08 نوفمبر 2024
السعودية.. أيُّ محنةٍ في لبنان
إن كان ثمة محنة تعانيها القيادة السعودية، هذه الأيام، فإن لبنان هو المكان الذي تجلت فيه هذه المحنة بأوضح صوَرِها، فالفشل الذي لحق بالسياسة السعودية، منذ تدخُّلها في حرب اليمن، ثم عبر حصارها دولة قطر، لم يجد القادة السعوديون، على ما يبدو، سبيلاً للخروج منه سوى بالتصعيد في لبنان، من خلال استدعاء رئيس حكومته، سعد الحريري، وما بات مسلّماً به أنه إجباره على تقديم استقالته من الرياض. وإن كان هذا التصعيد ردا على إيران، بسبب تحميلها مسؤولية إطلاق جماعة الحوثي في اليمن صاروخاً على الرياض، فإنه سيجلب لها استعداءً أخذت تتجلى ملامحه في بيروت، شيئاً فشيئاً.
ولم تكن السعودية، المستنفرة هذه الأيام، بحاجة إلى صاروخٍ، تطلقه جماعة الحوثي، نحو أراضيها، لكي توزع تهديداتها في كل الاتجاهات، محمِّلةً المسؤولية للجميع، خصوصاً إيران ولبنان، فحالة التوتر، الداخلي والخارجي التي تعيشها المملكة جاء الصاروخ ليضيف إليها تفاصيل صغيرة. ولا يجافي التهوّرُ التهديدات التي أطلقها غير مسؤولٍ سعودي، والتي، إن كانوا محقين بإطلاقها، نظراً لحال الخطر الذي أصبحوا في عينه، فليسوا عارفين بعواقبها، في وقتٍ تحتاج المنطقة فيه إلى تعقُّلٍ، علاوة على حاجتها إلى حل مشكلاتها العالقة، والأكثر خطورة. ومن هذه الزاوية، يبدو أن إطلاق الصاروخ جاء في وقتٍ يسعى فيه قادة المملكة إلى توتير الأجواء داخلياً وخارجياً، خصوصاً في لبنان، بانتظار حصادٍ ما، تبين أنهم يبذرون بذوره في تربةٍ تحتاج إلى صاروخٍ كي تنبتَ.
وحيث إن سعي القيادة السعودية إلى تحقيق انتصارٍ أو مواجهة إيران في اليمن، قد فشل، بعد تدخل القوات السعودية في حربه، في 25 مارس/ آذار 2015، فلربما رأت هذه القيادة أن لبنان يمكن أن يكون ساحة المواجهة الناجعة مع إيران، عبر ضرب حليفها حزب الله اللبناني، معتقدةً أنه يمكن لها أن تحصد انتصاراً ما فيه، يعيد لها بعضاً من هيبةٍ فقدتها بسبب إخفاقها في تحقيق انتصارٍ على جماعة الحوثي، تَكرَّسَ بعد احتفاظ هذه الجماعة بالقدرة على تهديد
السعودية. كما يأتي ذلك السعي، بعد إخفاقها في إخضاع دولة قطر الذي تجلى في فشلها، والدول المشاركة في الحصار، في جعل هذه الدولة تستجيب لمطالبهم، علاوة على القدرة التي ظهرت لدى قطر في تجاوز تبعات الحصار، إن لم يكن استفادتها منه للتوجه نحو تعزيز اقتصادها.
ولا يدري أحدٌ إن كان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي يرتبط به التصعيد الأخير، يهتدي بخطى الحكومات الإسرائيلية السابقة التي كانت تتبع سياسة شنِّ حروبٍ دوريةٍ على لبنان، ثم على قطاع غزة، لحصد نجاحٍ توظّفه فوزاً في الانتخابات النيابية والحكومية. فهذا الأمير الذي انقلب على ولي العهد السابق، محمد بن نايف، ثم شنَّ حملاتِ اعتقالٍ طاولت مفكّرين وأكاديميين ودعاة دينيين، يشكُّ في ولائهم له، ثم أتبعها بحملة اعتقالاتٍ أخرى، طاولت أمراء ورجال أعمال، وجرَّدهم من ثرواتهم، وفرض عليهم الإقامة الجبرية بحجة محاربة الفساد، يحتاج لنصرٍ عسكري، يتوقع أن يحقّقه في لبنان، كي يُقنع أبناء بلده بأهليته لشغل منصب ولي العهد، أولاً، ثم ملك البلاد، في خطوة لاحقة.
ولكن، هل يمكن لولي العهد هذا أن يجد ضالَّته في لبنان؟ تفيد الوقائع بأن الخطوات الأولى في هذا المسار كانت خاطئة، وتقترب من أن تستجلب له ردات فعلٍ عكسية لم يتوقعها، تنبع من طبيعة هذا البلد المعقَّدة، والتي يبدو أن هذا الأمير يجهلها. فطبيعة النظام اللبناني الذي يعتمد أهله على صيغةٍ للعيش المشترك تشبه صيغة الديمقراطية التوافقية بين طوائفه وقواه السياسية، وتتجلى بعرفٍ، يؤمن الجميع فيه، يقوم على مبدأ "لا غالب ولا مغلوب في لبنان"، هو ما أتى بالعماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، بمقابل الإتيان بسعد الحريري إلى رئاسة الحكومة. هذه الطبيعة لا يمكن لسعد الحريري أن يضربها، وهو ما ناقضه عبر ما ورد في خطاب استقالته، المجافي للأعراف الدستورية وتضمينه اتهاماتٍ لحزب الله، ولإيران من خلفه، وتهديداتٍ بقطع يدي إيران في لبنان، بتلك الخفّة التي لا تستند إلى أرضيةٍ تجعلها قابلة للتحقق، هو ما يثبت جهل محمد بن سلمان بطبيعة لبنان، وبالتالي، احتمال تبدي هذا الجهل مِحَناً إن أقدم على عمل عسكري ضد هذا البلد.
قد تكون أولى خيبات أمل السعودية في لبنان هي امتصاص حزب الله تهديدات الحريري، عبر اعترافه بنجاحاتٍ حققتها حكومة الحريري، ودعوته إلى التهدئة، من خلال دعوة أمينه العام اللبنانيين إلى عدم الانتباه إلى الشائعات، والابتعاد عن التوتر الطائفي، والامتناع عن المظاهرات في الشوارع، كيْلا يتصعَّد الوضع، وتعمقت تلك الخيبة عندما انعكست هذه المواقف تعقُّلاً لدى الفريق المواجه في تكتل "14 آذار". وهو ما تكرّر مع تهديدات وزير شؤون الدولة السعودية لشؤون الخليج، تامر السبهان، حين اعتبر أن لبنان بعد استقالة الحريري لن يكون كما قبلها، ولا منصة للإرهاب، علاوة على اعتباره الحكومة اللبنانية عدوّا.
ويرى مراقب أجواء لبنان أن استقالة الحريري، أو إجباره على الاستقالة، وما قيل إنه احتجاز له في الرياض، قد أحدث شبه انقلابٍ لدى تيار سياسي لبناني، كان، حتى يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أي قبل يوم من الاستقالة، موالياً للقيادة السعودية. كما أن تغيُّراً حدثَ في المزاج الشعبي لدى فئةٍ لبنانية كبيرة، كانت ذات هوىً سعودي، تكشّف وتعزّز إثر اغتيال
رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، رفيق الحريري، سنة 2005. وإن كان ما خرج عن اجتماع كتلة تيار المستقبل النيابية ومكتبها السياسي، بعد أربعة أيام من غياب الحريري، يتَّصف بالدبلوماسية، حين أقرَّ بأن عودة الحريري "ضرورة"، فإن ما أدلى به عضو في تيار الحريري ربما يعكس مزاج التيار الحقيقي. فقد صرَّح نهاد المشنوق، وزير الداخلية اللبناني عن تيار الحريري، رداً على ما تسرب عن إرادة سعودية في إحلال بهاء الحريري محل أخيه سعد في حكومة لبنان: "تجري الأمور في لبنان بالانتخابات، لا بالمبايعات". كما كان أكثر حِدّةً حين قال: "لسنا قطيع أغنام أو أرضا تنتقل ملكيتها من شخصٍ إلى آخر".
وعليه، إن قرَّرت السعودية توجيه ضربةٍ لحزب الله على الأراضي اللبنانية، فإنها قد تحصد عداوةً، تحلُّ محل الموالاة التاريخية التي توفرت لها لدى قسمٍ كبيرٍ من الطائفة السنية التي لا ترغب في توتير أجواء السلم الأهلي القائم حالياً، بسبب المخاطر التي يمكن أن تواجهها البلاد. حيث إن ضربةً كهذه ستُدخِل البلاد في أتون الصراعات القائمة في المنطقة، وستجعل البلاد تتفجَّر تفجُّراً، لم تفلح سنوات الحرب السبع في سورية في إحداثه. أما إن قررت توجيه ضربة لقواته وتحشُّداته في سورية، فليس معلوماً إن كان هذا سيمر مرور الكرام، أو يجد قبولاً لدى الروس الذين يجدون فيه حليفاً لهم من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، يعتبرون الأجواء السورية حكراً على قواتهم الجوية.
ومن هنا، فإن توتير السعودية الأجواء في لبنان، وإيصالها إلى حد شنّ حربٍ عليه، لن يفعل سوى تعزيز المحنة التي أدخلت نفسها فيها، بعد استقالة الحريري من الرياض. وإن كان هذا التوتير، وتلك الحرب، من حاجات ماسة لقادة الرياض، فلن تتحول سوى إلى مِحَنٍ جديدة، تضاف إلى مشكلاتهم الداخلية والخارجية التي أغرقوا أنفسهم فيها.
ولم تكن السعودية، المستنفرة هذه الأيام، بحاجة إلى صاروخٍ، تطلقه جماعة الحوثي، نحو أراضيها، لكي توزع تهديداتها في كل الاتجاهات، محمِّلةً المسؤولية للجميع، خصوصاً إيران ولبنان، فحالة التوتر، الداخلي والخارجي التي تعيشها المملكة جاء الصاروخ ليضيف إليها تفاصيل صغيرة. ولا يجافي التهوّرُ التهديدات التي أطلقها غير مسؤولٍ سعودي، والتي، إن كانوا محقين بإطلاقها، نظراً لحال الخطر الذي أصبحوا في عينه، فليسوا عارفين بعواقبها، في وقتٍ تحتاج المنطقة فيه إلى تعقُّلٍ، علاوة على حاجتها إلى حل مشكلاتها العالقة، والأكثر خطورة. ومن هذه الزاوية، يبدو أن إطلاق الصاروخ جاء في وقتٍ يسعى فيه قادة المملكة إلى توتير الأجواء داخلياً وخارجياً، خصوصاً في لبنان، بانتظار حصادٍ ما، تبين أنهم يبذرون بذوره في تربةٍ تحتاج إلى صاروخٍ كي تنبتَ.
وحيث إن سعي القيادة السعودية إلى تحقيق انتصارٍ أو مواجهة إيران في اليمن، قد فشل، بعد تدخل القوات السعودية في حربه، في 25 مارس/ آذار 2015، فلربما رأت هذه القيادة أن لبنان يمكن أن يكون ساحة المواجهة الناجعة مع إيران، عبر ضرب حليفها حزب الله اللبناني، معتقدةً أنه يمكن لها أن تحصد انتصاراً ما فيه، يعيد لها بعضاً من هيبةٍ فقدتها بسبب إخفاقها في تحقيق انتصارٍ على جماعة الحوثي، تَكرَّسَ بعد احتفاظ هذه الجماعة بالقدرة على تهديد
ولا يدري أحدٌ إن كان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي يرتبط به التصعيد الأخير، يهتدي بخطى الحكومات الإسرائيلية السابقة التي كانت تتبع سياسة شنِّ حروبٍ دوريةٍ على لبنان، ثم على قطاع غزة، لحصد نجاحٍ توظّفه فوزاً في الانتخابات النيابية والحكومية. فهذا الأمير الذي انقلب على ولي العهد السابق، محمد بن نايف، ثم شنَّ حملاتِ اعتقالٍ طاولت مفكّرين وأكاديميين ودعاة دينيين، يشكُّ في ولائهم له، ثم أتبعها بحملة اعتقالاتٍ أخرى، طاولت أمراء ورجال أعمال، وجرَّدهم من ثرواتهم، وفرض عليهم الإقامة الجبرية بحجة محاربة الفساد، يحتاج لنصرٍ عسكري، يتوقع أن يحقّقه في لبنان، كي يُقنع أبناء بلده بأهليته لشغل منصب ولي العهد، أولاً، ثم ملك البلاد، في خطوة لاحقة.
ولكن، هل يمكن لولي العهد هذا أن يجد ضالَّته في لبنان؟ تفيد الوقائع بأن الخطوات الأولى في هذا المسار كانت خاطئة، وتقترب من أن تستجلب له ردات فعلٍ عكسية لم يتوقعها، تنبع من طبيعة هذا البلد المعقَّدة، والتي يبدو أن هذا الأمير يجهلها. فطبيعة النظام اللبناني الذي يعتمد أهله على صيغةٍ للعيش المشترك تشبه صيغة الديمقراطية التوافقية بين طوائفه وقواه السياسية، وتتجلى بعرفٍ، يؤمن الجميع فيه، يقوم على مبدأ "لا غالب ولا مغلوب في لبنان"، هو ما أتى بالعماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، بمقابل الإتيان بسعد الحريري إلى رئاسة الحكومة. هذه الطبيعة لا يمكن لسعد الحريري أن يضربها، وهو ما ناقضه عبر ما ورد في خطاب استقالته، المجافي للأعراف الدستورية وتضمينه اتهاماتٍ لحزب الله، ولإيران من خلفه، وتهديداتٍ بقطع يدي إيران في لبنان، بتلك الخفّة التي لا تستند إلى أرضيةٍ تجعلها قابلة للتحقق، هو ما يثبت جهل محمد بن سلمان بطبيعة لبنان، وبالتالي، احتمال تبدي هذا الجهل مِحَناً إن أقدم على عمل عسكري ضد هذا البلد.
قد تكون أولى خيبات أمل السعودية في لبنان هي امتصاص حزب الله تهديدات الحريري، عبر اعترافه بنجاحاتٍ حققتها حكومة الحريري، ودعوته إلى التهدئة، من خلال دعوة أمينه العام اللبنانيين إلى عدم الانتباه إلى الشائعات، والابتعاد عن التوتر الطائفي، والامتناع عن المظاهرات في الشوارع، كيْلا يتصعَّد الوضع، وتعمقت تلك الخيبة عندما انعكست هذه المواقف تعقُّلاً لدى الفريق المواجه في تكتل "14 آذار". وهو ما تكرّر مع تهديدات وزير شؤون الدولة السعودية لشؤون الخليج، تامر السبهان، حين اعتبر أن لبنان بعد استقالة الحريري لن يكون كما قبلها، ولا منصة للإرهاب، علاوة على اعتباره الحكومة اللبنانية عدوّا.
ويرى مراقب أجواء لبنان أن استقالة الحريري، أو إجباره على الاستقالة، وما قيل إنه احتجاز له في الرياض، قد أحدث شبه انقلابٍ لدى تيار سياسي لبناني، كان، حتى يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أي قبل يوم من الاستقالة، موالياً للقيادة السعودية. كما أن تغيُّراً حدثَ في المزاج الشعبي لدى فئةٍ لبنانية كبيرة، كانت ذات هوىً سعودي، تكشّف وتعزّز إثر اغتيال
وعليه، إن قرَّرت السعودية توجيه ضربةٍ لحزب الله على الأراضي اللبنانية، فإنها قد تحصد عداوةً، تحلُّ محل الموالاة التاريخية التي توفرت لها لدى قسمٍ كبيرٍ من الطائفة السنية التي لا ترغب في توتير أجواء السلم الأهلي القائم حالياً، بسبب المخاطر التي يمكن أن تواجهها البلاد. حيث إن ضربةً كهذه ستُدخِل البلاد في أتون الصراعات القائمة في المنطقة، وستجعل البلاد تتفجَّر تفجُّراً، لم تفلح سنوات الحرب السبع في سورية في إحداثه. أما إن قررت توجيه ضربة لقواته وتحشُّداته في سورية، فليس معلوماً إن كان هذا سيمر مرور الكرام، أو يجد قبولاً لدى الروس الذين يجدون فيه حليفاً لهم من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، يعتبرون الأجواء السورية حكراً على قواتهم الجوية.
ومن هنا، فإن توتير السعودية الأجواء في لبنان، وإيصالها إلى حد شنّ حربٍ عليه، لن يفعل سوى تعزيز المحنة التي أدخلت نفسها فيها، بعد استقالة الحريري من الرياض. وإن كان هذا التوتير، وتلك الحرب، من حاجات ماسة لقادة الرياض، فلن تتحول سوى إلى مِحَنٍ جديدة، تضاف إلى مشكلاتهم الداخلية والخارجية التي أغرقوا أنفسهم فيها.