03 نوفمبر 2024
الأكراد في سورية... الأحلام والواقع
للأكراد نكستهم الخاصة، منذ حرمهم مهندسا الانتداب، البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا بيكو، من حق الحصول على دولتهم الخاصة، ضمن تقسيمات المنطقة التي أجريت قبل توزيع نفوذ دول الانتداب الأوروبي على الوطن العربي.
ويَعتبر الأكراد أن منطقة شمالي سورية التي تضم مدن القامشلي وعفرين وصولاً إلى البحر المتوسط، ذات أكثرية كردية، وعليه، من حقهم أن يديروها ذاتياً. ازداد رسوخ حلم الأكراد بإدارتهم الخاصة، حين تشكلت كردستان العراق، عندما أمَّنت الولايات المتحدة الأميركية لأكراد العراق ما يشبه الحكم الذاتي بعد حرب الخليج، ما لبث هذا الحكم أن تحول فيدرالية خالصة بعد حرب العراق، وسقوط صدام حسين.
عاش الأكراد السوريون في ظل حكم حزب البعث مثل باقي الأقليات والأكثرية في سورية، تحت ظروف الاضطهاد والإهمال، لكن منطقة الكثافة الكردية كانت لها مشكلاتها الخاصة، بعضها مرتبط بطبيعة المنطقة، والآخر بأصول السكان. كانت العقبات الأساسية لأكراد سورية هي الحصول على الجنسية وإمكانية ممارسة اللغة، أو إنشاء جمعيات خاصة بهم للدعم والتثقيف. فقد كان استخدام اللغة الكردية في القطاعات العامة أمراً ممنوعاً يستدعي العقاب. وخلال حكم حافظ الأسد سورية ثلاثة عقود، مرت فترات لم يُسمح فيها للعائلات باستخدام أسماء كردية في أثناء تسجيل مواليد الكرد، وتغيرت أسماء قرى كردية، وتحولت عربية بقرارٍ من الدولة.
وضعت حكومة "البعث" يدها على المحاصيل الحيوية التي تتميز بها منطقة الحسكة، كالقمح والقطن والشعير، وأصبح البيع يتم من الفلاح إلى الدولة، أو عن طريقها، وصار يخضع لعمليات استغلالٍ مجحفة من الحكومة وموظفيها، فيُحَدَّدُ سعرٌ منخفضٌ لبيع هذه المنتجات للحكومة، بالمقارنة مع سعر السوق، ومُنع المزارع من البيع في الأسواق الخاصة. وقد جعلت هذه المشكلة، مع شح الموارد المائية التي عانت منها سورية في العقد الأخير، نتيجة قلة الهطول المطري، فلاحي المنطقة يعتمدون على استجرار مياه الآبار الجوفية، وأدى ارتفاع أسعار مادة المازوت إلى ثلاثة أضعاف، عام 2010، إلى تدهور حالة المزارع الذي صارت تكلفة إنتاجه المحاصيل أعلى من سعرها المفروض عليه.
هنا، يفيد التذكير بأن مشاريع مد مياه من الفرات أو دجلة إلى أراضي القامشلي قد أُجِلت
مراراً، بسبب خلافاتٍ كانت قائمة مع تركيا، ومن ثم أهملت هذه القضية حتى بعد التقارب السوري التركي الذي أخذ شكل وفاق تام عام 2009. وربما كان الإهمال مقصوداً من حكومة نظام الأسد، أو ربما رفض الأتراك البدء بمشاريع سيستفيد منها أكراد سورية المرتبطون بالضرورة مع أكراد تركيا الذين ينضوي عدد منهم في الحزب الإرهابي (العمال الكردستاني) أو المتعاطف معه. وقد جعلت هذه الأسباب نسبة كبيرة من شباب القامشلي يختارون الهجرة إلى الخارج للعمل أو الدراسة، ومن ثم الاستقرار هناك، ومنهم من انتقل إلى المدن الكبرى في الداخل السوري، كدمشق وحلب، ليعمل في مهن يدوية كالخياطة، أو في المطاعم والمقاهي ومحلات الأراكيل.
وقد مُنِعَ الأكراد من تشكيل جمعيات خاصة بهم، الأمر الذي كان مسموحاً به للقوميات والإثنيات الأخرى، كالشركس والأرمن. ولم يسمح لهم بمزاولة العمل السياسي بوصفهم أكراداً، وحين حصلت انتفاضة القامشلي في مارس/ آذار 2004 التي قتل فيها عددٌ من الأكراد ورجال الأمن، وسيق للاعتقال قرابة ألف كردي، بدأت الحكومة في دمشق تستشعر الحاجة لتسوية أمورهم.
في عام 2005، أي بعد سنة من الانتفاضة، دعي الأكراد المسجلون في قوائم الدولة، ممن لا يملكون هوياتٍ سورية، إلى تقديم طلباتٍ للحصول عليها، لكن ذلك لم يقدم حلاً للمشكلة الأساسية، فالعدد الأكبر من الأكراد ليسوا مسجلين في قوائم الدولة، وهؤلاء يُعرفون بالمكتومين، وهناك شكوكٌ تحوم حول أصولهم، فيما إذا كانوا سوريين، أو أنهم قدموا إلى سورية من العراق أو تركيا، وأقاموا بشكل غير نظامي فيها. بالنسبة للأكراد المسجلين وغير الحاصلين على هويات، لم يستجب كثيرون منهم لدعوات الدولة لتسوية الأوراق في ذلك الوقت، لأن جرح الانتفاضة، وما تبعها من أحداث دامية، كان لا يزال طرياً، وبقيت الحالة اللا قانونية قائمةً بالنسبة لكثيرين هناك.
حين بدأت الثورة السورية بأصابع أطفال درعا، انخرط جزءٌ من الأكراد في الثورة والمظاهرات السلمية، لكن القسم الأكبر منهم اتخذ الحياد، وكان لهم في خيارهم هذا أسبابٌ عديدة، يردّدونها مراراً في اجتماعاتهم مع الجماعات غير الكردية. مع ذلك، برزت أسماء كردية مؤثرة، دعمت الحراك ضد نظام القتل في دمشق، أهمها مشعل تمو الذي يرجح أن النظام سارع إلى قتله بمساعدة مليشيات حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) هناك، حيث كان لها وجود كبير، قبل أن تطغى قوات سورية الديمقراطية (بي يي دي) وحزب الاتحاد الديمقراطي، مع جناحه المسلح المعروف بوحدات حماية الشعب، على الوجود المليشياوي في مناطق الشمال الكردية.
وبعد مقتل شخصية مؤثرة كردية معتدلة، بحجم مشعل تمو، وانتشار الفوضى والسلاح، قويت
الحركات التي أسلفنا عنها (بي يي دي و بي كي كي) التي استفادت من حالة عداء العالم لتنظيم داعش الإرهابي، فحصلت من الولايات المتحدة الأميركية على دعم مادي وجوي لقتال هذا التنظيم ودحره عن مدينة عين العرب (كوباني). وبعد انتصار الأكراد في هذه المدينة، وعلى الرغم من أنها حُررت مهدمةً عن بكرة أبيها، إلا أن مليشيا صالح مسلم (قوات سورية الديمقراطية) قد ازدادت ثقة بالنفس، وحاولت التمدّد على أراضي العرب في المنطقة الشمالية، وحصلت حوادث تهجير لعوائل عربية اتهمتها الحركة بمناصرة داعش.
وقد رأى الأكراد، بعد الحصول على الدعم الأميركي والقبول الروسي، أن الوقت قد حان لتركيز خططهم في المفاوضات على هدف الحصول على حكم ذاتي معترف به دولياً. وعلى الرغم من أن هناك مغالطات جغرافية وتاريخية كبيرة في رواياتهم، وعلى الرغم من وجود أعداد كبيرة من السكان العرب والآشوريين والأرمن والسريان في الشمال السوري، إلا أن الأكراد يصرّون على أن منطقتهم الكردية امتداد سورية من أقصى الشمال الشرقي إلى أقصى الشمال الغربي، أي حتى الوصول إلى المتوسط.
واجه نزوع الأكراد هذا عقباتٍ كثيرة، أهمها سيطرة "داعش" على مدن في شمال سورية، واتخاذها الرقة عاصمة لها، بالإضافة إلى المشكلة مع نظام دمشق، فيما لو حاولت المليشيات الكردية التقدم غرب عفرين باتجاه المتوسط. لذلك، أجل الأكراد تحقيق حلمهم المفرط في الضخامة بإنشاء دولةٍ ذات موارد زراعية ونفطية مع إطلالة على البحر، وقرّروا تركيز الجهد للاستحواذ على أقاليم "روج آفا" التي تصل القامشلي بعفرين، ممتدة فوق أراضي أعزاز ومنبج وجرابلس.
رفض الأتراك بصرامة تشكيل هذا الكانتون الكردي المتماسك، لما يشكله ذلك من خطر على حدودها الجنوبية، بسبب سيطرة مليشيا، تعتبر امتداداً لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابياً لدى تركيا والغرب. وتدخلت المدفعية التركية مراتٍ لمنع تشكيل هذا الكانتون، كان آخر هذه التدخلات وأكثرها جلاء ووضوحاً عملية تطهير جرابلس، في أغسطس/ آب الماضي، التي عزّزت الوجود التركي في المسافة الفاصلة بين المدن الكردية السورية، وجاء دعم الغرب تركيا، هذه المرة، عن طريق تغطية حلف الأطلسي (الناتو) عملية جرابلس رسالةً واضحة موجهة للكرد أنه لا يمكنهم تحقيق هدفهم في وصل أقاليم "روج آفا". ويقوم التكتيك العسكري المفروض على مليشيا "قوات سورية الديمقراطية" الآن على الانسحاب إلى شرق الفرات، وهي الخطوة التي سيذعن لها الأكراد مؤقتاً، حتى تنجلي الصورة الراهنة، بانتظار مفاوضات سيذهب إليها زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، حاملاً معه رغبةً في توسيع حدود حكمه الذاتي ما أمكن.
ويَعتبر الأكراد أن منطقة شمالي سورية التي تضم مدن القامشلي وعفرين وصولاً إلى البحر المتوسط، ذات أكثرية كردية، وعليه، من حقهم أن يديروها ذاتياً. ازداد رسوخ حلم الأكراد بإدارتهم الخاصة، حين تشكلت كردستان العراق، عندما أمَّنت الولايات المتحدة الأميركية لأكراد العراق ما يشبه الحكم الذاتي بعد حرب الخليج، ما لبث هذا الحكم أن تحول فيدرالية خالصة بعد حرب العراق، وسقوط صدام حسين.
عاش الأكراد السوريون في ظل حكم حزب البعث مثل باقي الأقليات والأكثرية في سورية، تحت ظروف الاضطهاد والإهمال، لكن منطقة الكثافة الكردية كانت لها مشكلاتها الخاصة، بعضها مرتبط بطبيعة المنطقة، والآخر بأصول السكان. كانت العقبات الأساسية لأكراد سورية هي الحصول على الجنسية وإمكانية ممارسة اللغة، أو إنشاء جمعيات خاصة بهم للدعم والتثقيف. فقد كان استخدام اللغة الكردية في القطاعات العامة أمراً ممنوعاً يستدعي العقاب. وخلال حكم حافظ الأسد سورية ثلاثة عقود، مرت فترات لم يُسمح فيها للعائلات باستخدام أسماء كردية في أثناء تسجيل مواليد الكرد، وتغيرت أسماء قرى كردية، وتحولت عربية بقرارٍ من الدولة.
وضعت حكومة "البعث" يدها على المحاصيل الحيوية التي تتميز بها منطقة الحسكة، كالقمح والقطن والشعير، وأصبح البيع يتم من الفلاح إلى الدولة، أو عن طريقها، وصار يخضع لعمليات استغلالٍ مجحفة من الحكومة وموظفيها، فيُحَدَّدُ سعرٌ منخفضٌ لبيع هذه المنتجات للحكومة، بالمقارنة مع سعر السوق، ومُنع المزارع من البيع في الأسواق الخاصة. وقد جعلت هذه المشكلة، مع شح الموارد المائية التي عانت منها سورية في العقد الأخير، نتيجة قلة الهطول المطري، فلاحي المنطقة يعتمدون على استجرار مياه الآبار الجوفية، وأدى ارتفاع أسعار مادة المازوت إلى ثلاثة أضعاف، عام 2010، إلى تدهور حالة المزارع الذي صارت تكلفة إنتاجه المحاصيل أعلى من سعرها المفروض عليه.
هنا، يفيد التذكير بأن مشاريع مد مياه من الفرات أو دجلة إلى أراضي القامشلي قد أُجِلت
وقد مُنِعَ الأكراد من تشكيل جمعيات خاصة بهم، الأمر الذي كان مسموحاً به للقوميات والإثنيات الأخرى، كالشركس والأرمن. ولم يسمح لهم بمزاولة العمل السياسي بوصفهم أكراداً، وحين حصلت انتفاضة القامشلي في مارس/ آذار 2004 التي قتل فيها عددٌ من الأكراد ورجال الأمن، وسيق للاعتقال قرابة ألف كردي، بدأت الحكومة في دمشق تستشعر الحاجة لتسوية أمورهم.
في عام 2005، أي بعد سنة من الانتفاضة، دعي الأكراد المسجلون في قوائم الدولة، ممن لا يملكون هوياتٍ سورية، إلى تقديم طلباتٍ للحصول عليها، لكن ذلك لم يقدم حلاً للمشكلة الأساسية، فالعدد الأكبر من الأكراد ليسوا مسجلين في قوائم الدولة، وهؤلاء يُعرفون بالمكتومين، وهناك شكوكٌ تحوم حول أصولهم، فيما إذا كانوا سوريين، أو أنهم قدموا إلى سورية من العراق أو تركيا، وأقاموا بشكل غير نظامي فيها. بالنسبة للأكراد المسجلين وغير الحاصلين على هويات، لم يستجب كثيرون منهم لدعوات الدولة لتسوية الأوراق في ذلك الوقت، لأن جرح الانتفاضة، وما تبعها من أحداث دامية، كان لا يزال طرياً، وبقيت الحالة اللا قانونية قائمةً بالنسبة لكثيرين هناك.
حين بدأت الثورة السورية بأصابع أطفال درعا، انخرط جزءٌ من الأكراد في الثورة والمظاهرات السلمية، لكن القسم الأكبر منهم اتخذ الحياد، وكان لهم في خيارهم هذا أسبابٌ عديدة، يردّدونها مراراً في اجتماعاتهم مع الجماعات غير الكردية. مع ذلك، برزت أسماء كردية مؤثرة، دعمت الحراك ضد نظام القتل في دمشق، أهمها مشعل تمو الذي يرجح أن النظام سارع إلى قتله بمساعدة مليشيات حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) هناك، حيث كان لها وجود كبير، قبل أن تطغى قوات سورية الديمقراطية (بي يي دي) وحزب الاتحاد الديمقراطي، مع جناحه المسلح المعروف بوحدات حماية الشعب، على الوجود المليشياوي في مناطق الشمال الكردية.
وبعد مقتل شخصية مؤثرة كردية معتدلة، بحجم مشعل تمو، وانتشار الفوضى والسلاح، قويت
وقد رأى الأكراد، بعد الحصول على الدعم الأميركي والقبول الروسي، أن الوقت قد حان لتركيز خططهم في المفاوضات على هدف الحصول على حكم ذاتي معترف به دولياً. وعلى الرغم من أن هناك مغالطات جغرافية وتاريخية كبيرة في رواياتهم، وعلى الرغم من وجود أعداد كبيرة من السكان العرب والآشوريين والأرمن والسريان في الشمال السوري، إلا أن الأكراد يصرّون على أن منطقتهم الكردية امتداد سورية من أقصى الشمال الشرقي إلى أقصى الشمال الغربي، أي حتى الوصول إلى المتوسط.
واجه نزوع الأكراد هذا عقباتٍ كثيرة، أهمها سيطرة "داعش" على مدن في شمال سورية، واتخاذها الرقة عاصمة لها، بالإضافة إلى المشكلة مع نظام دمشق، فيما لو حاولت المليشيات الكردية التقدم غرب عفرين باتجاه المتوسط. لذلك، أجل الأكراد تحقيق حلمهم المفرط في الضخامة بإنشاء دولةٍ ذات موارد زراعية ونفطية مع إطلالة على البحر، وقرّروا تركيز الجهد للاستحواذ على أقاليم "روج آفا" التي تصل القامشلي بعفرين، ممتدة فوق أراضي أعزاز ومنبج وجرابلس.
رفض الأتراك بصرامة تشكيل هذا الكانتون الكردي المتماسك، لما يشكله ذلك من خطر على حدودها الجنوبية، بسبب سيطرة مليشيا، تعتبر امتداداً لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابياً لدى تركيا والغرب. وتدخلت المدفعية التركية مراتٍ لمنع تشكيل هذا الكانتون، كان آخر هذه التدخلات وأكثرها جلاء ووضوحاً عملية تطهير جرابلس، في أغسطس/ آب الماضي، التي عزّزت الوجود التركي في المسافة الفاصلة بين المدن الكردية السورية، وجاء دعم الغرب تركيا، هذه المرة، عن طريق تغطية حلف الأطلسي (الناتو) عملية جرابلس رسالةً واضحة موجهة للكرد أنه لا يمكنهم تحقيق هدفهم في وصل أقاليم "روج آفا". ويقوم التكتيك العسكري المفروض على مليشيا "قوات سورية الديمقراطية" الآن على الانسحاب إلى شرق الفرات، وهي الخطوة التي سيذعن لها الأكراد مؤقتاً، حتى تنجلي الصورة الراهنة، بانتظار مفاوضات سيذهب إليها زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، حاملاً معه رغبةً في توسيع حدود حكمه الذاتي ما أمكن.