12 مارس 2022
الديمقراطية متخيلاً.. وواقعاً
كانت الديمقراطية في مقدمة مطالب الثورات العربية التي اندلعت عام 2011. وهذا طبيعي، لأنّه نتاج أمرين: أولهما، سطوة الاستبداد الثوري، بشقية القومي والاشتراكي، إذ دفع حجم العسف الذي أظهرته هذه التجارب، في سياق ممارستها اليومية، الوعي إلى البحث عن بدائل أفضل، فكان النموذج الديمقراطي الليبرالي. وثانيهما، سقوط المعسكر الاشتراكي وانتصار الغرب، بما يعني ذلك انتصار قيمه المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما عزّزته عموما الثورات الملونة في أكثر من مكان، منذ ذلك الوقت.
على الرغم من هذا التبني المفرط للديمقراطية عربياً، إلا أنّ الممارسة اليومية للقوى والجماهير الساعية إلى التغيير بيّنت، خلال حراكها، عن أزمة عميقة في فهم الديمقراطية وتبنيها، فنحن إزاء قوىً ترفع الديمقراطية يافطة، لكنها تمارس عكسها على الأرض، ما يحيلنا إلى مفهوم الديمقراطية عند هؤلاء وكيفة تشكّله، ولماذا يبدو هذا التناقض بين تنبي الديمقراطية فكرة وممارستها على الأرض، أو عدم القبول بنتائجها واقعا؟
أغلب القوى السياسية التي تبنت الديمقراطية تبنتها رد فعل على استبداد النظم، وكآلية سياسوية لإحراج النظام أكثر مما تبنتها آلية عمل عبر تبني جوهرها وآليات عملها العميقة، وهو ما يدل عليه خلو برامج هذه القوى والأحزاب من أي تنظير أو تفكير عميق بالمسألة الديمقراطية، ناهيك عن صعوبة العثور على ملمح "ممارسة ديمقراطية" حقيقية في الممارسة اليومية لهذه الأحزاب، التي تؤبد قادتها على قيادتها كما تؤبد النظام الحاكم على عرش البلاد.
وإذ لا شك أن الجماهير، وقد عاشت في ظل الاستبداد، حملت كثيرا من أمراضه، ولم يتح لها عمليا تبني الديمقراطية فكرة حرة، أو ممارستها، فهي آمنت بها بوصفها يوتوبيا خلاصية من الاستبداد أكثر مما آمنت بها فكرة عملية، أي كان الإيمان بالديمقراطية حاضرا أكثر مما حضر التفكير بها، أي أن المعطى الغيبي الإيماني في تبني الديمقراطية أكبر بكثير من المعطى الواقعي الذي يعتبرها مجرد فكرة قابلة للنمو والنقد والتحليل والتفكير والتطويع، بما يتلاءم مع الأرض والحوامل الاجتماعية المفترض أن تحمل هذه الديمقراطية.
يعني ما سبق، في ما يعني، أن الوعي بالديمقراطية كان هشّا حين اندلعت ثورات الربيع العربي، فليس هناك سوى الديمقراطية شعارا من دون وجود وعي ديمقراطي، وقوى تقدمية ديمقراطية تؤطر الفكر الديمقراطي في إطار ممارسة سياسية يومية، بحيث تتحول الثورة إلى مجال تغيّر وتغيير في الوعي القائم باتجاه وعي أرقى. وأسفر غياب هذا الأمر، في حقيقة الأمر، عن أمرين خطيرين: الأول، تحالف تلك القوى مع "أي كان" لإسقاط الاستبداد، وهذا طبيعي، فالمقدمات الخاطئة تقود إلى نتائج خاطئة، إذ سبق أعلاه أنّ تبني هذه القوى للديمقراطية كان سياسويا، وليس سياسيا فكريا، فالأولوية لإسقاط الاستبداد وليس لإرساء الديمقراطية في فكر هذه القوى، وهو ما اقتضى هذا التحالف الذي فتح الباب لتقدم المعسكر الجهادي واستيلائه على الثورات، وخصوصا السورية منها. والثاني، أن الديمقراطية، وفق وعي الجماهير، تكشفت عن ضيق بالديمقراطية نفسها، إذ تبين أن الديمقراطية التي يريدها هؤلاء هي أن تكون أفكارهم ورؤاهم هي السائدة، فالإسلامي يريد الديمقراطية التي تجعل مفاتيح البلد بيد الأكثرية، والكردي يريد الديمقراطية التي تعطيه حق تقرير المصير، والأقلوي يريد الديمقراطية التي تتبنّى العلمانية، واليسار يريد ديمقراطيةً تقترن بنظام اقتصادي اشتراكي، فيما يريد الليبرالي اقتصادا يسمح بحرية السوق.. وهكذا تخندق كل منهم خلف "ديمقراطيته"، إذ لم يفهم هؤلاء حتى اليوم أن ألف باء الديمقراطية يعني القبول بكل هذه التيارات جزءا من اللعبة السياسية، بدءا من اليمين الإسلامي وليس انتهاءً بأقصى اليسار، من دون أن ننسى الخيارات الاجتماعية للبشر التي تحميها الديمقراطية، ونعني بذلك حرية الإيمان أو الإلحاد، وحرية اختيار الهوية الجنسية وغيرها، فما نراه اليوم من مجتمعاتنا، على الرغم من خجله، وعلى الرغم من رفض كثيرين له، هو أحد نتائج الديمقراطية التي تسمح بأن يخرج كل ما تحت السطح إلى أن يقف تحت ضوء الشمس، بشرعية الديمقرطية وبكرامة، ومن دون أن يهينه أحد أو يطعن بأفكاره أو خياراته أحد، كائنا ما كانت هذه الأفكار.. أليست الديمقراطية شعارنا، فهل نقبل بكل ما تنتجه حقا؟
على الرغم من هذا التبني المفرط للديمقراطية عربياً، إلا أنّ الممارسة اليومية للقوى والجماهير الساعية إلى التغيير بيّنت، خلال حراكها، عن أزمة عميقة في فهم الديمقراطية وتبنيها، فنحن إزاء قوىً ترفع الديمقراطية يافطة، لكنها تمارس عكسها على الأرض، ما يحيلنا إلى مفهوم الديمقراطية عند هؤلاء وكيفة تشكّله، ولماذا يبدو هذا التناقض بين تنبي الديمقراطية فكرة وممارستها على الأرض، أو عدم القبول بنتائجها واقعا؟
أغلب القوى السياسية التي تبنت الديمقراطية تبنتها رد فعل على استبداد النظم، وكآلية سياسوية لإحراج النظام أكثر مما تبنتها آلية عمل عبر تبني جوهرها وآليات عملها العميقة، وهو ما يدل عليه خلو برامج هذه القوى والأحزاب من أي تنظير أو تفكير عميق بالمسألة الديمقراطية، ناهيك عن صعوبة العثور على ملمح "ممارسة ديمقراطية" حقيقية في الممارسة اليومية لهذه الأحزاب، التي تؤبد قادتها على قيادتها كما تؤبد النظام الحاكم على عرش البلاد.
وإذ لا شك أن الجماهير، وقد عاشت في ظل الاستبداد، حملت كثيرا من أمراضه، ولم يتح لها عمليا تبني الديمقراطية فكرة حرة، أو ممارستها، فهي آمنت بها بوصفها يوتوبيا خلاصية من الاستبداد أكثر مما آمنت بها فكرة عملية، أي كان الإيمان بالديمقراطية حاضرا أكثر مما حضر التفكير بها، أي أن المعطى الغيبي الإيماني في تبني الديمقراطية أكبر بكثير من المعطى الواقعي الذي يعتبرها مجرد فكرة قابلة للنمو والنقد والتحليل والتفكير والتطويع، بما يتلاءم مع الأرض والحوامل الاجتماعية المفترض أن تحمل هذه الديمقراطية.
يعني ما سبق، في ما يعني، أن الوعي بالديمقراطية كان هشّا حين اندلعت ثورات الربيع العربي، فليس هناك سوى الديمقراطية شعارا من دون وجود وعي ديمقراطي، وقوى تقدمية ديمقراطية تؤطر الفكر الديمقراطي في إطار ممارسة سياسية يومية، بحيث تتحول الثورة إلى مجال تغيّر وتغيير في الوعي القائم باتجاه وعي أرقى. وأسفر غياب هذا الأمر، في حقيقة الأمر، عن أمرين خطيرين: الأول، تحالف تلك القوى مع "أي كان" لإسقاط الاستبداد، وهذا طبيعي، فالمقدمات الخاطئة تقود إلى نتائج خاطئة، إذ سبق أعلاه أنّ تبني هذه القوى للديمقراطية كان سياسويا، وليس سياسيا فكريا، فالأولوية لإسقاط الاستبداد وليس لإرساء الديمقراطية في فكر هذه القوى، وهو ما اقتضى هذا التحالف الذي فتح الباب لتقدم المعسكر الجهادي واستيلائه على الثورات، وخصوصا السورية منها. والثاني، أن الديمقراطية، وفق وعي الجماهير، تكشفت عن ضيق بالديمقراطية نفسها، إذ تبين أن الديمقراطية التي يريدها هؤلاء هي أن تكون أفكارهم ورؤاهم هي السائدة، فالإسلامي يريد الديمقراطية التي تجعل مفاتيح البلد بيد الأكثرية، والكردي يريد الديمقراطية التي تعطيه حق تقرير المصير، والأقلوي يريد الديمقراطية التي تتبنّى العلمانية، واليسار يريد ديمقراطيةً تقترن بنظام اقتصادي اشتراكي، فيما يريد الليبرالي اقتصادا يسمح بحرية السوق.. وهكذا تخندق كل منهم خلف "ديمقراطيته"، إذ لم يفهم هؤلاء حتى اليوم أن ألف باء الديمقراطية يعني القبول بكل هذه التيارات جزءا من اللعبة السياسية، بدءا من اليمين الإسلامي وليس انتهاءً بأقصى اليسار، من دون أن ننسى الخيارات الاجتماعية للبشر التي تحميها الديمقراطية، ونعني بذلك حرية الإيمان أو الإلحاد، وحرية اختيار الهوية الجنسية وغيرها، فما نراه اليوم من مجتمعاتنا، على الرغم من خجله، وعلى الرغم من رفض كثيرين له، هو أحد نتائج الديمقراطية التي تسمح بأن يخرج كل ما تحت السطح إلى أن يقف تحت ضوء الشمس، بشرعية الديمقرطية وبكرامة، ومن دون أن يهينه أحد أو يطعن بأفكاره أو خياراته أحد، كائنا ما كانت هذه الأفكار.. أليست الديمقراطية شعارنا، فهل نقبل بكل ما تنتجه حقا؟