01 أكتوبر 2022
لماذا أنقذت السيسي يا خالد علي؟
لم أكن أعرف أن 28 يناير/كانون الثاني 2011 هو يوم جمعة الغضب. كنت مُعتقلاً قبلها بيومين في معسكر للأمن المركزي في محافظة أسيوط. صباح تلك الجمعة، أدركت أن شيئاً ضخماً يتغيّر، حين همس في أذني جندي الأمن المركزي المقيّد إلى يدي "إحنا معاكم"، فشاهده ضابط صف، فقال له "إنت خايف أسمعك؟ والله لولا عيالي كنت خلعت الميري (الملابس الرسمية) وأبقى معاهم!"، كان وكلاء النيابة أيضاً متعاطفين بشكل واضح. جزء من أداة القمع نفسها يتعاون مع المقموعين.
ظهرت، مساء اليوم نفسه، علامة أخرى. جاءتنا دفعة جديدة من المعتقلين، تشمل مجموعة متنوعة، بداية من صاحب شركة ببذلة رسمية، ونهايةً بشخص يرتدي جلباباً دخل الزنزانة صائحاً بطريقة استعراض قوة، ثم بعدما اطمأن لنا، أخبرنا، بلهجته الصعيدية، أنه دخل السجن سابقاً عاماً في جناية سرقة، وأنه جاء مع صديقه من قريتهما ليبحثا عن مظاهراتٍ تشبه ما سمعا عنه، لحل مشكلاتهما الشخصية جداً، كالعثور على عمل. فكّرت حينها أننا إذا وصلنا إلى مرحلة أن هؤلاء الذين لا علاقة لهم بالسياسة مُطلقاً ينظمون مظاهراتٍ عشوائيةً في كل مكان، ويشعرون أن مصلحتهم المباشرة معها، فهذا يعني أن ما يحدث أكبر من أي شيء في تاريخ مصر. هذه حرفياً: ثورة شعبية.
لكن، فور إسقاط حسني مبارك، بدأت الثورة تضيق، أصبحت هناك مواصفاتٌ محدّدة للثائر إعلامياً. شاب متعلم مثقف من الطبقة الوسطى يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، ويعتصم في ميدان التحرير بمطالب سياسية، وتم استبعاد غالبية الشعب من الطبقات والمحافظات الأخرى، واستبعاد من يطالبون بما أطلق عليها مطالب فئوية. صاحبنا المتحمس كان سيُعتبر بلطجياً ذا سوابق جنائية.
تدريجياً، زاد الانفصال بين مطالب الميدان ومصالح المصريين غير المُسيسين، متزامناً مع انقسام سياسي حاد بين القوى الإسلامية والعلمانية، شركاء الثورة والنضال ضد مبارك سابقاً، والذين كانت صورتهم الموحدة، شيوخاً وشباباً، تقدّم تمثيلاً سياسياً غير مباشر للميدان سابقاً.
كانت الثورة قد نجحت في اجتذاب تأييد أو تحييد قطاعات من النظام، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى قيادات الجيش الراغبين بإزاحة جمال مبارك. انتهى ذلك كله لصالح مؤسساتٍ أمنيةٍ وقضائيةٍ مشحونة تماماً ضدنا. أيضاً تغيرت الأوضاع الدولية والإقليمية، وأصبح المصريون يرون أمامهم الخوف من سورية والعراق بدلاً من الأمل بتونس.
تم تجاهل كل هذه العوامل لصالح المشهد الدرامي لاعتصام ميدان التحرير فقط. وهكذا حاولت قطاعات من الثوار مراراً تكرار المشهد فقط، والنتيجة كانت تحوّل المليونيات إلى صفريات عبثية! وأصبح الأمر أكثر بؤساً، حين حاول بعضهم تكرار مشاهد العنف الثوري بإحراق مقرّات أو سيارات شرطة، من دون إدراك الفارق بين لحظة الاستثناء بالعنف الشعبي العام وعنف جماعات مُسيسة صغيرة معزولة.
في 15 أبريل/ نيسان الماضي، احتشدت مظاهرة ناجحة أمام نقابة الصحافيين في القاهرة، احتجاجاً على اتفاقية جزيرتي تيران وصنافير مع السعودية. بعد تناقص عدد المتظاهرين مساءً، تفاوض بعضهم، ومنهم المحامي خالد علي، مع قوات الشرطة للسماح لهم بالرحيل بسلام، وكان هذا كافياً لتنطلق اتهامات الخيانة والتفريط في وجهه. لا يهمنا هنا شخصه، بل يهمنا التساؤل: لماذا اعتبر بعضهم رحيل المتظاهرين الباقين أمراً سلبياً؟ ما هي النتيجة الواقعية لهذا المشهد الجميل؟ هل كانت هناك أية وسيلة لحمايتهم، لو هاجمتهم الشرطة؟ هل كان من الوارد أن يقتحم هذا العدد الهزيل التحرير ويُسقط السيسي، مثلاً، لولا أن أنقذه خالد علي؟
بعد خمس سنوات من الثورة، من المفترض أن نتوقف عن الانفعال بالمشهد، لا بالأثر السياسي، عن الحماس اللحظي، لا الرؤية السياسية لنتائج كل فعل أو تصريح، عن التصرف كمحتكري الثورة القافزين إلى الأمام في انتظار الملايين، وإنْ لم يلحقوا بنا يتم توجيه السباب لشعب العبيد!
نجحت الثورة بإجمالي عوامل سياسية داخلية وخارجية، هذه المقادير كاملة هي ما يجب التفكير فيه لمن يريد تكرار "الطبخة" نفسها، أو عمل شيء مختلف، لا أن يكتفي بمكوّن واحد منها، ثم يتعجب من عدم حصوله على النتيجة نفسها.
ظهرت، مساء اليوم نفسه، علامة أخرى. جاءتنا دفعة جديدة من المعتقلين، تشمل مجموعة متنوعة، بداية من صاحب شركة ببذلة رسمية، ونهايةً بشخص يرتدي جلباباً دخل الزنزانة صائحاً بطريقة استعراض قوة، ثم بعدما اطمأن لنا، أخبرنا، بلهجته الصعيدية، أنه دخل السجن سابقاً عاماً في جناية سرقة، وأنه جاء مع صديقه من قريتهما ليبحثا عن مظاهراتٍ تشبه ما سمعا عنه، لحل مشكلاتهما الشخصية جداً، كالعثور على عمل. فكّرت حينها أننا إذا وصلنا إلى مرحلة أن هؤلاء الذين لا علاقة لهم بالسياسة مُطلقاً ينظمون مظاهراتٍ عشوائيةً في كل مكان، ويشعرون أن مصلحتهم المباشرة معها، فهذا يعني أن ما يحدث أكبر من أي شيء في تاريخ مصر. هذه حرفياً: ثورة شعبية.
لكن، فور إسقاط حسني مبارك، بدأت الثورة تضيق، أصبحت هناك مواصفاتٌ محدّدة للثائر إعلامياً. شاب متعلم مثقف من الطبقة الوسطى يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، ويعتصم في ميدان التحرير بمطالب سياسية، وتم استبعاد غالبية الشعب من الطبقات والمحافظات الأخرى، واستبعاد من يطالبون بما أطلق عليها مطالب فئوية. صاحبنا المتحمس كان سيُعتبر بلطجياً ذا سوابق جنائية.
تدريجياً، زاد الانفصال بين مطالب الميدان ومصالح المصريين غير المُسيسين، متزامناً مع انقسام سياسي حاد بين القوى الإسلامية والعلمانية، شركاء الثورة والنضال ضد مبارك سابقاً، والذين كانت صورتهم الموحدة، شيوخاً وشباباً، تقدّم تمثيلاً سياسياً غير مباشر للميدان سابقاً.
كانت الثورة قد نجحت في اجتذاب تأييد أو تحييد قطاعات من النظام، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى قيادات الجيش الراغبين بإزاحة جمال مبارك. انتهى ذلك كله لصالح مؤسساتٍ أمنيةٍ وقضائيةٍ مشحونة تماماً ضدنا. أيضاً تغيرت الأوضاع الدولية والإقليمية، وأصبح المصريون يرون أمامهم الخوف من سورية والعراق بدلاً من الأمل بتونس.
تم تجاهل كل هذه العوامل لصالح المشهد الدرامي لاعتصام ميدان التحرير فقط. وهكذا حاولت قطاعات من الثوار مراراً تكرار المشهد فقط، والنتيجة كانت تحوّل المليونيات إلى صفريات عبثية! وأصبح الأمر أكثر بؤساً، حين حاول بعضهم تكرار مشاهد العنف الثوري بإحراق مقرّات أو سيارات شرطة، من دون إدراك الفارق بين لحظة الاستثناء بالعنف الشعبي العام وعنف جماعات مُسيسة صغيرة معزولة.
في 15 أبريل/ نيسان الماضي، احتشدت مظاهرة ناجحة أمام نقابة الصحافيين في القاهرة، احتجاجاً على اتفاقية جزيرتي تيران وصنافير مع السعودية. بعد تناقص عدد المتظاهرين مساءً، تفاوض بعضهم، ومنهم المحامي خالد علي، مع قوات الشرطة للسماح لهم بالرحيل بسلام، وكان هذا كافياً لتنطلق اتهامات الخيانة والتفريط في وجهه. لا يهمنا هنا شخصه، بل يهمنا التساؤل: لماذا اعتبر بعضهم رحيل المتظاهرين الباقين أمراً سلبياً؟ ما هي النتيجة الواقعية لهذا المشهد الجميل؟ هل كانت هناك أية وسيلة لحمايتهم، لو هاجمتهم الشرطة؟ هل كان من الوارد أن يقتحم هذا العدد الهزيل التحرير ويُسقط السيسي، مثلاً، لولا أن أنقذه خالد علي؟
بعد خمس سنوات من الثورة، من المفترض أن نتوقف عن الانفعال بالمشهد، لا بالأثر السياسي، عن الحماس اللحظي، لا الرؤية السياسية لنتائج كل فعل أو تصريح، عن التصرف كمحتكري الثورة القافزين إلى الأمام في انتظار الملايين، وإنْ لم يلحقوا بنا يتم توجيه السباب لشعب العبيد!
نجحت الثورة بإجمالي عوامل سياسية داخلية وخارجية، هذه المقادير كاملة هي ما يجب التفكير فيه لمن يريد تكرار "الطبخة" نفسها، أو عمل شيء مختلف، لا أن يكتفي بمكوّن واحد منها، ثم يتعجب من عدم حصوله على النتيجة نفسها.