19 سبتمبر 2022
انتصار أردوغان في إدارة أزمة تركيا
لم أكن سعيداً أبداً في متابعة أخبار المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، ليس لأنني من أنصار أردوغان، ولا من المعجبين بحزب العدالة والتنمية، إذ كنت قد انتقدت سياساته في كتابي "العثمنة الجديدة.. القطيعة في التاريخ الموازي بين العرب والأتراك" (بيروت، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015). ولكن، لأن تركيا اليوم ينبغي أن تكون من أبعد الدول عن الانقلابات العسكرية التي جرت فيها في القرن العشرين، فهي بحاجةٍ ماسّةٍ إلى الاستقرار الداخلي والأمن الإقليمي أولاً، وتجربتها الديمقراطية ضرورةٌ أساسيةٌ للمنطقة كلها ثانياً. وعلى الرغم من الأخطاء التي مارستها الحكومة التركية، بقيادة أردوغان، في الداخل والإقليم، إلا أن السياسات التركية ليست ثابتة على طول الخط، وتتغير وتتبدّل وفقاً لسياقات كل مرحلة، ومصالح تركيا بشكل خاص.
أثبتت المحاولة الانقلابية التي أفشلها رجب طيب أردوغان، وهو يحلّق في الجو بين أنقرة واسطنبول، بما لا يقبل مجالاً للشك، أن الرجل أدار الأزمة المصيرية في ساعاتٍ صعبة بكفاءة عالية، وذكاء سياسي، وانه قد اتخذ قراراتٍ سريعةٍ وخاطفةٍ، رفقة رئيس حكومته بنعلي يلدريم ، وخصوصاً بمخاطبة أردوغان شعبه لحسم الموقف، بعد أن وجد الجيش كان على قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على الجو والبر والبحر. وهنا، أثبت الشعب التركي في العاصمة وكل المدن على امتداد البلاد أن وطنيته قد تغلبت على عواطفه ونوازعه السياسية، وأن الحفاظ على الشرعية السياسية يأتي تعبيراً حقيقياً عن المواطنة الحقيقية وقت الأزمات.. وهذا لا نلحظه لدى شعوبٍ أخرى مجاورة، ولم نجده لدى زعاماتٍ من نوع آخر، تتصف بالبلادة وعدم النزاهة وموالاة الآخرين والابتعاد عن الجماهير.
قال الشعب التركي كلمته المعبرة بكلّ وعي جمعي عن إرادةٍ وطنيةٍ، لا تمّت بصلةٍ أبداً، لأيّة نوازع أخرى، وهذا ما لم يتمتع به العرب مثلاً، حكاماً ومحكومين، ويا للأسف الشديد. وإذا كانت الانقلابات العسكرية موضةً تاريخية قديمةً، جرت نماذجها إثر نهايات الحرب العالمية الثانية، فإنها لم تعد اليوم إلا بضاعةً في سوق المستهترين بدماء الناس، وبكيان المجتمع، وبشرعيّة الحكم، وبمؤسسات البلاد وبصناديق الانتخاب.. ولم يعد هذا الزمن، وبكلّ الثقل الديمغرافي وبكلّ التجارب التاريخية، يأذن باستخدام الجيش في قلب أنظمة الحكم وتغييرها بالقوة المسلّحة، إذ أثبتت التجربة أن مقاليد الأمور أصبحت بيد الشعوب، فالشعوب هي صاحبة الحق الأول والأخير في التحرّك وإشعال الثورات وتغيير الأنظمة الحاكمة.
ما لوحظ أن بعض العرب سرعان ما بدأوا يشمتون بأردوغان ويشتمونه، بل وخرجوا فرحين مستبشرين يتبادلون التهاني، لأسبابٍ مختلفة، فمنهم من يخالفه في سياساته العنيدة، ومنهم من يخالف أيديولوجيته في "العثمنة الجديدة"، ومنهم من يخالفه كونه زعيم حزب ديني إسلامي اسمه "العدالة والتنمية"، ومنهم من يخالفه طائفياً كونه يقود بلداً سنياً، وهو يدعو إلى إحياء روح العثمنة، ومنهم من يقف ضدّه بسبب أجندةٍ سياسيّةٍ واضحةٍ مواليةٍ لإيران التي تعدّ خصماً قديماً لتركيا.. إلخ. ولا أدري ما سرّ مثل هذه الحالة العربية، مقارنة بالحالة التركيّة صاحبة الشأن، إذ وجدنا وقوف كلّ أحزاب المعارضة مع الإبقاء على استمراريّة النظام الحاكم وشرعيته، أو مقارنةً بالحالة الإيرانية التي تلتزم الصمت كي تراقب الموقف، ومن ثم تعلن رأيها الذي يتفق ومصالحها بأساليب ديماغوجية.
وبدا واضحا أنّ العالم كلّه قد وقف مع أردوغان الذي استفاد جداً من هذه التجربة المريرة، إذ علّمته الطريق إلى تنظيف المؤسسة العسكريّة من منظومة الضبّاط الذين اعتبرهم خونة، وربما سيلقنهم درساً لن تنساه المؤسسة العسكرية التي نكّلت، قبل أكثر من نصف قرن، برئيس الوزراء التركي السابق، عدنان مندريس، وشنقته. علّمته هذه الحركة، كيف يستأصل الأورام في داخل بلده، وسيلقّن خصمه فتح الله غولن درساً لن ينساه. كما علّمت التجربة أردوغان أن يلتفت إلى طبيعة سياساته في المنطقة، وأن يقف سدّاً منيعا ضدّ الإرهاب.. كما علمّته التجربة أنّ الحاجة باتت ملّحة في تركيا لتغيير الدستور، ومنحته الفرصة أن يبقي على الأسس التي بناها أتاتورك لتركيا الحديثة. ولكن، ليزيد من الوتيرة الأيديولوجية الجديدة التي جاء بها باسم "العثمنة الجديدة"، ويزيد أو ينقص من نظرية "العمق التركي".
ومنحت المحاولة الانقلابية الآخرين درساً، أن بلداً ثقيلاً في المنطقة، مثل تركيا، لا يمكن التغاضي عن دوره. وعليه، لن تبقى تركيا كما كانت عليه، وستتحوّل إلى تركيا الجديدة، كما أسماها أردوغان، إذ سيبدأ، كما يعتقد أغلب المراقبين والدارسين، جرّاء ردّ الفعل الذي تبلور على ما حدث بسلسلة من التغييرات السياسية الداخلية والخارجية، وسيحجّم دور المعارضة ضدّه كثيراً، وخصوصا خصمه الأيديولوجي اللدود، فتح الله غولن، مع ضعف المعارضين الآخرين له من العلمانيين واليمينيين الليبراليين واليساريين الشيوعيين الأتراك، وستتحوّل المؤسسّة العسكرية التي كان لها دورها القوي، على امتداد حياة الجمهورية التركية، إلى مؤسسةٍ طائعةٍ، لا يمكن أن تتدّخل في السياسة بعد اليوم.. وستتعزّز السياسة الخارجية التركية دولياً وإقليمياً مع العالم. وستغدو تركيا أكثر نفوذاً كعضو في حلف الأطلسي، إذ سيضغط أردوغان باتجاه المبدأ الذي أرساه اتاتورك لتركيا تحت شعار "السلم في الداخل.. السلم في الخارج"، لكي يلتفت لمعالجة قضية داخلية معقدة، تقضّ مضاجع تركيا منذ زمن طويل، ممثلة بالقضيّة الكردية، ثم يلتفت إلى معالجة الإرهاب الذي طال تركيا في العمق، وهو بحاجة ماسّة إلى أن يلتفت إلى مطالب المعارضين لسياساته، ويدخل معهم في حواراتٍ معمقّة من أجل تركيا الجديدة.
التأمل في عبارته التي قالها، وهو في قلب الحدث وفي محور الأزمة، إنّ تحوّلاً سيحدث للانتقال "من تركيا القديمة إلى تركيا الجديدة"، يطرح مزيداً من التساؤلات، منها: هل سينطلق من خضم هذا المخاض أردوغان جديد في تركيا؟ هل سيخفّف الرجل من غلوائه باتجاه "العثمنة الجديدة"، ويعود يقترب من ركائز أتاتورك في العلمنة القديمة؟ هل سيلتفت لمعالجة الأخطار التي تهدّد تركيا من داخلها، أم سيبقى على سياساته إقليمياً ودولياً؟ هل سيقوم بتغيير الدستور التركي نحو الأفضل ديمقراطياً، أم سيفرض في الدستور أجندةً جديدةً كما يريد، أو يعتقد؟ هل سيبدأ طوراً انتقالياً من تركيا القديمة إلى تركيا الجديدة، بإجراء محاولاتٍ جذريةٍ تنقل تركيا من العلمنة الكمالية إلى العثمنة الأردوغانية، أم سيجري العكس، بحيث يخفف من وطأة عثمنته الجديدة لصالح قوى المعارضة المعلمنة؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.
أثبتت المحاولة الانقلابية التي أفشلها رجب طيب أردوغان، وهو يحلّق في الجو بين أنقرة واسطنبول، بما لا يقبل مجالاً للشك، أن الرجل أدار الأزمة المصيرية في ساعاتٍ صعبة بكفاءة عالية، وذكاء سياسي، وانه قد اتخذ قراراتٍ سريعةٍ وخاطفةٍ، رفقة رئيس حكومته بنعلي يلدريم ، وخصوصاً بمخاطبة أردوغان شعبه لحسم الموقف، بعد أن وجد الجيش كان على قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على الجو والبر والبحر. وهنا، أثبت الشعب التركي في العاصمة وكل المدن على امتداد البلاد أن وطنيته قد تغلبت على عواطفه ونوازعه السياسية، وأن الحفاظ على الشرعية السياسية يأتي تعبيراً حقيقياً عن المواطنة الحقيقية وقت الأزمات.. وهذا لا نلحظه لدى شعوبٍ أخرى مجاورة، ولم نجده لدى زعاماتٍ من نوع آخر، تتصف بالبلادة وعدم النزاهة وموالاة الآخرين والابتعاد عن الجماهير.
قال الشعب التركي كلمته المعبرة بكلّ وعي جمعي عن إرادةٍ وطنيةٍ، لا تمّت بصلةٍ أبداً، لأيّة نوازع أخرى، وهذا ما لم يتمتع به العرب مثلاً، حكاماً ومحكومين، ويا للأسف الشديد. وإذا كانت الانقلابات العسكرية موضةً تاريخية قديمةً، جرت نماذجها إثر نهايات الحرب العالمية الثانية، فإنها لم تعد اليوم إلا بضاعةً في سوق المستهترين بدماء الناس، وبكيان المجتمع، وبشرعيّة الحكم، وبمؤسسات البلاد وبصناديق الانتخاب.. ولم يعد هذا الزمن، وبكلّ الثقل الديمغرافي وبكلّ التجارب التاريخية، يأذن باستخدام الجيش في قلب أنظمة الحكم وتغييرها بالقوة المسلّحة، إذ أثبتت التجربة أن مقاليد الأمور أصبحت بيد الشعوب، فالشعوب هي صاحبة الحق الأول والأخير في التحرّك وإشعال الثورات وتغيير الأنظمة الحاكمة.
ما لوحظ أن بعض العرب سرعان ما بدأوا يشمتون بأردوغان ويشتمونه، بل وخرجوا فرحين مستبشرين يتبادلون التهاني، لأسبابٍ مختلفة، فمنهم من يخالفه في سياساته العنيدة، ومنهم من يخالف أيديولوجيته في "العثمنة الجديدة"، ومنهم من يخالفه كونه زعيم حزب ديني إسلامي اسمه "العدالة والتنمية"، ومنهم من يخالفه طائفياً كونه يقود بلداً سنياً، وهو يدعو إلى إحياء روح العثمنة، ومنهم من يقف ضدّه بسبب أجندةٍ سياسيّةٍ واضحةٍ مواليةٍ لإيران التي تعدّ خصماً قديماً لتركيا.. إلخ. ولا أدري ما سرّ مثل هذه الحالة العربية، مقارنة بالحالة التركيّة صاحبة الشأن، إذ وجدنا وقوف كلّ أحزاب المعارضة مع الإبقاء على استمراريّة النظام الحاكم وشرعيته، أو مقارنةً بالحالة الإيرانية التي تلتزم الصمت كي تراقب الموقف، ومن ثم تعلن رأيها الذي يتفق ومصالحها بأساليب ديماغوجية.
وبدا واضحا أنّ العالم كلّه قد وقف مع أردوغان الذي استفاد جداً من هذه التجربة المريرة، إذ علّمته الطريق إلى تنظيف المؤسسة العسكريّة من منظومة الضبّاط الذين اعتبرهم خونة، وربما سيلقنهم درساً لن تنساه المؤسسة العسكرية التي نكّلت، قبل أكثر من نصف قرن، برئيس الوزراء التركي السابق، عدنان مندريس، وشنقته. علّمته هذه الحركة، كيف يستأصل الأورام في داخل بلده، وسيلقّن خصمه فتح الله غولن درساً لن ينساه. كما علّمت التجربة أردوغان أن يلتفت إلى طبيعة سياساته في المنطقة، وأن يقف سدّاً منيعا ضدّ الإرهاب.. كما علمّته التجربة أنّ الحاجة باتت ملّحة في تركيا لتغيير الدستور، ومنحته الفرصة أن يبقي على الأسس التي بناها أتاتورك لتركيا الحديثة. ولكن، ليزيد من الوتيرة الأيديولوجية الجديدة التي جاء بها باسم "العثمنة الجديدة"، ويزيد أو ينقص من نظرية "العمق التركي".
ومنحت المحاولة الانقلابية الآخرين درساً، أن بلداً ثقيلاً في المنطقة، مثل تركيا، لا يمكن التغاضي عن دوره. وعليه، لن تبقى تركيا كما كانت عليه، وستتحوّل إلى تركيا الجديدة، كما أسماها أردوغان، إذ سيبدأ، كما يعتقد أغلب المراقبين والدارسين، جرّاء ردّ الفعل الذي تبلور على ما حدث بسلسلة من التغييرات السياسية الداخلية والخارجية، وسيحجّم دور المعارضة ضدّه كثيراً، وخصوصا خصمه الأيديولوجي اللدود، فتح الله غولن، مع ضعف المعارضين الآخرين له من العلمانيين واليمينيين الليبراليين واليساريين الشيوعيين الأتراك، وستتحوّل المؤسسّة العسكرية التي كان لها دورها القوي، على امتداد حياة الجمهورية التركية، إلى مؤسسةٍ طائعةٍ، لا يمكن أن تتدّخل في السياسة بعد اليوم.. وستتعزّز السياسة الخارجية التركية دولياً وإقليمياً مع العالم. وستغدو تركيا أكثر نفوذاً كعضو في حلف الأطلسي، إذ سيضغط أردوغان باتجاه المبدأ الذي أرساه اتاتورك لتركيا تحت شعار "السلم في الداخل.. السلم في الخارج"، لكي يلتفت لمعالجة قضية داخلية معقدة، تقضّ مضاجع تركيا منذ زمن طويل، ممثلة بالقضيّة الكردية، ثم يلتفت إلى معالجة الإرهاب الذي طال تركيا في العمق، وهو بحاجة ماسّة إلى أن يلتفت إلى مطالب المعارضين لسياساته، ويدخل معهم في حواراتٍ معمقّة من أجل تركيا الجديدة.
التأمل في عبارته التي قالها، وهو في قلب الحدث وفي محور الأزمة، إنّ تحوّلاً سيحدث للانتقال "من تركيا القديمة إلى تركيا الجديدة"، يطرح مزيداً من التساؤلات، منها: هل سينطلق من خضم هذا المخاض أردوغان جديد في تركيا؟ هل سيخفّف الرجل من غلوائه باتجاه "العثمنة الجديدة"، ويعود يقترب من ركائز أتاتورك في العلمنة القديمة؟ هل سيلتفت لمعالجة الأخطار التي تهدّد تركيا من داخلها، أم سيبقى على سياساته إقليمياً ودولياً؟ هل سيقوم بتغيير الدستور التركي نحو الأفضل ديمقراطياً، أم سيفرض في الدستور أجندةً جديدةً كما يريد، أو يعتقد؟ هل سيبدأ طوراً انتقالياً من تركيا القديمة إلى تركيا الجديدة، بإجراء محاولاتٍ جذريةٍ تنقل تركيا من العلمنة الكمالية إلى العثمنة الأردوغانية، أم سيجري العكس، بحيث يخفف من وطأة عثمنته الجديدة لصالح قوى المعارضة المعلمنة؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.