24 أكتوبر 2024
أي معنى لإعادة بناء منظمة التحرير؟
لا تغيب الدعوات الفلسطينية من أجل إعادة بناء منظمة التحرير، حتى تعود إلى الظهور، على قاعدة القناعة بأن إعادة بناء المنظمة ستغيّر الوضع الفلسطيني جذرياً، وستخرجه من التفكّك والانقسام والمآزق التي يعيشها هذا الوضع منذ زمن طويل. وكأن إعادة بناء المنظمة سيكون لها مفعول السحر في نقل الوضع الفلسطيني من الحالة البائسة والمزرية التي يعيشها إلى أمجادٍ سابقةٍ، عاشتها منظمة التحرير في الزمن الجميل للوحدة الوطنية، كما يعتقد الدعاة المتحمسون لدعوات إعادة بناء المنظمة.
وفي إطار مناقشة ما يمكن لإعادة بناء منظمة التحرير تقديمه، يطرح السؤال: هل الفصائل والقوى السياسية في الساحة الفلسطينية لا تزال تنظر لمنظمة التحرير بوصفها تشغل المكانة نفسها التي كانت شغلتها في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم؟ وهل الواقع السياسي الفلسطيني الحالي ما زال يمنح منظمة التحرير المكانة التي يتصوّرها أصحاب فكرة إعادة بناء المنظمة؟
لا شك في أن منظمة التحرير، بوصفها نظاماً سياسياً استثنائياً، أجاب عن مطلب التمثيل الفلسطيني الذي احتاجته التجربة الفلسطينية من أجل الوجود على الخريطة السياسية للمنطقة، بعد محاولة الإلغاء التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني في نكبة 1948، واختفى في ظلها وطنهم ببناء دولة إسرائيل على أنقاضه. وهذا ما جعلها إطاراً مؤسساتياً تمثيلياً، وإطاراً هوياتياً، بفعل افتقاد الجغرافيا السياسية الكيان الفلسطيني، إطار تمثيلي لأحلام الفلسطينيين وطموحاتهم. وبطبيعة الحالة، هذا النوع من التمثيل السياسي المؤسساتي، هو تمثيل مؤقت، يجب أن ينتهي، عندما يستعيد الفلسطينيون أرض وطنهم. ولأن التجربة الفلسطينية طالت أكثر مما يُحتمل، ظهر المؤقت ليس وكأنه ثابت تاريخي فحسب، بل ظهر كأنه معطى مقدّس أيضاً، بوصفه ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، باعتراف عربي ودولي، خصوصاً في ظل محاولات الإلغاء والشطب التي تعرّضت لها المنظمة على مدار تاريخها.
ما أنجزه الشعب الفلسطيني في إطاره التمثيلي، منظمة التحرير الفلسطينية، من وجود على الخريطة السياسية لم يعد قابلاً للعكس، حتى لو اختفت منظمة التحرير، فالشعب الفلسطيني اليوم جزءٌ مكون من جغرافيا المنطقة البشرية والسياسية التي لم يعد من الممكن تجاوزها، حتى لو افتقدت كل أطرها التمثيلية وفصائلها السياسية. طبعاً، هذا لا يعني الدعوة إلى إلغاء الفصائل والتمثيلات السياسية التي باتت تتعامل مع المنظمة بصفتها أداة تكتيك سياسي في المماحكات مع فصائل أخرى. ما يُراد قوله، في هذا السياق، إن مؤسسات التمثيل السياسي تقوم لتمثيل شعبٍ موجود في الواقع، وهذه المؤسسات لا تخلق هذا الشعب، ولا تخلق الواقع، كما يدور في أوهام فصائل وشخصياتٍ فلسطينيةٍ ترى حياتها متعلقة بالمنظمة، وبدون المنظمة لا توجد قضية فلسطينية. القضية الفلسطينية باقية ما بقيت مشكلة الشعب الفلسطيني بدون حل، بوجود المنظمة أو بدونه.
بالعودة إلى تاريخ المنظمة، نرى أن تحولاً كبيراً جرى في مكانتها خلال العقود القليلة المنصرمة. ارتبط بتشكيل السلطة الفلسطينية، باعتبارها نتاجاً لاتفاقات أوسلو، بوصفها اتفاقاتٍ انتقالية، للوصول إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية. وعندما قامت هذه السلطة على الأرض الفلسطينية، امتصت كل القوة التمثيلية والسياسية التي كانت تشكلها منظمة التحرير في الزمن السابق. وأعتقد أن قيادة المنظمة، وتحديداً الرئيس الراحل ياسر عرفات، كان متأثراً، بشكل واع أو لا واع، بالصراع الذي دار في إسرائيل بعد تأسيس دولة إسرائيل، بين رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، ديفيد بن غوريون، ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية، ناحوم غولدمان، بشأن من له الأولوية بعد تأسيس إسرائيل، للمنظمة الصهيونية أم لإسرائيل. وكان الجواب الحاسم، أن المنظمة الصهيونية هي السّقالة التي بنت الدولة، وبعد قيام الدولة واكتمال البناء لم تعد هناك حاجة إلى السقالة التي يجب التخلص منها. وحسم الصراع لصالح الدولة، وباتت المنظمة الصهيونية، منذ حسم الصراع، ملحقاً بدولة إسرائيل.
مع الفارق الكبير بين التجربتين الإسرائيلية والفلسطينية. عندما تم تشكيل السلطة الوطنية، تم نقل كل معطيات القوة في منظمة التحرير إليها، ففي وقتٍ كانت مؤسسات المنظمة، بعد الخروج من لبنان 1982، إطارات هيكلية ذات تمثيل سياسي هوياتي، باتت السلطة إطارات تمثيلية تملك معطيات القوة، شرطة، مساعدات دول مانحة، موازنات، وزارات... سكان تمارس سيادتها عليهم. على هذا الأساس، تم إلحاق المنظمة بالسلطة الفلسطينية، ولم يعد أحد يستدعيها إلا وقت الحاجة. وأصبحت التفاعلات السياسية الرئيسية تجري في إطار السلطة ومؤسساتها، وباتت منظمة التحرير مجرد هيكل فارغ. لأنه، ببساطةٍ، لا يمكن أن يوجد سلطتان مرجعيتان، فكان يجب أن تبتلع واحدةٌ الأخرى، ولأنه حتى في صراع المؤسسات، مثل الصراع في الطبيعة، الغلبة للأقوى، كانت السلطة الأقوى. لذلك، ابتلعت المنظمة التي أصابها الوهن والتلف.
الدعوات اليوم إلى إعادة بناء منظمة التحرير هي محاولة لعكس التاريخ، واستدعاء زمن لم يعد قابلاً للاستعادة. على الرغم من كل عيوبها، أدت المنظمة دوراً تاريخياً عظيماً في التاريخ الفلسطيني. والحديث عن إعادة بناء منظمة التحرير أو إحيائها هو اعتراف بأنها مهدّمة أو ميتة. وكل الدعوات هي محاولات لنفخ الروح في جثةٍ هامدة، خصوصاً وأن القوى الداعية إلى إعادة البناء، والمطلوب منها أن تنهض بهذه المهمة، غير قادرة على حمل نفسها أصلاً، والمنظمة أسوأ حالاً من صحة العجزة القائمين عليها.
وفي إطار مناقشة ما يمكن لإعادة بناء منظمة التحرير تقديمه، يطرح السؤال: هل الفصائل والقوى السياسية في الساحة الفلسطينية لا تزال تنظر لمنظمة التحرير بوصفها تشغل المكانة نفسها التي كانت شغلتها في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم؟ وهل الواقع السياسي الفلسطيني الحالي ما زال يمنح منظمة التحرير المكانة التي يتصوّرها أصحاب فكرة إعادة بناء المنظمة؟
لا شك في أن منظمة التحرير، بوصفها نظاماً سياسياً استثنائياً، أجاب عن مطلب التمثيل الفلسطيني الذي احتاجته التجربة الفلسطينية من أجل الوجود على الخريطة السياسية للمنطقة، بعد محاولة الإلغاء التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني في نكبة 1948، واختفى في ظلها وطنهم ببناء دولة إسرائيل على أنقاضه. وهذا ما جعلها إطاراً مؤسساتياً تمثيلياً، وإطاراً هوياتياً، بفعل افتقاد الجغرافيا السياسية الكيان الفلسطيني، إطار تمثيلي لأحلام الفلسطينيين وطموحاتهم. وبطبيعة الحالة، هذا النوع من التمثيل السياسي المؤسساتي، هو تمثيل مؤقت، يجب أن ينتهي، عندما يستعيد الفلسطينيون أرض وطنهم. ولأن التجربة الفلسطينية طالت أكثر مما يُحتمل، ظهر المؤقت ليس وكأنه ثابت تاريخي فحسب، بل ظهر كأنه معطى مقدّس أيضاً، بوصفه ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، باعتراف عربي ودولي، خصوصاً في ظل محاولات الإلغاء والشطب التي تعرّضت لها المنظمة على مدار تاريخها.
ما أنجزه الشعب الفلسطيني في إطاره التمثيلي، منظمة التحرير الفلسطينية، من وجود على الخريطة السياسية لم يعد قابلاً للعكس، حتى لو اختفت منظمة التحرير، فالشعب الفلسطيني اليوم جزءٌ مكون من جغرافيا المنطقة البشرية والسياسية التي لم يعد من الممكن تجاوزها، حتى لو افتقدت كل أطرها التمثيلية وفصائلها السياسية. طبعاً، هذا لا يعني الدعوة إلى إلغاء الفصائل والتمثيلات السياسية التي باتت تتعامل مع المنظمة بصفتها أداة تكتيك سياسي في المماحكات مع فصائل أخرى. ما يُراد قوله، في هذا السياق، إن مؤسسات التمثيل السياسي تقوم لتمثيل شعبٍ موجود في الواقع، وهذه المؤسسات لا تخلق هذا الشعب، ولا تخلق الواقع، كما يدور في أوهام فصائل وشخصياتٍ فلسطينيةٍ ترى حياتها متعلقة بالمنظمة، وبدون المنظمة لا توجد قضية فلسطينية. القضية الفلسطينية باقية ما بقيت مشكلة الشعب الفلسطيني بدون حل، بوجود المنظمة أو بدونه.
بالعودة إلى تاريخ المنظمة، نرى أن تحولاً كبيراً جرى في مكانتها خلال العقود القليلة المنصرمة. ارتبط بتشكيل السلطة الفلسطينية، باعتبارها نتاجاً لاتفاقات أوسلو، بوصفها اتفاقاتٍ انتقالية، للوصول إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية. وعندما قامت هذه السلطة على الأرض الفلسطينية، امتصت كل القوة التمثيلية والسياسية التي كانت تشكلها منظمة التحرير في الزمن السابق. وأعتقد أن قيادة المنظمة، وتحديداً الرئيس الراحل ياسر عرفات، كان متأثراً، بشكل واع أو لا واع، بالصراع الذي دار في إسرائيل بعد تأسيس دولة إسرائيل، بين رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، ديفيد بن غوريون، ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية، ناحوم غولدمان، بشأن من له الأولوية بعد تأسيس إسرائيل، للمنظمة الصهيونية أم لإسرائيل. وكان الجواب الحاسم، أن المنظمة الصهيونية هي السّقالة التي بنت الدولة، وبعد قيام الدولة واكتمال البناء لم تعد هناك حاجة إلى السقالة التي يجب التخلص منها. وحسم الصراع لصالح الدولة، وباتت المنظمة الصهيونية، منذ حسم الصراع، ملحقاً بدولة إسرائيل.
مع الفارق الكبير بين التجربتين الإسرائيلية والفلسطينية. عندما تم تشكيل السلطة الوطنية، تم نقل كل معطيات القوة في منظمة التحرير إليها، ففي وقتٍ كانت مؤسسات المنظمة، بعد الخروج من لبنان 1982، إطارات هيكلية ذات تمثيل سياسي هوياتي، باتت السلطة إطارات تمثيلية تملك معطيات القوة، شرطة، مساعدات دول مانحة، موازنات، وزارات... سكان تمارس سيادتها عليهم. على هذا الأساس، تم إلحاق المنظمة بالسلطة الفلسطينية، ولم يعد أحد يستدعيها إلا وقت الحاجة. وأصبحت التفاعلات السياسية الرئيسية تجري في إطار السلطة ومؤسساتها، وباتت منظمة التحرير مجرد هيكل فارغ. لأنه، ببساطةٍ، لا يمكن أن يوجد سلطتان مرجعيتان، فكان يجب أن تبتلع واحدةٌ الأخرى، ولأنه حتى في صراع المؤسسات، مثل الصراع في الطبيعة، الغلبة للأقوى، كانت السلطة الأقوى. لذلك، ابتلعت المنظمة التي أصابها الوهن والتلف.
الدعوات اليوم إلى إعادة بناء منظمة التحرير هي محاولة لعكس التاريخ، واستدعاء زمن لم يعد قابلاً للاستعادة. على الرغم من كل عيوبها، أدت المنظمة دوراً تاريخياً عظيماً في التاريخ الفلسطيني. والحديث عن إعادة بناء منظمة التحرير أو إحيائها هو اعتراف بأنها مهدّمة أو ميتة. وكل الدعوات هي محاولات لنفخ الروح في جثةٍ هامدة، خصوصاً وأن القوى الداعية إلى إعادة البناء، والمطلوب منها أن تنهض بهذه المهمة، غير قادرة على حمل نفسها أصلاً، والمنظمة أسوأ حالاً من صحة العجزة القائمين عليها.