في "عشق" إسرائيل
هذا زلزال سياسي من الحجم الكبير، غير أن زلزلة الانقلاب التركي تخطف الأبصار، وتسرق الألباب، ومن ثم وجد فيها الإعلام العربي، الخائف من ملامسة هذا السلك العاري، ذريعة للهروب من التصدّي لزلزال الزيارة التطبيعية، مختبئاً في أحراش الموضوع التركي.
هذه قفزة في الجحيم الإسرائيلي لا تقل تبعاتها تأثيراً عن قفزة أنور السادات في القدس المحتلة، بزيارته المباغتة عام 1977.
صحيح أن فرقاً كبيراً بين رئيس دولة، خارجة من حرب "تحرير" ضد العدو الصهيوني، وعسكري متقاعد، أو رجل أعمال، أو أبحاث. لكن، عندما يكون الأخير قادماً من السعودية التي رفضت، قبل أشهر قلائل، لعب مباراة ضد منتخب فلسطين في تصفيات آسيا وكأس العالم لكرة القدم، كي لا يلوّث حبر الأختام الإسرائيلية جوازات سفر لاعبيها، فإننا بصدد منعطفٍ شديد الوعورة، وانقلابٍ على التاريخ، على الأقل الجزء الظاهر، لا الغاطس، من التاريخ.
لن يكون مجدياً، ولا جدّياً هنا الكلام عن أن الشخص الذي ذهب إلى إسرائيل وجلس في الكنيست، إنما لا يمثل إلا نفسه، وقد اقترفها من دون علم السلطات السعودية، ذلك أنه، على حد قول معلق سعودي على حوائط السوشيال ميديا، لا يستطيع المواطن السعودي السفر للسياحة في تايلاند، من دون إذن حكومته، فما بالنا بهذه الوثبة الطائشة إلى إسرائيل؟!
أيضا، لن يكون من المعقول التعامل بجدّية مع تصريحات عشقي التي يقول فيها، مبرّرا، إنه سافر إلى فلسطين المحتلة، وليس إلى إسرائيل، وإلا فلتكن وجهته في قادم الأيام "الفرنجة" وليست "فرنسا" و"الأندلس" وليست إسبانيا، مع الوضع في الاعتبار بالضرورة، الفروق الأساسية بين الوضعيتين.
قد تكون هذه أول مرة يسافر فيها أنور عشقي إلى إسرائيل بالجسد، لكن المؤكد أنه كثير السفر إليها بالدماغ والروح، هو مثل ذلك الذي كان يسمى علي سالم في مصر، يهفو إلى علاقات دافئة مع إسرائيل، بكل جوارحه، ففي لقاء حصري مع قناة "أي 24 نيوز" الإسرائيلية، سبتمبر/ أيلول 2015 امتدح عشقي، رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو، باعتباره رجلاً "قوياً وعقلانياً".
عشقي الذي قدّمته القناة باعتباره لواءً متقاعداً، ومديراً لمركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية في جدة، قال نصا: "نريد من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لأنه شخص قوي وعقلاني، القبول بمبادرة السلام". وأضاف "العرب كانوا يريدون طرد إسرائيل خارج فلسطين، لكنها تحوّلت اليوم إلى واقع على الأرض".
وللرجل سوابق تطبيعية أخرى، حيث أثار الجدل في أعقاب لقاءاتٍ مع مسؤولين إسرائيليين في وقت سابق، كان آخرها لقاؤه بدوري غولد، أحد المسؤولين في الخارجية الإسرائيلية في يونيو / حزيران 2015 .
مرة أخرى، أجدني مضطراً لاستعادة كلام جون كيري أمام منتدى سابان التابع لمعهد بروكينجز في واشنطن، قبل عامين تقريبا، والذي أكد فيه أن عواصم عربية أكّدت له جاهزيتها لصنع سلام مع العدو الصهيوني "ولديها القدرة على إيجاد تحالف إقليمي ضد حماس وتنظيم الدولة وحركة أحرار الشام وجماعة بوكو حرام النيجيرية".
ولو أضفت إلى ذلك أننا لم نسمع عن تعنيف أو مساءلة رسميةٍ للمهرول إلى الكيان الصهيوني، فإننا نكون بصدد قاعدةٍ مستقرة، تخطّت حالة نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، إلى النظام العربي كله، وهي القاعدة التي تقول: يفعل العرب سرّاً، فتكشف إسرائيل المستور، فيسكت العرب ولا يقوى أحد على النفي أو التكذيب أو الإنكار، أو حتى التعليق.
وكأنهم صاروا معتنقين للمنطق السسيسي: هو في الداخل استخدم بالونات، مثل توفيق عكاشة، عوضا عن الكلام المباشر في موضوع التطبيع، ثم قام بتفجير البالونة وصار يفعلها بنفسه مباشرة.. وكذلك أخشى أن يكون أنور عشقي هو النسخة السعودية من علي سالم، أو توفيق عكاشة.
قبل أكثر من سبع سنوات، كتبت مندهشاً من أن نتنياهو يتحوّل فجأة إلى عنوانٍ للحد الأدنى من الوقاحة الصهيونية، بل ويرى فيه بعض الرسميين نموذجاً للاعتدال، إذا ما وضع أمام أفيغدور ليبرمان"، غير أن نظرة على التاريخ الرسمي العربي في التزلف لإسرائيل تقتل الدهشة، فقبل خمسين عاماً، كنا نعتبر القبول بحلٍّ على أساس عودة أراضى 67 جريمةً تلامس حدود الخيانة الوطنية، وقبل أربعين عاما أجرينا بعض التخفيضات، واعتبرنا عودة الضفة والقدس الشرقية والجولان وسيناء حدا أدنى للقبول بأى تسوية، وقبل ثلاثين عاما خفضنا سقف المطالة بالحقوق إلى غزة وأجزاء من الضفة وقطعة من القدس.
كنت أعتقد أني محلق في الفانتازيا حين تساءلت في أبريل/ نيسان 2009 "من يدرى ماذا يحدث غدا، ربما نعتذر لإسرائيل على مجرد وجودنا إلى جوارها، ونطلب منها الصفح والغفران".
وها هو الواقع يتجاوز الفانتازيا بمسافات.