02 ابريل 2021
المسيحيون العرب... الحضور الفاعل ماضياً وحاضراً
"لبنان آخر معقل لمسيحيي المشرق العربي، ففي هذا البلد الصغير وحده، يتمسّك المسيحيون بأرضهم وبإيمانهم بكنيستهم بقوة وحرية، حتى الآن".
هذا ما قاله، قبل أيام، أدريان جولمس، كبير محرري مجلة لوفيغارو الفرنسية. وأردف عن لسان الأب الماروني راي جبر معوض، يقول "استقر الموارنة في منطقة جبل لبنان، وكان لهم الحق في حمل الأسلحة وركوب الخيل، ونالوا بالتدريج استقلالهم، حتى أنشأوا نواةً لدولةٍ أصبحت حقيقةً واقعةً عند إنشاء لبنان الكبير في العام 1920. إنها ظاهرة فريدة من نوعها تشرح الاستثناء المسيحي الذي لا يزال في لبنان، وعلى الرغم من التمدّد الديمغرافي والسياسي للمسلمين؛ فشرائعهم الدينية لا تزال مزدهرة، وشكّلوا طبقةً وسطى مثقفةً ساعدت على بناء هذا البلد".
وينتهي كلام الكاتب الفرنسي، على طريقة الأعم الأغلب من كتّاب أوروبا والغرب ممن خوّضوا في تاريخ بلادنا بنوعٍ من التشكيك الحضاري بالشخصية العربية، مسيحيةً كانت أم مسلمة؟
والحقيقة أن مسيحيي لبنان، والمنطقة العربية برمتها، كانوا تعرّضوا لظلم وقهر وعنف وحروب وهجرات قسرية ممنهجة عدّة في تاريخهم الحديث (فضلاً عن تاريخهم القديم في المنطقة العربية برمتها) خصوصاً في فلسطين والعراق، لكنهم صمدوا في أرضهم، وإن قلّ عددهم بحدود غير مسبوقة.
وفي الوقت الذي يُبدي فيه أدريان جولمس حرصاً وتضامناً مع مسيحيي لبنان، واستطراداً نصارى العرب كافة من بعدهم، ويُحمّل ضمناً مسؤولية تهجيرهم لأبناء جلدتهم من المسلمين، ينسى أو يتناسى هذا الكاتب مثلاً ما فعلته وتفعله إسرائيل بمسيحيي القدس مثلاً، في إصرارها التلمودي على جعل مدينتنا المقدسة "عاصمةً أبدية" لها؛ وتبديد أهلنا المقدسيين بالتدريج، وتحويل مدينتهم من مدينة عربية إسلامية - مسيحية إلى مدينةٍ يهودية. فبحسب إحصاء العام 1922 كان عدد المسيحيين في القدس نحو 14700 نسمة؛ ثم هبط عددهم إلى 27 ألف نسمة في العام 1947، بسبب الأوضاع العسكرية والأمنية في فلسطين المحتلة، عشية صدور قرار التقسيم في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني1947. أما في العام 2000 فقد انخفض تعداد المسيحيين، ليصير أقل من 8000 نسمة. أما اليوم، فلا يتجاوز عدد المقدسيين المسيحيين الـ 2230 نسمة... فهل أسباب الهجرة تعود هنا إلى الفلسطينيين أنفسهم و"النزاعات الحادة" في ما بينهم، سياسياً وأمنياً، وأن الإسرائيلي، مثلاً، لا دخل له بالموضوع، فهو "يعود إلى أرض آبائه وأجداده التي هُجّر منها منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، على حدّ مزاعم "الباحث" الإسرائيلي، داود كريم عزقولي، الذي يضيف "نحن نحرّر أرضنا ونستعيد مدينتنا التاريخية من مغتصبيها، وعلى العالم أن يقف معنا في معركة الحرية هذه".
ثم نسأل هذا الفرنسي الغيور على المسيحيين العرب، وهذه المرة على لسان الأب إلياس
زحلاوي، وهو رجل دين عربي من سورية، وخبير بمسيحيي المنطقة العربية وتاريخها: كيف للغرب أن ينسى أو يتناسى ما قام في قلبه طوال قرون من حروبٍ دينيةٍ طاحنة، بين مسيحييه، في وقت كان فيه غير المسلمين في الشرق، من مسيحيين ويهود، ينعمون بعيش هانئ نسبياً، لم ينشب خلاله اضطهاد رسميٌّ قط باسم الدين؟
وهل للغرب أن ينسى أو يتناسى ما جرّه على الشرق كله، بسبب الحملات التي سمّاها بحق جميع المؤرخين العرب آنذاك "حروب الفرنجة" من ويلاتٍ ودمارٍ وأحقادٍ، تنسحب تبعاتها إلى اليوم، ضربت في الصميم العلاقات بين بعض سكانه، وحاولت اقتلاع الكنائس الوطنية من أجل استبدالها بكنائس غربيّة دخيلة في كل من القدس وأنطاكية والقسطنطينية؟
ثم هل للغرب أن ينسى أو يتناسى مجيء المبشّرين الغربيين إلى صلب الكنائس المسيحية الشرقية مع "حملات الفرنجة" أولاً، ثم إثر معاهدة الامتيازات التي اتفق عليها في العام 1535، بين ملك فرنسا فرنسوا الأول وسلطان القسطنطينية سليمان الثاني؟ وكان أن انتهى الأمر بالمبشّرين الغربيين إلى إحداث انقسامٍ في جميع الكنائس الوطنية الشرقية القائمة، إلى كنيستين وفق ولائهما للشرق أو لروما، كنيستين بينهما من العلاقات، في العمق، ما بين الأم وابنها العاق!
وهل للغرب أن ينسى، أو يتناسى، ما جرّ ويجرّ على الشرق كله من ويلاتٍ وأزماتٍ يوم وعد في غير حق اليهود بوطن قومي لهم، فلسطين، وما فرضه، تمهيداً لهذا الوعد، وتنفيذاً له، من تمزيقٍ للشرق كله، يتواصل من دون هوادةٍ من أجل إنشاء دويلاتٍ طائفيةٍ، سوف لن تقوم لها قائمة إلّا إثر حروب دينية دامية؟ وليس من يجهل أن ذلك التمزيق الغربي للشرق قد تراوح، أولاً، بين نجاح وفشل، إثر فرض الانتداب الأول في العام 1920، كما تراوح أيضاً وثانياً بين نجاح وفشل في لبنان خلال الحرب الأهلية التي دامت 15 سنة.. فيما يبذل اليوم المستحيل ليحقق نجاحاً نهائياً وحاسماً بفضل ما سميّ "الحرب على الإرهاب".
ملح لبنان والعرب
لعل أجمل توصيف قيل في حقّ مسيحيي لبنان والوطن العربي، ما ساقه مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ عبد اللطيف دريان، على هامش مشاركته في افتتاح إحدى الصروح الكنسيّة الكبرى في لبنان: "أيها المسيحيون، أنتم ملح لبنان والعرب". ومفتي لبنان أكثر من محق في ذلك، لأسباب كثيرة، لعل أهمها أن المسيحيين العرب هم الذين أسهموا في النهضة العربية الحديثة، فكانوا أول من أدخل المطبعة إلى المنطقة العربية، من خلال "مطبعة دير مار قزحيا في لبنان في العام 1584"، ثم مطبعة حلب في العام 1706، وساعدوا، منذ منتصف القرن التاسع عشر، على نشر التعليم وتأسيس المدارس العربية، وطالبوا بتعريب التعليم والقضاء في البلدان العربية، وإحياء اللغة العربية؛ وشاركوا في نقل مفاهيم النهضة الأوروبية، والدولة الحديثة، إلى العرب، كمفاهيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والحق بالتعليم وتحديث الدولة، وأدّوا، بانتمائهم القومي، كل ما يمليه عليهم الواجب القومي وأكثر. وهنا نستذكر، مثالاً لا حصراً، المعلّم الكبير بطرس البستاني الذي كان يفخر بالحضارة العربية، ويؤمن بعروبة جميع الناطقين بالعربية: "ألا تشربون كلكم من الماء نفسها؟ ألا تتنفّسون كلكم الهواء نفسه؟. وكان ينادي بالوحدة الوطنية، وهو صاحب الشعار الشهير: "حب الوطن من الإيمان". ودعا إلى تعليم العلوم الحديثة، "فلا يمكن أن ينهض الشرق من دون الاطّلاع على على حضارة أوروبا وعلومها"؛ وعمل لنشر مبدأ العدالة، وفصل السلطات في الدولة، وإدخال التعليم الإلزامي، وألّف "القاموس المحيط"، ثم بدأ تأليف "دائرة المعارف"، وأنشأ صحفاً عدة، من أبرزها "الجنان" و"الجنينة"، وافتتح مدارس على أسسٍ قوميةٍ عروبيةٍ طلابها مسلمون ومسيحيون، وأسهم في إحياء التراث العربي.
ولا تريد هذه المطالعة أن نذهب أكثر في إيراد الأمثلة على دور المسيحيين العرب وإسهامات
رجالاتهم العظيمة في النهضة العربية؛ فهم كثر، وعلى الصعد كافة. لكن، ما تود التأكيد عليه أن المسيحيين النهضوييين العرب لا يمنّنون أحداً في ما قاموا به، وتحمّلوا مسؤوليته، لا لشيء، إلّا لأنهم جزء من هذه الأمة العربية، وهذا المجتمع العربي عبر تاريخه الطويل، لا بل إنهم أبناء المنطقة الأكثر تجذّراً وأصالةً من كثرة كاثرة من المسلمين وفدت إليها لاحقاً.
والتاريخ العربي نفسه، عبر دوراته الحضارية القديمة والجديدة، لم يفصل ألبتة بين العرب المسيحيين والمسلمين، اللهم إلا حينما بدأ الاستعمار الغربي يستغلّ المسألة الدينية، بغية شقّ الصفوف الواحدة والمتجانسة، ثقافياً وحضارياً؛ واتكأ بذلك على فئةٍ قليلةٍ من الطرفين، الإسلامي والمسيحي، لتساعده في إكمال مهمته الظلامية هذه، وحراسة السخف المدمّر لهذه القيمة المجتمعية الحضارية التي رعى العرب تساميها فيهم، بالفطرة حيناً، وباللاشعور الدفين على نوعيه: الشخصي والآخر الجمعي الموروث حيناً آخر.
وبالعودة إلى وقائع التاريخ، نقرأ مثلاً، إنه حين خرج العرب من الجزيرة العربية، وهم يحملون رسالة الإسلام، حارب عرب الحيرة المسيحيون مع إخوانهم العرب المسلمين ضد الإمبراطورية الفارسية القديمة، وكان فكرهم وخيالهم وانتماؤهم واحداً موحّداً بذلك. والأمر عينه قام به عرب الغساسنة النصارى، إذ قاتلوا مع عرب الجزيرة من المسلمين ضد الإمبراطورية البيزنطية، وكان الجميع أمام الخطر الخارجي، هوية مجتمعية واحدة، اتجهت حركتها من الأجزاء إلى الكل، والعكس صحيح أيضاً.
وحين قامت قيامة حروب الفرنجة التي استمرت قروناً على الأرض العربية، قام أبناء الكنيسة العربية بمؤازرة أشقائهم العرب المسلمين في صدّ هذه الهجمات الاستعمارية الأوروبية البربرية، فعوملوا بتنكيلٍ أشدّ وأقسى من نظرائهم المسلمين، إذ عمد الإفرنج إلى حرق كنائسهم وقراهم وبيوتهم وأرزاقهم.. وإبادة كل من وصلت إليه سيوفهم.
في الخليج العربي
تذكر المصادر التاريخية أن العرب عرفوا الديانة المسيحية منذ سنواتها الأولى، وآمن بعضهم بها كما آمن غيرهم، ونهلوا من ثقافتها الروحية، وشاركوا في مجمّعاتها وحراكها ومناقشاتها اللاهوتية، وقادوا تياراتٍ انشقاقية على التيارات المسيحية الأقرب للسلطة البيزنطية، وتبنّوا مواقف لاهوتية مختلفة من طبيعة المسيح، وكانوا من أهم أصحاب الطبيعة الواحدة (اليعاقبة) كالغساسنة وأصحاب الطبيعتين (النساطرة) كالمناذرة، وقلّة منهم كانوا من الملكيين المقربين من روما. ولم يكن انشقاقهم يخلو من أسبابٍ سياسية، حيث كانت بلاد الشام تحت الحكم البيزنطي.
ويؤكد الوجود العربي في قلب الديانة المسيحية ما جاء في أعمال الرسل "كريتيون وعرب
نسمعهم يتكلمون بعظائم الله"؛ و"أن في يوم العنصرة كان يوجد في مدينة أورشليم عرب" ( أعمال الرسل ½). وفي الوقت نفسه، تؤكد المصادر التاريخية أن الأساقفة العرب شاركوا في المجمّعات المسيحية الرئيسة الثلاثة (نيقيا 325م، أفسس 430م، خلقيدونية 451م)، وأنهم انشقوا أكثر من مرة، ورفضوا، في الأغلب الأعم، الهيمنة البيزنطية وتعاليم كنيستها.
سكن العرب بلاد الشام قبل الإسلام بمدة طويلة، منذ القرن الثاني الميلادي (رينيه داسو). ومن القبائل العربية في سورية وبين النهرين تنوخ (قنسرين) التي تنصرّت، ثم تغلبت عليها سليح وتنصّرت أيضاً (المسعودي). ومن القبائل النصرانية أيضاً بكر (ديار بكر غرب دجلة) وربيعة (من الموصل إلى رأس العين) ومُضر (شرقي الفرات، حرّان والرقة) (ياقوت معجم البلدان)، ومنها تغلب ( قيل: لو تباطأ الإسلام لأكلت تغلب العرب)؛ وكانت تنتشر، حتى في عمق الجزيرة، وبنو كلب (غرب الفرات) وتميم (حرّان) وبنو سليم (الرها) وكِنانة (حماة) وإياد (السواد) وغيرهم.. وغيرهم.
وعلى العموم، كان عرب بلاد الشام يدينون بالنصرانية، وسكن الغساسنة منهم جنوب سورية، والمناذرة سكنوا جنوب العراق.
وفي الجزيرة العربية، كانت المسيحية منتشرة، جزئياً أو كلياً، بين قبائل "طي" و"تغلب" و"ذبيان" و"إياد" وغيرها. وكان القسس والرهبان يرِدون أسواق العرب، ويعظون ويبشرون ويذكرون بيوم البعث والحساب، والجنة والنار. وقد وردت في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة تحكي أقوالهم وتفنّد مذاهبهم، ما يدلّ على انتشار هذه التعاليم بينهم.
وفي الإجمال، انتشرت النصرانية بين قبائل نجد والحجاز، فكان نصارى في بني شيبان، ومنهم النابغة الذبياني، وكانوا في إياد، ومنهم قسّ بن ساعدة الأيادي: ويقال إنه كان أسقف نجران، وهو أول من قال:"أما بعد..."، وأول من قال كذلك: "البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر". وكان خطيب العرب الذي أشاد فيه الرسول محمد (ص).
وتنصّر من العرب قومٌ من قريش من بني أسد بن عبد العزي، ومنهم ورقة بن نوفل بن أسد. ومن بني ثقيف كان تنصّر أميّة بن أبي السلط. ومن طيء تنصّر عدي بن حاتم الطائي، والذي يقال إنه "قابل الرسول وصليبه على صدره".
وانتشرت النصرانية في نجران، حيث عرفت كنيستها بـ"كعبة نجران"؛ وهناك كنيسة "القليس" في صنعاء.. وكنائس أخرى في مأرب وظفار. وكانت الأديرة تمتد على طول طريق مكة دمشق، ومكة العراق، ومكة ظفار.. وصنعاء... إلخ. حيث كان الدير، في ذلك الوقت، بمثابة مكان للاستراحة والتعبّد والتثقف الديني والشعري والأدبي.
بعد هذا كله، تجد في أوروبا وخارجها (وحتى في بلداننا العربية) من يحدّثك عن المسيحيين وكأنهم دخلاء على أمة العرب، وأنهم، مثلاً، من أصولٍ غير عربية، وبالتالي، فهم من خارج المنطقة العربية وهويّتها وانتمائها وحضارتها الفاعلة والمتفاعلة في آن.
ذات يوم سألت صديقي المطران الراحل سليم غزال، مطران صيدا وجوارها، أو"مطران المسلمين قبل المسيحيين"، كما كان يحبّ أن يردّد دائماً: هل أنت خائفٌ على هجرة، بل انقطاع نسل المسيحيين في لبنان والمشرق العربي؟ أجابني من فوره وبهدوء عميق: "المسيحيون اللبنانيون والعرب متجذّرون في أوطانهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها".
هذا ما قاله، قبل أيام، أدريان جولمس، كبير محرري مجلة لوفيغارو الفرنسية. وأردف عن لسان الأب الماروني راي جبر معوض، يقول "استقر الموارنة في منطقة جبل لبنان، وكان لهم الحق في حمل الأسلحة وركوب الخيل، ونالوا بالتدريج استقلالهم، حتى أنشأوا نواةً لدولةٍ أصبحت حقيقةً واقعةً عند إنشاء لبنان الكبير في العام 1920. إنها ظاهرة فريدة من نوعها تشرح الاستثناء المسيحي الذي لا يزال في لبنان، وعلى الرغم من التمدّد الديمغرافي والسياسي للمسلمين؛ فشرائعهم الدينية لا تزال مزدهرة، وشكّلوا طبقةً وسطى مثقفةً ساعدت على بناء هذا البلد".
وينتهي كلام الكاتب الفرنسي، على طريقة الأعم الأغلب من كتّاب أوروبا والغرب ممن خوّضوا في تاريخ بلادنا بنوعٍ من التشكيك الحضاري بالشخصية العربية، مسيحيةً كانت أم مسلمة؟
والحقيقة أن مسيحيي لبنان، والمنطقة العربية برمتها، كانوا تعرّضوا لظلم وقهر وعنف وحروب وهجرات قسرية ممنهجة عدّة في تاريخهم الحديث (فضلاً عن تاريخهم القديم في المنطقة العربية برمتها) خصوصاً في فلسطين والعراق، لكنهم صمدوا في أرضهم، وإن قلّ عددهم بحدود غير مسبوقة.
وفي الوقت الذي يُبدي فيه أدريان جولمس حرصاً وتضامناً مع مسيحيي لبنان، واستطراداً نصارى العرب كافة من بعدهم، ويُحمّل ضمناً مسؤولية تهجيرهم لأبناء جلدتهم من المسلمين، ينسى أو يتناسى هذا الكاتب مثلاً ما فعلته وتفعله إسرائيل بمسيحيي القدس مثلاً، في إصرارها التلمودي على جعل مدينتنا المقدسة "عاصمةً أبدية" لها؛ وتبديد أهلنا المقدسيين بالتدريج، وتحويل مدينتهم من مدينة عربية إسلامية - مسيحية إلى مدينةٍ يهودية. فبحسب إحصاء العام 1922 كان عدد المسيحيين في القدس نحو 14700 نسمة؛ ثم هبط عددهم إلى 27 ألف نسمة في العام 1947، بسبب الأوضاع العسكرية والأمنية في فلسطين المحتلة، عشية صدور قرار التقسيم في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني1947. أما في العام 2000 فقد انخفض تعداد المسيحيين، ليصير أقل من 8000 نسمة. أما اليوم، فلا يتجاوز عدد المقدسيين المسيحيين الـ 2230 نسمة... فهل أسباب الهجرة تعود هنا إلى الفلسطينيين أنفسهم و"النزاعات الحادة" في ما بينهم، سياسياً وأمنياً، وأن الإسرائيلي، مثلاً، لا دخل له بالموضوع، فهو "يعود إلى أرض آبائه وأجداده التي هُجّر منها منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، على حدّ مزاعم "الباحث" الإسرائيلي، داود كريم عزقولي، الذي يضيف "نحن نحرّر أرضنا ونستعيد مدينتنا التاريخية من مغتصبيها، وعلى العالم أن يقف معنا في معركة الحرية هذه".
ثم نسأل هذا الفرنسي الغيور على المسيحيين العرب، وهذه المرة على لسان الأب إلياس
وهل للغرب أن ينسى أو يتناسى ما جرّه على الشرق كله، بسبب الحملات التي سمّاها بحق جميع المؤرخين العرب آنذاك "حروب الفرنجة" من ويلاتٍ ودمارٍ وأحقادٍ، تنسحب تبعاتها إلى اليوم، ضربت في الصميم العلاقات بين بعض سكانه، وحاولت اقتلاع الكنائس الوطنية من أجل استبدالها بكنائس غربيّة دخيلة في كل من القدس وأنطاكية والقسطنطينية؟
ثم هل للغرب أن ينسى أو يتناسى مجيء المبشّرين الغربيين إلى صلب الكنائس المسيحية الشرقية مع "حملات الفرنجة" أولاً، ثم إثر معاهدة الامتيازات التي اتفق عليها في العام 1535، بين ملك فرنسا فرنسوا الأول وسلطان القسطنطينية سليمان الثاني؟ وكان أن انتهى الأمر بالمبشّرين الغربيين إلى إحداث انقسامٍ في جميع الكنائس الوطنية الشرقية القائمة، إلى كنيستين وفق ولائهما للشرق أو لروما، كنيستين بينهما من العلاقات، في العمق، ما بين الأم وابنها العاق!
وهل للغرب أن ينسى، أو يتناسى، ما جرّ ويجرّ على الشرق كله من ويلاتٍ وأزماتٍ يوم وعد في غير حق اليهود بوطن قومي لهم، فلسطين، وما فرضه، تمهيداً لهذا الوعد، وتنفيذاً له، من تمزيقٍ للشرق كله، يتواصل من دون هوادةٍ من أجل إنشاء دويلاتٍ طائفيةٍ، سوف لن تقوم لها قائمة إلّا إثر حروب دينية دامية؟ وليس من يجهل أن ذلك التمزيق الغربي للشرق قد تراوح، أولاً، بين نجاح وفشل، إثر فرض الانتداب الأول في العام 1920، كما تراوح أيضاً وثانياً بين نجاح وفشل في لبنان خلال الحرب الأهلية التي دامت 15 سنة.. فيما يبذل اليوم المستحيل ليحقق نجاحاً نهائياً وحاسماً بفضل ما سميّ "الحرب على الإرهاب".
ملح لبنان والعرب
لعل أجمل توصيف قيل في حقّ مسيحيي لبنان والوطن العربي، ما ساقه مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ عبد اللطيف دريان، على هامش مشاركته في افتتاح إحدى الصروح الكنسيّة الكبرى في لبنان: "أيها المسيحيون، أنتم ملح لبنان والعرب". ومفتي لبنان أكثر من محق في ذلك، لأسباب كثيرة، لعل أهمها أن المسيحيين العرب هم الذين أسهموا في النهضة العربية الحديثة، فكانوا أول من أدخل المطبعة إلى المنطقة العربية، من خلال "مطبعة دير مار قزحيا في لبنان في العام 1584"، ثم مطبعة حلب في العام 1706، وساعدوا، منذ منتصف القرن التاسع عشر، على نشر التعليم وتأسيس المدارس العربية، وطالبوا بتعريب التعليم والقضاء في البلدان العربية، وإحياء اللغة العربية؛ وشاركوا في نقل مفاهيم النهضة الأوروبية، والدولة الحديثة، إلى العرب، كمفاهيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والحق بالتعليم وتحديث الدولة، وأدّوا، بانتمائهم القومي، كل ما يمليه عليهم الواجب القومي وأكثر. وهنا نستذكر، مثالاً لا حصراً، المعلّم الكبير بطرس البستاني الذي كان يفخر بالحضارة العربية، ويؤمن بعروبة جميع الناطقين بالعربية: "ألا تشربون كلكم من الماء نفسها؟ ألا تتنفّسون كلكم الهواء نفسه؟. وكان ينادي بالوحدة الوطنية، وهو صاحب الشعار الشهير: "حب الوطن من الإيمان". ودعا إلى تعليم العلوم الحديثة، "فلا يمكن أن ينهض الشرق من دون الاطّلاع على على حضارة أوروبا وعلومها"؛ وعمل لنشر مبدأ العدالة، وفصل السلطات في الدولة، وإدخال التعليم الإلزامي، وألّف "القاموس المحيط"، ثم بدأ تأليف "دائرة المعارف"، وأنشأ صحفاً عدة، من أبرزها "الجنان" و"الجنينة"، وافتتح مدارس على أسسٍ قوميةٍ عروبيةٍ طلابها مسلمون ومسيحيون، وأسهم في إحياء التراث العربي.
ولا تريد هذه المطالعة أن نذهب أكثر في إيراد الأمثلة على دور المسيحيين العرب وإسهامات
والتاريخ العربي نفسه، عبر دوراته الحضارية القديمة والجديدة، لم يفصل ألبتة بين العرب المسيحيين والمسلمين، اللهم إلا حينما بدأ الاستعمار الغربي يستغلّ المسألة الدينية، بغية شقّ الصفوف الواحدة والمتجانسة، ثقافياً وحضارياً؛ واتكأ بذلك على فئةٍ قليلةٍ من الطرفين، الإسلامي والمسيحي، لتساعده في إكمال مهمته الظلامية هذه، وحراسة السخف المدمّر لهذه القيمة المجتمعية الحضارية التي رعى العرب تساميها فيهم، بالفطرة حيناً، وباللاشعور الدفين على نوعيه: الشخصي والآخر الجمعي الموروث حيناً آخر.
وبالعودة إلى وقائع التاريخ، نقرأ مثلاً، إنه حين خرج العرب من الجزيرة العربية، وهم يحملون رسالة الإسلام، حارب عرب الحيرة المسيحيون مع إخوانهم العرب المسلمين ضد الإمبراطورية الفارسية القديمة، وكان فكرهم وخيالهم وانتماؤهم واحداً موحّداً بذلك. والأمر عينه قام به عرب الغساسنة النصارى، إذ قاتلوا مع عرب الجزيرة من المسلمين ضد الإمبراطورية البيزنطية، وكان الجميع أمام الخطر الخارجي، هوية مجتمعية واحدة، اتجهت حركتها من الأجزاء إلى الكل، والعكس صحيح أيضاً.
وحين قامت قيامة حروب الفرنجة التي استمرت قروناً على الأرض العربية، قام أبناء الكنيسة العربية بمؤازرة أشقائهم العرب المسلمين في صدّ هذه الهجمات الاستعمارية الأوروبية البربرية، فعوملوا بتنكيلٍ أشدّ وأقسى من نظرائهم المسلمين، إذ عمد الإفرنج إلى حرق كنائسهم وقراهم وبيوتهم وأرزاقهم.. وإبادة كل من وصلت إليه سيوفهم.
في الخليج العربي
تذكر المصادر التاريخية أن العرب عرفوا الديانة المسيحية منذ سنواتها الأولى، وآمن بعضهم بها كما آمن غيرهم، ونهلوا من ثقافتها الروحية، وشاركوا في مجمّعاتها وحراكها ومناقشاتها اللاهوتية، وقادوا تياراتٍ انشقاقية على التيارات المسيحية الأقرب للسلطة البيزنطية، وتبنّوا مواقف لاهوتية مختلفة من طبيعة المسيح، وكانوا من أهم أصحاب الطبيعة الواحدة (اليعاقبة) كالغساسنة وأصحاب الطبيعتين (النساطرة) كالمناذرة، وقلّة منهم كانوا من الملكيين المقربين من روما. ولم يكن انشقاقهم يخلو من أسبابٍ سياسية، حيث كانت بلاد الشام تحت الحكم البيزنطي.
ويؤكد الوجود العربي في قلب الديانة المسيحية ما جاء في أعمال الرسل "كريتيون وعرب
سكن العرب بلاد الشام قبل الإسلام بمدة طويلة، منذ القرن الثاني الميلادي (رينيه داسو). ومن القبائل العربية في سورية وبين النهرين تنوخ (قنسرين) التي تنصرّت، ثم تغلبت عليها سليح وتنصّرت أيضاً (المسعودي). ومن القبائل النصرانية أيضاً بكر (ديار بكر غرب دجلة) وربيعة (من الموصل إلى رأس العين) ومُضر (شرقي الفرات، حرّان والرقة) (ياقوت معجم البلدان)، ومنها تغلب ( قيل: لو تباطأ الإسلام لأكلت تغلب العرب)؛ وكانت تنتشر، حتى في عمق الجزيرة، وبنو كلب (غرب الفرات) وتميم (حرّان) وبنو سليم (الرها) وكِنانة (حماة) وإياد (السواد) وغيرهم.. وغيرهم.
وعلى العموم، كان عرب بلاد الشام يدينون بالنصرانية، وسكن الغساسنة منهم جنوب سورية، والمناذرة سكنوا جنوب العراق.
وفي الجزيرة العربية، كانت المسيحية منتشرة، جزئياً أو كلياً، بين قبائل "طي" و"تغلب" و"ذبيان" و"إياد" وغيرها. وكان القسس والرهبان يرِدون أسواق العرب، ويعظون ويبشرون ويذكرون بيوم البعث والحساب، والجنة والنار. وقد وردت في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة تحكي أقوالهم وتفنّد مذاهبهم، ما يدلّ على انتشار هذه التعاليم بينهم.
وفي الإجمال، انتشرت النصرانية بين قبائل نجد والحجاز، فكان نصارى في بني شيبان، ومنهم النابغة الذبياني، وكانوا في إياد، ومنهم قسّ بن ساعدة الأيادي: ويقال إنه كان أسقف نجران، وهو أول من قال:"أما بعد..."، وأول من قال كذلك: "البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر". وكان خطيب العرب الذي أشاد فيه الرسول محمد (ص).
وتنصّر من العرب قومٌ من قريش من بني أسد بن عبد العزي، ومنهم ورقة بن نوفل بن أسد. ومن بني ثقيف كان تنصّر أميّة بن أبي السلط. ومن طيء تنصّر عدي بن حاتم الطائي، والذي يقال إنه "قابل الرسول وصليبه على صدره".
وانتشرت النصرانية في نجران، حيث عرفت كنيستها بـ"كعبة نجران"؛ وهناك كنيسة "القليس" في صنعاء.. وكنائس أخرى في مأرب وظفار. وكانت الأديرة تمتد على طول طريق مكة دمشق، ومكة العراق، ومكة ظفار.. وصنعاء... إلخ. حيث كان الدير، في ذلك الوقت، بمثابة مكان للاستراحة والتعبّد والتثقف الديني والشعري والأدبي.
بعد هذا كله، تجد في أوروبا وخارجها (وحتى في بلداننا العربية) من يحدّثك عن المسيحيين وكأنهم دخلاء على أمة العرب، وأنهم، مثلاً، من أصولٍ غير عربية، وبالتالي، فهم من خارج المنطقة العربية وهويّتها وانتمائها وحضارتها الفاعلة والمتفاعلة في آن.
ذات يوم سألت صديقي المطران الراحل سليم غزال، مطران صيدا وجوارها، أو"مطران المسلمين قبل المسيحيين"، كما كان يحبّ أن يردّد دائماً: هل أنت خائفٌ على هجرة، بل انقطاع نسل المسيحيين في لبنان والمشرق العربي؟ أجابني من فوره وبهدوء عميق: "المسيحيون اللبنانيون والعرب متجذّرون في أوطانهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها".