودة إلى هوية بريطانيا ما قبل الانضمام للاتحاد الأوروبي ممكنة، ولا سيما مع الأسئلة التي تثيرها أسكتلندا وإيرلندا الشمالية، وإذا لم تنجح في إعادة صوغ هويتها، قد تجد نفسها في مواجهة تهديداتٍ فعلية لكيانها كمملكة متحدة. كما أنّ الانقسام بين "العمال" و"المحافظين" قد لا يبقى الانقسام السياسي الوحيد، إذ أظهر الاستفتاء وجود انقساماتٍ على أسسٍ جديدة، ليس الاستقطاب الجيلي أقلها أهمية.