08 نوفمبر 2024
أيفعلها عبّاس وَيُنْفِذُ تهديداته؟
"بدلاً من أن تأتينا (الولايات المتحدة) بـصفقة العصر أتتنا بصفعة العصر"، هكذا لخص الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونية إدارته نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها. ولم يتوقف عباس عند ذلك الحد، إذ اعتبر، في كلمته أمام قمة منظمة التعاون الإسلامي الطارئة، في إسطنبول، يوم الأربعاء الماضي، أنه لم يعد من المقبول "أن يكون للولايات المتحدة دور في العملية السياسية بعد الآن، فهي منحازة لإسرائيل، وغير أهل لقيادة عملية السلام". بل ذهب إلى أبعد من ذلك بالقول: إن استمرار إسرائيل في انتهاكاتها، خصوصا في القدس المحتلة، "يجعلنا في حلّ من الاتفاقيات الموقّعة معها، بما فيها اتفاق أوسلو"، مضيفا: "لا يمكن أن نبقى سلطة بدون سُلطة". وطالب عباس دول العالم "بمراجعة قرار اعترافها بإسرائيل بعد خروقاتها لجميع القرارات والاتفاقيات الدولية"، لافتًا إلى أن "الاعتراف الدولي بدولة إسرائيل منذ عام 1947 باطل".
المفردات السياسية السابقة التي استخدمها عباس غير معهودة من قبل في خطابه السياسي، فهو قد بنى سمعته وإرثه السياسيين، بل وحتى مستقبله السياسي، على تحقيق "السلام" مع إٍسرائيل. ولطالما تلقى الرجل تقريظا إسرائيليا وأميركيا بأنه القائد القادر على تحقيق "السلام" فلسطينيا، على عكس الزعيم الراحل، ياسر عرفات، الذي اتهم، أميركيا وإسرائيليا، بالمراوغة. ولكن من الواضح الآن، أنه حتى عباس، الذي لا يؤمن بالكفاح المسلح، ولا حتى بالمقاومة الشعبية، ولا يرى بديلا غير المفاوضات و"السلام" مع إسرائيل.. من الواضح أنه يعلن رسميا وصوله إلى نهاية طريق المغامرات السياسية الطائشة، من دون أن يعني ذلك، من أسف، أنه سيتخلى عن هذا الطريق فعلياً، حتى ولو أراد، فهو قد فرّغ كل الخيارات الأخرى من محتواها، وربط مستقبله السياسي ومستقبل السلطة الفلسطينية بها.
ثمّة بعد آخر في خلفية مشهد تصعيد عباس غير المعهود مع إسرائيل والولايات المتحدة، والتي وصلت إلى حدّ الامتناع عن لقاء نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، في زيارته المرتقبة
للأراضي المحتلة، الأسبوع المقبل. حسب تقارير إعلامية نشرت بعد قرار ترامب الأسبوع الماضي بشأن القدس، فإن بعض ملامح ما عرض على الفلسطينيين أميركيا "صفقة نهائية" تستحق التوصيف الذي أعطاها إياه عباس "بصفعة العصر". وبهذا، فإن إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل إنما يأتي بهدف إحداث واقع جديد على الأرض، يصعب تجاوزه فلسطينيا. وتدور ملامح ذلك الحل المفترض، كما جاء في تقرير لوكالة رويترز في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، على منح الفلسطينيين "حكما ذاتيا محدودا داخل مناطق متفرقة في الضفة الغربية المحتلة، من دون حق العودة للاجئين الذين شردوا في حربي 48 و67". ويشتمل الحل المقترح "تأسيس كيان فلسطيني" في غزة وثلاث مناطق إدارية في الضفة الغربية في المنطقة "أ" والمنطقة "ب" و10% من المنطقة "ج" التي تضم مستوطنات يهودية"، بحيث تظل "المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية كما هي"، وهو ما يعني إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين وبقاء الحدود تحت سيطرة إسرائيل. المثير في الأمر أن إدارة ترامب تراهن أن القيادة الفلسطينية الرسمية سوف تحتج وتقاطع المفاوضات في رد فعل أوليٍّ، غير أنها لن تلبث أن تعود إلى طاولة المفاوضات.
تقود النقطة السابقة إلى السؤال المركزي لهذا المقال، وهو ما إذا كانت القيادة الرسمية الفلسطينية قادرة، أو حتى راغبة، في تحدّي الضغوط الأميركية والإسرائيلية، بل وحتى بعض العربية، للعودة إلى طاولة المفاوضات ضمن إطار قواعد اللعبة الجديدة؟ موضوعيا، يصعب تخيل هذا السيناريو، خصوصا، وكما سبق القول، أن القيادة الرسمية الفلسطينية، وفي مقدمتها عباس، كسرت كل قوائم الخيارات الأخرى المتاحة فلسطينيا. وبهذا يكون التحدّي المركزي لهذه القيادة، متمثلا في صياغة مشروع وطني فلسطيني توافقي، يوظف الرفض العربي
والإسلامي والدولي لقرار ترامب، للصمود أمام الضغوط. المشكلة، أنه وبعيدا عن التصريحات القوية من عباس والمسؤولين المحيطين به الرافضة لإعلان ترامب، إلا أننا لا نرى بوادر تحرّك عملي مضاد ومدروس. مثلا، أعلن عباس في خطابه أمام قمة منظمة التعاون الإسلامي الطارئة، إن: "في مصلحتنا الوطنية أن يكون وطننا وشعبنا موحدين، لذلك سنستمر في المصالحة، وسنعمل على إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، ونحن مصممون على ذلك، فلا دولة في غزة، ولا دولة بدون غزة". ولكن "المصالحة" بين حركتي فتح وحماس تراوح مكانها على أرض الواقع، ولا زالت تتعثر، حتى والشعب الفلسطيني يخوض معركة القدس المصيرية. يوم الثلاثاء الماضي، وقبل يوم من خطاب عباس، عَمَّ إضراب شامل كل الوزارات والمؤسسات الحكومية والمدارس في قطاع غزة، احتجاجًا على "مماطلة" حكومة "التوافق الوطني" في صرف رواتب موظفي القطاع العام ممن تم تعيينهم بعد 14 يونيو/ حزيران 2007، عن شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ونظم مئات من الموظفين، في اليوم نفسه، اعتصامًا أمام مقر مجلس الوزراء في غزة للمطالبة بالتزام "التوافق الوطني" بما نص عليه اتفاق القاهرة، في أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، وصرف رواتبهم عن شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
إذا كانت سرقة القدس، وتحطيم أوهام حَلِّ الدولتين، غير قادرين على توحيد شعث الفلسطينيين، فماذا يا ترى يمكنه توحيدهم؟ سيقول بعضهم، ربما الدم، ولكن حتى الدم لم يأت بالوحدة الفلسطينية - الفلسطينية المنشودة. ألم تسحق غزة ثلاث مرات ما بين 2009-2014، ولم ينته الانقسام؟ ربما لم يبق أمام الفلسطينيين إلا تغيير قواعد اللعبة، كما غيرت إسرائيل والولايات المتحدة قواعد اللعبة. آن الأوان أن يعود الخيار إلى الشعب، ليختار قيادة جديدة تمثل طموحاته ونضالاته وتطلعاته.. قيادة تستمد شرعيتها من الشعب الفلسطيني، لا من التوازنات التنظيمية والإقليمية والدولية.. قيادة متحرّرة من عُقَدِ إلغاء الخيارات الفلسطينية الأخرى واحتقارها، والنظر فيها كلها، على أرضية واحدة، هي أرضية المصالح الفلسطينية الجَمَعِيَّةِ، لا مصالح أطراف وشخصيات بعينها مستفيدة من ارتباطها بالاحتلال، وتخشى فقدان امتيازاتها. بغير ذلك، لربما تصدق حسابات الأميركيين، وتعود القيادة الرسمية التي لا تحظى بشرعيةٍ شعبيةٍ إلى طاولة التنازلات، فمن كانت شعبيته نابعة من الاحتلال والتوازنات الإقليمية والدولية، سيبقى رهينة لتلك الحسابات، وبهذا يكون "التَحَلُّلَ من أوسلو"، كما هدّد عباس، مجرد رصاص فارغ، اللهم أن يقول الشعب الفلسطيني كلمة أخرى.
المفردات السياسية السابقة التي استخدمها عباس غير معهودة من قبل في خطابه السياسي، فهو قد بنى سمعته وإرثه السياسيين، بل وحتى مستقبله السياسي، على تحقيق "السلام" مع إٍسرائيل. ولطالما تلقى الرجل تقريظا إسرائيليا وأميركيا بأنه القائد القادر على تحقيق "السلام" فلسطينيا، على عكس الزعيم الراحل، ياسر عرفات، الذي اتهم، أميركيا وإسرائيليا، بالمراوغة. ولكن من الواضح الآن، أنه حتى عباس، الذي لا يؤمن بالكفاح المسلح، ولا حتى بالمقاومة الشعبية، ولا يرى بديلا غير المفاوضات و"السلام" مع إسرائيل.. من الواضح أنه يعلن رسميا وصوله إلى نهاية طريق المغامرات السياسية الطائشة، من دون أن يعني ذلك، من أسف، أنه سيتخلى عن هذا الطريق فعلياً، حتى ولو أراد، فهو قد فرّغ كل الخيارات الأخرى من محتواها، وربط مستقبله السياسي ومستقبل السلطة الفلسطينية بها.
ثمّة بعد آخر في خلفية مشهد تصعيد عباس غير المعهود مع إسرائيل والولايات المتحدة، والتي وصلت إلى حدّ الامتناع عن لقاء نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، في زيارته المرتقبة
تقود النقطة السابقة إلى السؤال المركزي لهذا المقال، وهو ما إذا كانت القيادة الرسمية الفلسطينية قادرة، أو حتى راغبة، في تحدّي الضغوط الأميركية والإسرائيلية، بل وحتى بعض العربية، للعودة إلى طاولة المفاوضات ضمن إطار قواعد اللعبة الجديدة؟ موضوعيا، يصعب تخيل هذا السيناريو، خصوصا، وكما سبق القول، أن القيادة الرسمية الفلسطينية، وفي مقدمتها عباس، كسرت كل قوائم الخيارات الأخرى المتاحة فلسطينيا. وبهذا يكون التحدّي المركزي لهذه القيادة، متمثلا في صياغة مشروع وطني فلسطيني توافقي، يوظف الرفض العربي
إذا كانت سرقة القدس، وتحطيم أوهام حَلِّ الدولتين، غير قادرين على توحيد شعث الفلسطينيين، فماذا يا ترى يمكنه توحيدهم؟ سيقول بعضهم، ربما الدم، ولكن حتى الدم لم يأت بالوحدة الفلسطينية - الفلسطينية المنشودة. ألم تسحق غزة ثلاث مرات ما بين 2009-2014، ولم ينته الانقسام؟ ربما لم يبق أمام الفلسطينيين إلا تغيير قواعد اللعبة، كما غيرت إسرائيل والولايات المتحدة قواعد اللعبة. آن الأوان أن يعود الخيار إلى الشعب، ليختار قيادة جديدة تمثل طموحاته ونضالاته وتطلعاته.. قيادة تستمد شرعيتها من الشعب الفلسطيني، لا من التوازنات التنظيمية والإقليمية والدولية.. قيادة متحرّرة من عُقَدِ إلغاء الخيارات الفلسطينية الأخرى واحتقارها، والنظر فيها كلها، على أرضية واحدة، هي أرضية المصالح الفلسطينية الجَمَعِيَّةِ، لا مصالح أطراف وشخصيات بعينها مستفيدة من ارتباطها بالاحتلال، وتخشى فقدان امتيازاتها. بغير ذلك، لربما تصدق حسابات الأميركيين، وتعود القيادة الرسمية التي لا تحظى بشرعيةٍ شعبيةٍ إلى طاولة التنازلات، فمن كانت شعبيته نابعة من الاحتلال والتوازنات الإقليمية والدولية، سيبقى رهينة لتلك الحسابات، وبهذا يكون "التَحَلُّلَ من أوسلو"، كما هدّد عباس، مجرد رصاص فارغ، اللهم أن يقول الشعب الفلسطيني كلمة أخرى.