31 أكتوبر 2024
ضاع المشرق.. ولم يسطر ترامب استراتيجيته
لا تحتاج مواجهة تمدّد النفوذ الإيراني في سورية إلى خطط واستراتيجياتٍ معقدة، يعلنها البيت الأبيض بكلام حاسمٍ، وبمرافقة موسيقى تصويرية، ووجه متحدث عابس، تلك حالة إعلان الحرب. وفي الحروب لا توجد إستراتيجية واحدة ثابتة، في حين أن التحديات التي يفرضها المشروع الإيراني تحتاج إلى إنشاء بنىً عسكرية ودفاعية، وأنساق وخطوط إمداد ومراكز تدريب. شيء يحدث عبر فترات طويلة، ويحتاج إلى صبر وأناة وجهود متراكمة، أو فإن البديل ضربة ساحقة لإيران، تسقط نظامها السياسي، وتفكك جيشها، وتخرج مفاعيل قوتها بالكامل عن الاشتغال.
باستثناء ذلك، لا يعدو الأمر أكثر من تخبطٍ تمارسه إدارة الرئيس دونالد ترامب، الموزّعة بين حزمةٍ من الأزمات الداخلية والخارجية، ما يفقدها التركيز على أي واحدةٍ منها، بل تنذر هذه الأزمات بارتدادتٍ سلبيةٍ جدا على موقع الولايات المتحدة في النظام العالمي، وتأثيراتها على تفاعلاته.
أثار سقوط مدينة البوكمال السورية بيد قوات تحالف إيران موجة تساؤلاتٍ عن حقيقة الاستراتيجية الأميركية المزعومة في مواجهة التمدّد الإيراني في المنطقة، وكان الخبراء الأميركيون أنفسهم قد نبهوا إلى الحساسية الإستراتيجية العالية لهذه المدينة بوصفها العقدة التي تؤمن ربط مشروع إيران الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، وتدعم موقفها اللوجستي إلى درجةٍ يجعل لها أفضلية في الصراع المديد في هذه المنطقة.
قبل أيام، كتب جون هانا في مجلة "فورين بوليسي"، وهو دبلوماسي أميركي مخضرم، شغل
مناصب سياسية وأمنية، مقالاً على شكل رسالة طرح فيها جملة أسئلةٍ على ترامب حول إستراتيجيته في مواجهة إيران، وقال "في حال كنت جادا في التصدّي للعدوان الإيراني، فعليك أن تتحرّك على وجه السرعة لتمنع إيران من محاولة الهيمنة على ساحة المعركة. لكن، إذا لم تقم بذلك، ووقفت متفرّجا لتسمح للحرس الثوري الإيراني بتأكيد سيطرته السياسية والاقتصادية والعسكرية على المنطقة، انطلاقا من باكستان مرورا بالعراق، ووصولا إلى تركيا، وتمكينه من إقامة جسر بري، يمتد من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط، ستصبح استراتيجيتكم الإيرانية من التحركات التي ولدت ميتة، وسرعان ما ستختفي في غياهب النسيان خلال بضعة أشهر قصيرة من الكشف عنها".
وثمّة سؤال مشروع بشأن كيفية مواجهة ترامب نفوذ إيران بأوراق قوة معدومة، والأدوات القادرة لديه على تنفيذ هذه المهمة. وليست صحيحة بالمطلق الذرائع التي يقدمها ترامب بأن إدارة سلفه باراك أوباما قلصت خياراته بشكل كبير، وحدّدتها ضمن نطاقاتٍ ضيقة، وتحديداً في إستراتيجية قطع طريق إيران البري إلى المتوسط، كان هناك متسع من الوقت أمام ترامب، كي يصنع شيئا مختلفا. والغريب أنه بدل أن يبني أنساقا دفاعية على طول تلك المنطقة، قام بتفكيك البنى التي تساعده في إنجاز هذه المهمة، عندما رفع الغطاء عن فصائل البادية السورية، وتركها تحت رحمة الطائرات الروسية.
لكن، في المقابل، ثمّة أسئلة ما تزال محيّرة تلف غموض الموقف الأميركي أمام التمدد الإيراني الانسيابي، والذي لم يواجه عقبات أميركية تذكر، فهل عدّلت الإدارة الأميركية إستراتيجيتها من المواجهة المفتوحة في صحراء العراق وسورية إلى تركيز قوّتها ضمن نطاق منطقة صغيرة وهزيمة إيران فيها، والدليل أن أميركا تكثف من أصولها العسكرية في إسرائيل، وخصوصا المتعلقة بمضادات الصواريخ، وهل سبب ذلك أن حسابات الإدارة الأميركية تلحظ أن الحرب في الصحراء، وعند حدود سورية والعراق، ستكون قريبة من مراكز ثقل حلفاء إيران، وأن خطوط إمدادهم ستكون سهلة، وهل التفوق اللوجستي هناك أكبر لصالح إيران، بينما تواجه أميركا مشكلات لوجستية على مستوى خطوط الإمداد البعيدة. وبالتالي، لن تكون المعركة رابحة؟ وأخيراً، هل ترى أميركا وإسرائيل أن إيران لن تستفيد كثيرا من إنجازها هذا، طالما أن طريقها في سورية ولبنان سيكون مرصوداً من أسلحة الجو، بما يمكنها من تدمير القوافل التي تسير عليه، وتحويله تالياً من ميزةٍ إلى وسيلةٍ لاستنزاف إيران وحلفائها؟
قد يكون ذلك صحيحا في جزء منه، لكنه بالمعنى العام يعني تحوّل الإستراتيجية الأميركية إلى دفاعية بدل هجومية، كما أن الأخطر من ذلك أنها تكشف عن استعداد أميركا للمغامرة بالمدنيين والمدن في سورية والعراق، بعد أن تترك الإيرانيين يتغلغلون فيها، ويعني أنها تتيح لإيران عمقا إستراتيجيا هائلا يجعلها قادرةً على مواصلة الحرب سنوات طويلة، ويمنحها المبرّر الشرعي لإحداث تغييرات ديمغرافية حاسمة في المنطقة، بذريعة مواجهة العدوان الأميركي على سورية والعراق، وتعطيل تحرير فلسطين.
ولعلّ المؤكد في قراءة هذا المشهد الأميركي المتناقض أن ترامب ليس رجل إستراتيجياتٍ يعوّل
عليه، بقدر ما ثبت أنه رجل صفقات. وفي كل الأزمات التي واجهها لم يستطع إبجاد مخارج تليق بحجم الولايات المتحدة الأميركية ومكانتها، بل كان ماهراً في تحويل الأزمات إلى فرص للاستثمار المالي، ولن يكون مستغربا أن خصومه الإقليميين والدوليين قرأوا ذلك جيداً، وانتجوا إستراتيجيات مواجهة ترتكز على أساس حساباته ذات الحساسية العالية تجاه التكاليف الكبيرة لأي استراتيجية مواجهة ناجعة، بالإضافة إلى نزقه، وعدم صبره على تثمير سياساتٍ بعيدة المدى لإخضاع خصومه. وربما هذا ما يفسر استهتار خصومه به، من بيونغ يانغ إلى طهران، واستسهالهم مواجهته.
وأيا تكن خيارات الإدارة الأميركية أو الإستراتيجية التي ستفرج عنها لاحقاً، فمن الواضح أن مخرجاتها ستصب في سياق زيادة نكبة المشرق العربي، ورفع مستويات تدميره، وتفكيك مجتمعاته، وأنها ستمنح لإيران مساحات واسعة من المناورة والحركة، سوف يدفع ثمنها الأطراف والمكونات المستهدفة من إيران بالدرجة الأولى.
باستثناء ذلك، لا يعدو الأمر أكثر من تخبطٍ تمارسه إدارة الرئيس دونالد ترامب، الموزّعة بين حزمةٍ من الأزمات الداخلية والخارجية، ما يفقدها التركيز على أي واحدةٍ منها، بل تنذر هذه الأزمات بارتدادتٍ سلبيةٍ جدا على موقع الولايات المتحدة في النظام العالمي، وتأثيراتها على تفاعلاته.
أثار سقوط مدينة البوكمال السورية بيد قوات تحالف إيران موجة تساؤلاتٍ عن حقيقة الاستراتيجية الأميركية المزعومة في مواجهة التمدّد الإيراني في المنطقة، وكان الخبراء الأميركيون أنفسهم قد نبهوا إلى الحساسية الإستراتيجية العالية لهذه المدينة بوصفها العقدة التي تؤمن ربط مشروع إيران الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، وتدعم موقفها اللوجستي إلى درجةٍ يجعل لها أفضلية في الصراع المديد في هذه المنطقة.
قبل أيام، كتب جون هانا في مجلة "فورين بوليسي"، وهو دبلوماسي أميركي مخضرم، شغل
وثمّة سؤال مشروع بشأن كيفية مواجهة ترامب نفوذ إيران بأوراق قوة معدومة، والأدوات القادرة لديه على تنفيذ هذه المهمة. وليست صحيحة بالمطلق الذرائع التي يقدمها ترامب بأن إدارة سلفه باراك أوباما قلصت خياراته بشكل كبير، وحدّدتها ضمن نطاقاتٍ ضيقة، وتحديداً في إستراتيجية قطع طريق إيران البري إلى المتوسط، كان هناك متسع من الوقت أمام ترامب، كي يصنع شيئا مختلفا. والغريب أنه بدل أن يبني أنساقا دفاعية على طول تلك المنطقة، قام بتفكيك البنى التي تساعده في إنجاز هذه المهمة، عندما رفع الغطاء عن فصائل البادية السورية، وتركها تحت رحمة الطائرات الروسية.
لكن، في المقابل، ثمّة أسئلة ما تزال محيّرة تلف غموض الموقف الأميركي أمام التمدد الإيراني الانسيابي، والذي لم يواجه عقبات أميركية تذكر، فهل عدّلت الإدارة الأميركية إستراتيجيتها من المواجهة المفتوحة في صحراء العراق وسورية إلى تركيز قوّتها ضمن نطاق منطقة صغيرة وهزيمة إيران فيها، والدليل أن أميركا تكثف من أصولها العسكرية في إسرائيل، وخصوصا المتعلقة بمضادات الصواريخ، وهل سبب ذلك أن حسابات الإدارة الأميركية تلحظ أن الحرب في الصحراء، وعند حدود سورية والعراق، ستكون قريبة من مراكز ثقل حلفاء إيران، وأن خطوط إمدادهم ستكون سهلة، وهل التفوق اللوجستي هناك أكبر لصالح إيران، بينما تواجه أميركا مشكلات لوجستية على مستوى خطوط الإمداد البعيدة. وبالتالي، لن تكون المعركة رابحة؟ وأخيراً، هل ترى أميركا وإسرائيل أن إيران لن تستفيد كثيرا من إنجازها هذا، طالما أن طريقها في سورية ولبنان سيكون مرصوداً من أسلحة الجو، بما يمكنها من تدمير القوافل التي تسير عليه، وتحويله تالياً من ميزةٍ إلى وسيلةٍ لاستنزاف إيران وحلفائها؟
قد يكون ذلك صحيحا في جزء منه، لكنه بالمعنى العام يعني تحوّل الإستراتيجية الأميركية إلى دفاعية بدل هجومية، كما أن الأخطر من ذلك أنها تكشف عن استعداد أميركا للمغامرة بالمدنيين والمدن في سورية والعراق، بعد أن تترك الإيرانيين يتغلغلون فيها، ويعني أنها تتيح لإيران عمقا إستراتيجيا هائلا يجعلها قادرةً على مواصلة الحرب سنوات طويلة، ويمنحها المبرّر الشرعي لإحداث تغييرات ديمغرافية حاسمة في المنطقة، بذريعة مواجهة العدوان الأميركي على سورية والعراق، وتعطيل تحرير فلسطين.
ولعلّ المؤكد في قراءة هذا المشهد الأميركي المتناقض أن ترامب ليس رجل إستراتيجياتٍ يعوّل
وأيا تكن خيارات الإدارة الأميركية أو الإستراتيجية التي ستفرج عنها لاحقاً، فمن الواضح أن مخرجاتها ستصب في سياق زيادة نكبة المشرق العربي، ورفع مستويات تدميره، وتفكيك مجتمعاته، وأنها ستمنح لإيران مساحات واسعة من المناورة والحركة، سوف يدفع ثمنها الأطراف والمكونات المستهدفة من إيران بالدرجة الأولى.