02 نوفمبر 2024
ثورة تونس تحت مجهر التفكير العقلاني
أتاحت الندوة الفكرية التي نظمها مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس، "6 سنوات في مسار الثورة التونسية.. الأولويات والتحديات" (14 يناير/ كانون الثاني 2017) الفرصة لمقاربة الثورة التونسية من زوايا مختلفة، فركّز بعض الدارسين على أهمّية الانتقال السياسي المشهود في البلاد بعد الثورة، لما أرساه من حرّياتٍ ومؤسساتٍ دستورية وتداول سلمي على السلطة، وانصرف آخرون إلى البحث في تحدّيات رفد التحوّل الديمقراطي بمنجزٍ تنمويٍّ وانتقالٍ اقتصاديٍّ يعزّز ثقة المواطنين بالتغيير الذي عرفته البلاد، ويفتح أمامهم أبواب الأمل في مستقبلٍ أفضل. واتّجه كبير المؤرّخين التونسيين هشام جعيّط، والمفكر العربي عزمي بشارة، إلى تقديم قراءة عقلانية أصيلة في الثورة، باعتبارها حركةً اجتماعية معبّرة، وصيرورة تاريخية دالّة. وأخبر الرجلان أنّ الحراك الشعبي الذي شهدته تونس نهاية سنة 2010 كان احتجاجياً من خارج النظام، قام على المطالبة بالحرّية والكرامة، وأدّى إلى إطاحة هرم السلطة الحاكمة وبناء مؤسسات ديمقراطية جديدة بديلة عن أجهزة الدولة الدكتاتورية. ما يعني أنّ ما حصل كان ثورةً تغييرية، لا انتفاضة عابرة أو مؤامرةً مصدرها الداخل أو الخارج. وبمقتضى هذا التصوّر، رفع الباحثان اللبس الناجم عن قول بعضهم إنّ الثورة كانت مجرّد انفجار عفوي عابر، أو محض مكيدة دُبّرت بليل. وذهب جعيّط إلى أن ثورة تونس لم تكن أيديولوجيةً، كما هو حال الثورة الإيرانية (1978)، ولم تكن مؤسسة لدكتاتورية، كما هو حال الثورة البلشفية (1917)، بل كانت ثورة شوقٍ إلى الحرية وتوقٍ إلى العدالة، وأدّت إلى إقامة مشروع انتظام مجتمعي ديمقراطي. ويرى الرجل أنّ الثورة أنشأت حالةً من التوازن بين الحاكم والمحكوم، ووفّرت للمواطن التونسي مساحةً أكبر للفعل في الشأن العام. وعنده أنّ استمرار التظاهر، بعد ست سنوات من الثورة، ليس أمراً سلبياً، ولا فعلاً مؤثّماً، بل هو سلوك تعبيري طبيعي في مجتمع ديمقراطي. فمن حقّ المواطن أن يحتجّ سلميّا، ومن واجب الدولة أن تسرّع في وتيرة البناء والإصلاح، حتّى تكسب ثقة الناس، وتحقق الاستقرار والرفاه في آن. ذلك أنّ "الثورة في رأيه ليست مجرد عملية إسقاط نظام، بل هي جملةٌ من الرؤى والأفكار والتغييرات التي تطاول السياسات
والذهنيات". ومن ثمّة، وصل جعيّط في الثورة بين فعلي الاحتجاج والبناء، مبرزا أهمية تحويل وعود الثورة إلى واقعٍ، حتّى تبقى حيّة في القلوب، فاعلة في الناس، ومستجيبة لتطلّعاتهم.
وأكّد مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عزمي بشارة، أنّ اعتبار الثورة مؤامرة خطابٌ يستهين بتضحيات الشعوب العربية التي بذلت الجهد، ودفعت الغالي والنفيس من أجل تحرير الإنسان من ربقة الاستبداد، ومن أجل إقامة الدولة الديمقراطية بديلاً عن الدولة الشمولية، موضحاً أنّ "رسوخ مؤسسات الدولة التونسية، ووعي المجتمع التونسي بفكرة الدولة والمؤسسات، واتساع حجم النخبة والطبقة الوسطى، وارتفاع مستوى التعليم بالإضافة إلى التجانس المجتمعي الواسع، كلها عوامل أدت إلى نجاح التجربة التونسية، وقبول فكرة التعددية تحت سقف الدولة". وعلى خلاف ذلك، كان الحضور الطاغي للجيش في مصر وهيمنته على المشهد العمراني، وغياب المؤسسات المدنية في ليبيا، وإحياء النزعة الطائفية في سورية، من بين الأسباب التي أدّت إلى انحسار المدّ الثوري في تلك البلدان. ووقف بشارة هنا عند جدلية الإصلاح والثورة التي نبّه إليها مبكّرا في كتابه "في المسألة العربية.. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" (2007)، موضحاً أنّ التحوّل الديمقراطي في الدول متعدّدة الهويات يقوم أساساً على الإصلاح الذي يراعي طبيعة المجتمعات، ويرتقي بها على التدريج نحو واقع عمراني أفضل. لكنّ "المشكلة في المشرق العربي متمثّلة في أنّ بعض الأنظمة فوّتت على نفسها فرصة القيام بإصلاحات، ولم تتجاوب مع احتجاجات الشعوب، بل سعت إلى كسر إرادتها، والإجهاز على حقها في التعبير والتغيير، لأنها أنظمة شمولية، لا تؤمن بمشروع الإصلاح، وتستند إلى منطق القوة المطلقة، لا إلى منطق الشرعية. لذلك، تعتقد أنها إذا أرخت قبضتها عن الناس، ولو جزئياً ستسقط".
واستهجن بشارة استقالة ما تعرف بـ "الأنتلجنسيا العربية" إزاء الحدث الثوري، وانخراط بعضهم في جوقة تمجيد الاستبداد، ولوم الضحية، لأنّه ثار على جلاّده، قائلا إنّ "الثقافة السياسية لدى النخب تساهم في تحديد مصير الثورة"، فإذا كانت النخب مأزومة، مهزومة، مشتتةً، كان مصير الثورة الخفوت والانحسار، وإذا كانت النخب مسؤولةً، رائدةً وتوّاقةً إلى خدمة الصالح العامّ، كان مصير الثورة الاستقرار والازدهار والاستمرار. ورأى، في هذا السياق، أنّ النخب التونسية، على الرغم من اختلاف مشاربها الأيديولوجية ومصالحها السياسية، نجحت في الاحتكام إلى ثقافة الحوار ومنطق التوافق في التعاطي مع أزمات الداخل التونسي، وهو ما ساهم في رفد الثورة وإنجاح مسيرة الانتقال نحو الديمقراطية. وعلى الرغم من ثقة صاحب كتاب "الثورة التونسية المجيدة " في الإنسان التونسي، فإنّه لا يعتبر الثورة "بقرة مقدّسة"، بل يعتبرها حركة اجتماعية تقتضي النقد والتقويم والتطوير على الدوام.
مكّن ذلك الملتقى التفاكري، على الرغم مما شابه من ارتباكٍ في التنظيم والبروتوكول، فرصةً لوضع الثورة تحت مجهر التفكير الموضوعي الرصين، والانتقال بها من حيّز البروباغندا الإعلامية والتجاذبات السياسية إلى رحاب التمحيص المنهجي، والتقويم العلمي النزيه. وبدت الحاجة أكيدةً، بعد ستّ سنوات من الثورة، إلى سماع أصوات المفكّرين قبل أصوات السّاسة وبعدهم، ذلك أنّ السياسي مسكونٌ بهاجس الولاء والأيديولوجيا بالضرورة. أمّا المفكّر فمسكونٌ بصوت الحكمة لا محالة.
وأكّد مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عزمي بشارة، أنّ اعتبار الثورة مؤامرة خطابٌ يستهين بتضحيات الشعوب العربية التي بذلت الجهد، ودفعت الغالي والنفيس من أجل تحرير الإنسان من ربقة الاستبداد، ومن أجل إقامة الدولة الديمقراطية بديلاً عن الدولة الشمولية، موضحاً أنّ "رسوخ مؤسسات الدولة التونسية، ووعي المجتمع التونسي بفكرة الدولة والمؤسسات، واتساع حجم النخبة والطبقة الوسطى، وارتفاع مستوى التعليم بالإضافة إلى التجانس المجتمعي الواسع، كلها عوامل أدت إلى نجاح التجربة التونسية، وقبول فكرة التعددية تحت سقف الدولة". وعلى خلاف ذلك، كان الحضور الطاغي للجيش في مصر وهيمنته على المشهد العمراني، وغياب المؤسسات المدنية في ليبيا، وإحياء النزعة الطائفية في سورية، من بين الأسباب التي أدّت إلى انحسار المدّ الثوري في تلك البلدان. ووقف بشارة هنا عند جدلية الإصلاح والثورة التي نبّه إليها مبكّرا في كتابه "في المسألة العربية.. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" (2007)، موضحاً أنّ التحوّل الديمقراطي في الدول متعدّدة الهويات يقوم أساساً على الإصلاح الذي يراعي طبيعة المجتمعات، ويرتقي بها على التدريج نحو واقع عمراني أفضل. لكنّ "المشكلة في المشرق العربي متمثّلة في أنّ بعض الأنظمة فوّتت على نفسها فرصة القيام بإصلاحات، ولم تتجاوب مع احتجاجات الشعوب، بل سعت إلى كسر إرادتها، والإجهاز على حقها في التعبير والتغيير، لأنها أنظمة شمولية، لا تؤمن بمشروع الإصلاح، وتستند إلى منطق القوة المطلقة، لا إلى منطق الشرعية. لذلك، تعتقد أنها إذا أرخت قبضتها عن الناس، ولو جزئياً ستسقط".
واستهجن بشارة استقالة ما تعرف بـ "الأنتلجنسيا العربية" إزاء الحدث الثوري، وانخراط بعضهم في جوقة تمجيد الاستبداد، ولوم الضحية، لأنّه ثار على جلاّده، قائلا إنّ "الثقافة السياسية لدى النخب تساهم في تحديد مصير الثورة"، فإذا كانت النخب مأزومة، مهزومة، مشتتةً، كان مصير الثورة الخفوت والانحسار، وإذا كانت النخب مسؤولةً، رائدةً وتوّاقةً إلى خدمة الصالح العامّ، كان مصير الثورة الاستقرار والازدهار والاستمرار. ورأى، في هذا السياق، أنّ النخب التونسية، على الرغم من اختلاف مشاربها الأيديولوجية ومصالحها السياسية، نجحت في الاحتكام إلى ثقافة الحوار ومنطق التوافق في التعاطي مع أزمات الداخل التونسي، وهو ما ساهم في رفد الثورة وإنجاح مسيرة الانتقال نحو الديمقراطية. وعلى الرغم من ثقة صاحب كتاب "الثورة التونسية المجيدة " في الإنسان التونسي، فإنّه لا يعتبر الثورة "بقرة مقدّسة"، بل يعتبرها حركة اجتماعية تقتضي النقد والتقويم والتطوير على الدوام.
مكّن ذلك الملتقى التفاكري، على الرغم مما شابه من ارتباكٍ في التنظيم والبروتوكول، فرصةً لوضع الثورة تحت مجهر التفكير الموضوعي الرصين، والانتقال بها من حيّز البروباغندا الإعلامية والتجاذبات السياسية إلى رحاب التمحيص المنهجي، والتقويم العلمي النزيه. وبدت الحاجة أكيدةً، بعد ستّ سنوات من الثورة، إلى سماع أصوات المفكّرين قبل أصوات السّاسة وبعدهم، ذلك أنّ السياسي مسكونٌ بهاجس الولاء والأيديولوجيا بالضرورة. أمّا المفكّر فمسكونٌ بصوت الحكمة لا محالة.