08 نوفمبر 2024
الجوهرة المختفية
لدي ميل إلى الاعتقاد أن الكائن البشري منا هو شخصان في شخص واحد، الشخص الذي هو (أنا) مثلاً، أنا الشخصية الظاهرة التي يعرفني الآخرون باسمي وبصفاتي وبسلوكي وبمسار حياتي، وببصمتي في الحياة، ولا يتوهون عني أبداً، إذ ثمّة علاماتٌ واضحة تميزني، كما هي العلامات الواضحة التي تميز الآخرين بالنسبة لي. وهناك الشخص الآخر، أو الشخصية الأخرى ربما، التي تعيش جنباً إلى جنب مع شخصيتي الظاهرة، وهي شخصيةٌ لا يعرفها أحد أبداً، مختفية بي، وتعيش على ما أستقبله أنا الظاهرة، شخصية متصلة بي فقط، لا تسعى إلى أن تكون مفهومة من الآخرين، إذ لا يعنيها من الآخرين شيء، ما يهمّها هو حواراتها المستمرة معي، وجدالنا وتشابكنا الذي لا ينتهي، وحتى خلافاتنا التي تصل إلى حد تجاهل كلتينا الأخرى وقتاً معيناً، قبل أن نعود إلى ما نحن فيه على مدار الوقت.
يتأكد هذا الميل لدي، مثلاً، كلما تعرفت إلى رجل، وحصل بيننا نوعٌ من الإعجاب، مباشر وبسيط، ولا يحتمل التأويلات، أو البناء عليه، (على الرغم من أنني تجاوزت الخمسين، لكنني ما زلت أفتن أحياناً برجل أشاهده للمرة الأولى)، أو كلما زرت مكاناً جديداً وأدهشتني روعته، أو كلما تعرّفت إلى أصدقاء جدد يشبهونني، من منكم ليس هكذا؟! يـتأكد هذا الميل، حين أنتبه إلى نفسي، كيف أندفع بالتعبير عن مشاعري نحو الحالة التي أسرتني، أو أعجبت بها للتو. أنفعل وأتدفق، وأشعر بأن ثمّة سيلاً من الكلمات والمشاعر يريد أن يفيض، بهيجانٍ وبسرعة شديدين، كأنني في سباق مع شيءٍ ما، كأنني أخشى أن تهرب هذه اللحظة مني، فأفقدها إلى الأبد، كأنني لا أثق بالزمن، أخشى أن يغدر بي ويفقدني دهشتي أو ما أدهشني.
تدفق مشاعري واهتمامي باللحظة التي أعيش فيها، وحرصي الشديد على بقائها واستمرارها، قد يأتي بعكس ما أريد، قد يبدو كما لو أنه حالة مرضية، لم لا؟ لم لا يكون مرضاً فعلاً، من منا خالٍ من رواسب الزمن والتربية والبيئة والمعرفة الذاتية والذائقة؟ نحن حصيلة ذلك كله، وسلوكنا هو في سياق هذه الحصيلة، غير أننا، في الأغلب، لا نرى أمراضنا ومشكلاتنا، ولفرط تنمّرنا ندل على أمراض الآخرين. إذاً سأسمي حالتي هذه مرضاً، لا يعيبني ذلك، هوساً ربما. هوسٌ بكل ما يستفز عندي حالة الشغف والتوهج، هوسٌ وتعلق. لا بأس، لن يتفهم كثيرون حالتي هذه، وربما شعروا بالنفور مني، أو على الأقل ربما تغيرت نظرتهم إلي. نحن أيضاً، في العموم، نفهم الآخرين بناء على ما نسقطه عليهم، على رؤيتنا ومنهجنا نحن، لا على ما هم عليه، وهذا غالباً هو ما يسبب معظم خلافاتنا مع الآخرين.
في هذه اللحظة، اللحظة التي أصاب فيها بالخيبة والوجع، لسوء فهم الآخرين لي، وأقوم بخطوات مرهقة كي أتغيّر، وأكون عند حسن ظن الآخرين بي، تظهر الأنا المختفية في داخلي، وتبدأ الاشتباك معي. تخلع عني، أنا الأخرى، أردية الآخرين، الذين أريد أن أكون عند حسن ظنهم بي، ثم تريني الفتوق والرقع في تلك الأردية، وتحضر لي أرديتي، وتذكّرني كم هي قليلة، وتخبرني أنني إذا ما أصررت على التغير كي أتوافق مع أردية الآخرين، لن أعود أشبه أناي المختفية. سأشبه الكثيرين إلا أنا، بشخصيتيّ، الظاهرة والمختفية، تعيدني أنا المختفية إلى توازني، إلى إدراكي الكامل لما اخترته في حياتي، إلى سلوكي الطبيعي والعفوي المنسجم مع رؤيتي للحياة، تزيل العكر عن مشاعري وتوهجها أكثر، مشاعري التي تخصّني، مشاعري تجاه الحياة والأشياء والأشخاص، تعيدني إلى الثقة بذاتي، إلى الجوهر الذي يتشكل منه سلوكي الواعي، الجوهر المصاغ من حصيلةٍ طويلةٍ من الخبرات والتجارب والاشتباك مع الحياة، الجوهر الذي أراه عند الآخرين أيضاً من دون أن أسمح لنفسي بإطلاق حكم قيمي وأخلاقي على ظاهرهم، تماماً كما أريدهم أن يفعلوا معي.
أنا المختفية، تعيد الوهج إلى أنا الظاهرة كلما ابتعد عنها الوهج، شرط الثقة بوجود أنا المختفية، وبحضورها القوي. انتبهوا إلى أناكم المختفية، إلى جوهركم الداخلي، كي تروا جوهر الآخرين.
يتأكد هذا الميل لدي، مثلاً، كلما تعرفت إلى رجل، وحصل بيننا نوعٌ من الإعجاب، مباشر وبسيط، ولا يحتمل التأويلات، أو البناء عليه، (على الرغم من أنني تجاوزت الخمسين، لكنني ما زلت أفتن أحياناً برجل أشاهده للمرة الأولى)، أو كلما زرت مكاناً جديداً وأدهشتني روعته، أو كلما تعرّفت إلى أصدقاء جدد يشبهونني، من منكم ليس هكذا؟! يـتأكد هذا الميل، حين أنتبه إلى نفسي، كيف أندفع بالتعبير عن مشاعري نحو الحالة التي أسرتني، أو أعجبت بها للتو. أنفعل وأتدفق، وأشعر بأن ثمّة سيلاً من الكلمات والمشاعر يريد أن يفيض، بهيجانٍ وبسرعة شديدين، كأنني في سباق مع شيءٍ ما، كأنني أخشى أن تهرب هذه اللحظة مني، فأفقدها إلى الأبد، كأنني لا أثق بالزمن، أخشى أن يغدر بي ويفقدني دهشتي أو ما أدهشني.
تدفق مشاعري واهتمامي باللحظة التي أعيش فيها، وحرصي الشديد على بقائها واستمرارها، قد يأتي بعكس ما أريد، قد يبدو كما لو أنه حالة مرضية، لم لا؟ لم لا يكون مرضاً فعلاً، من منا خالٍ من رواسب الزمن والتربية والبيئة والمعرفة الذاتية والذائقة؟ نحن حصيلة ذلك كله، وسلوكنا هو في سياق هذه الحصيلة، غير أننا، في الأغلب، لا نرى أمراضنا ومشكلاتنا، ولفرط تنمّرنا ندل على أمراض الآخرين. إذاً سأسمي حالتي هذه مرضاً، لا يعيبني ذلك، هوساً ربما. هوسٌ بكل ما يستفز عندي حالة الشغف والتوهج، هوسٌ وتعلق. لا بأس، لن يتفهم كثيرون حالتي هذه، وربما شعروا بالنفور مني، أو على الأقل ربما تغيرت نظرتهم إلي. نحن أيضاً، في العموم، نفهم الآخرين بناء على ما نسقطه عليهم، على رؤيتنا ومنهجنا نحن، لا على ما هم عليه، وهذا غالباً هو ما يسبب معظم خلافاتنا مع الآخرين.
في هذه اللحظة، اللحظة التي أصاب فيها بالخيبة والوجع، لسوء فهم الآخرين لي، وأقوم بخطوات مرهقة كي أتغيّر، وأكون عند حسن ظن الآخرين بي، تظهر الأنا المختفية في داخلي، وتبدأ الاشتباك معي. تخلع عني، أنا الأخرى، أردية الآخرين، الذين أريد أن أكون عند حسن ظنهم بي، ثم تريني الفتوق والرقع في تلك الأردية، وتحضر لي أرديتي، وتذكّرني كم هي قليلة، وتخبرني أنني إذا ما أصررت على التغير كي أتوافق مع أردية الآخرين، لن أعود أشبه أناي المختفية. سأشبه الكثيرين إلا أنا، بشخصيتيّ، الظاهرة والمختفية، تعيدني أنا المختفية إلى توازني، إلى إدراكي الكامل لما اخترته في حياتي، إلى سلوكي الطبيعي والعفوي المنسجم مع رؤيتي للحياة، تزيل العكر عن مشاعري وتوهجها أكثر، مشاعري التي تخصّني، مشاعري تجاه الحياة والأشياء والأشخاص، تعيدني إلى الثقة بذاتي، إلى الجوهر الذي يتشكل منه سلوكي الواعي، الجوهر المصاغ من حصيلةٍ طويلةٍ من الخبرات والتجارب والاشتباك مع الحياة، الجوهر الذي أراه عند الآخرين أيضاً من دون أن أسمح لنفسي بإطلاق حكم قيمي وأخلاقي على ظاهرهم، تماماً كما أريدهم أن يفعلوا معي.
أنا المختفية، تعيد الوهج إلى أنا الظاهرة كلما ابتعد عنها الوهج، شرط الثقة بوجود أنا المختفية، وبحضورها القوي. انتبهوا إلى أناكم المختفية، إلى جوهركم الداخلي، كي تروا جوهر الآخرين.