الثورات العربية وحق تقرير المصير

03 أكتوبر 2017
+ الخط -
على الرغم من الهزائم التي منيت بها الثورات العربية، إلا أن غالبية المؤشرات والوقائع المحلية تدل على عجز الأنظمة عن إعادة عقارب الساعة إلى ما قبلها، وإعادة بسط نفوذها وهيمنتها على المجتمع والدولة في كل المجالات الحيوية. وهو الأمر العائد إلى استمرار أجواء التوتر وعدم الاستقرار الاجتماعي، على خلفية امتعاض الشعوب، ورفضها بنية الحكم وسياسته الداخلية والخارجية غالباً، أي أننا ما زلنا نعيش أجواء الثورات العربية، وإن هدأت قليلاً. لتمنحنا هذه الأجواء الثورية مساحةً جيدةً للتنافس الفكري حول أي قضية محلية أو عربية، سياسية أو اقتصادية، تنافس لشرح أسباب القضية وتداعياتها وتفاصيلها، وتنافس في اقتراح الحلول والمخارج لها. وعليه، نجد الموقف من حق تقرير المصير قد تبوأ صدارة هذه القضايا في الآونة الأخيرة، على خلفية إجراء إقليم كردستان العراق استفتاء تقرير المصير، ليفرض هذا الاستفتاء على الثورات العربية وجوب تحديد موقف واضح وحاسم من ممارسة هذا الحق، وتحديد توجهات هذه الثورات العربية وسياساتها تجاه حقوق القوميات الأخرى غير العربية، بما يتعدّى حدود المسألة الكردية.
فلطالما تعودنا، في مرحلة ما قبل الثورات، على ندرة الأصوات والآراء المتجادلة بشأن أيٍّ من القضايا المحلية والعربية، لا سيما المرتبطة بحقوق الأقليات القومية، ثقافية كانت أم سياسية، أم كانت تمس حقهم في الاستقلال وإقامة دولتهم الوطنية، فقد فرضت الأنظمة العربية نمطا وحيدا للتعامل مع أي من هذه القضايا، كونها قضايا تمس بالوحدة الوطنية، وتخل بالشعور القومي (وفقاً لخطاب الأنظمة)، نمط لا يرتكز فقط على الرفض المطلق لأي من الحقوق الاجتماعية والثقافية والسياسية لهذه القوميات، بل يتعداه إلى انتهاج أقصى درجات الحزم والاستبداد والإجرام تجاه أي تحركٍ، أو رأي مناصر لحقوق الأقليات، سواء كان الصوت من داخل هذه الأقليات، أم كان صوتا وتحركا عربياً يعبر عن تأييده وتضامنه مع قضايا الأقليات المستلبة حقوقها. وبالعودة إلى توصيف أوضاع مناطق الأقليات القومية، فقد عانت من ويلات تردي الخدمات الرئيسية العلمية والطبية والمهنية والخدمية عموماً، بصورة مشابهة لمناطق عديدة
موصوفة في المناطق العربية، الأمر الذي يعكس، في جانب منه، سياسة الأنظمة الإقصائية والاستهتارية بواحدٍ من مكونات الدولة، كما يعكس، من جانب آخر، إقصائية الأنظمة واستهتارها بالمواطن وبمشكلاته، وبمعاناته عموماً، وبغض النظر عن انتمائه القومي. لتساهم سياسة الأنظمة التخريبية والإقصائية في توحيدٍ، ولو أولي، لنضال جميع مكونات الشعب ضمن السياق الثوري الأخير، فقد انصهرت دماء مختلف مكونات الشعب القومية وحناجرهم في تعبيرها عن رفضها سياسات النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما عبرت عن رفضها الانتقاص من حقوق الأقليات القومية الثقافية والسياسية، وهو ما عزّز من آمال تحقيق الوحدة الاجتماعية الحرة ما بعد نجاح الثورات.
لكن، ونتيجة نجاح الأنظمة في الاستمرار بالحكم، سواء عبر الالتفاف على الثورات، أو عبر الدعم الدولي والإقليمي لها، ونتيجة حاجة الثورات إلى مزيد من الوقت والجهد، حتى تتمكن أولاً من هزيمة الأنظمة المطلقة، وثانياً من تشييد مرتكزات الدولة المنشودة، فقد تصاعدت الأصوات التي تدعو أبناء الأقليات القومية إلى انتهاز الفرصة التاريخية الراهنة، وإقامة دولتهم المنشودة، هذه الفرصة المتشكلة من انهيار (أو ضعف) البنية الأمنية للأنظمة التي طالما حرصت على الحفاظ عليها قويةً، لضمان سيطرتها على المجتمع. وثانياً، نتيجة حالة التصادم والتخبط الدولية والإقليمية ما بعد الثورات، والتي أتاحت مساحة أوسع، ولو نسبياً عن الموجودة ما قبل الثورات. وأخيراً، نتيجة عجز الثورات عن تحديد ملامح الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المنشودة، أي تحديد البرنامج الممثل للثورة، والذي يرتبط بشكل مباشر بممثلي الثورات. طبعا قد تكون هناك عوامل أخرى، إلا أنها أهم العوامل المؤثرة في هذا الشأن، لا سيما العامل الأخير الذي يتجلى بعد مشاركة أطيافٍ من الأقليات في الحركة الثورية وتعويلهم عليها، من أجل غد أفضل، يعكس حقوق مكونات المجتمعات المحلية وتطلعاتها، فضلاً عن أهميته في تجسيد الروابط الاجتماعية القائمة بين جميع مكونات المجتمع ما قبل الثورات، من أجل تطويرها وتعزيزها في قادم الأيام.
وعليه، يمكن القول إن مطالب الأقليات القومية اليوم أو غداً في ممارسة حقها في تقرير المصير على أراضيها التاريخية ينطلق من مخاوفها من عودة القبضة الأمنية الاستبدادية، ومن تأخر الثورات عن تحديد التصور لما بعدها. التصور الذي قد يعزّز من حضور الأصوات العربية وغير العربية الداعية إلى وحدة مصير ووحدة حاضر شعوب المنطقة ومستقبلها، عبر بناء الدولة القوية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، دولة العدالة والحرية والمساواة، دولة تساوي في حقوق جميع مواطنيها الثقافية والسياسية والاجتماعية، دولة تنطلق من بناء الإنسان الحر
والمستقل، تحمي حقوقه الفردية والجماعية، وتبني نظاماً علمياً عصرياً ومتطوراً من أجل خدمة المواطن، ومن أجل بناء منظومة اقتصادية إنتاجية صناعية وزراعية قوية ومتطورة، ومنافسة لإمبراطويات الاقتصاد والإنتاج العالمية. وأخيراً دولة تمتلك منظومة أمنية قوية، من أجل حماية مواطنيها من جميع المخاطر الخارجية، على النقيض من البنية الأمنية الراهنة، القائمة على أسر المواطنين واعتقالهم، وسلب حقوقهم الجماعية والفردية على حد سواء.
حق تقرير المصير هو الطريق الأفضل لحل جميع القضايا القومية، سواء عبر إقامة الدولة القومية المنشودة بعد حل جميع المسائل الإشكالية المرتبطة بهوية هذه المنطقة الجغرافية أو تلك القومية، أو من خلال الاندماج والانصهار الوطني على قاعدة حماية جميع الحقوق الفردية والجماعية والقومية. وهو ما يتطلب منا تكثيف الجهود من أجل وضع خطة عمل وطنية، ترتقي بالدولة والمجتمع إلى مصاف دول العالم المتحضرة والقوية اقتصادياً واجتماعياً، فمن دون جو من الثقة المتبادلة، والثقة بالمستقبل المنظور والبعيد، المشترك والملامس حاجات جميع أبناء المجتمع تضحي المطالبة بالوحدة الاجتماعية مجرد ضربٍ من الخيال، وتصبح الحاجة لبناء الدولة الأمة حاجة قومية ومصلحة فردية وجماعية لأبنائها، سواء قامت من خلال حقها في تقرير مصيرها، أو دفعناها، بتعصبنا ومغالاتنا غير المبرّرة، نحو ممارسة نضالها القومي لتحقيقها.
75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.