04 نوفمبر 2024
سيزيف الفلسطيني وصخرة المنفى
يشاع أن محيطين بالرئيس جمال عبد الناصر نبّهوه إلى أنه يبالغ في الامتيازات التي يمنحها للاجئين الفلسطينيين في مصر، فأجابهم: "سيبوهم دول حَ يتبهدلوا من بعدي". وعلى الرغم من أن صاحب هذه السطور لم يعثر على توثيق تلك الرواية، إلا أنها متداولة على نطاق واسع، خصوصا بين الفلسطينيين. وهم، كغيرهم من الشعوب العربية، لا يستطيعون بسهولة التنصل من الرابطة الأبوية التي نسجوها مع الحاكم/ الرمز، لا سيما حين يتعلق الأمر بالكاريزما التي حازها عبد الناصر، والذي حين مات حاولوا ألا يموتوا معه، وفق تعبير لشاعرهم محمود درويش.
شمل مصطلح "الدول العربية المضيفة للاجئين الفلسطينيين" رسميا أربع دول، الأردن وسورية ولبنان ومصر (أضيفت إليها لاحقا منظمة التحرير الفلسطينية)، وهي الدول التي تنشط فيها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). وعلى الرغم من عدم وجود أي نشاط فعلي للوكالة داخل مصر، أضيفت الأخيرة إلى جانب تلك الدول إبّان إشرافها على قطاع غزة قبل حرب 1967. مع ذلك، تمتع الفلسطينيون في مصر بحقوق مواطنة أساسية، أقرّها عبد الناصر منذ 1954. ولكن في 1978، وبعد عام من زيارته للقدس، توفرت للرئيس أنور السادات الذريعة، ليقلب وضع اللاجئين الفلسطينيين في مصر رأسا على عقب. تمثلت تلك الذريعة في مشاركة إرهابي فلسطيني في اغتيال وزير الثقافة المصري، في حينه، يوسف السباعي، في قبرص، واتهام منظمة "فتح- المجلس الثوري" التي كان يقودها صبري البنا (أبو نضال) بالعملية. لم تكن تلك المرة الأولى، ولا الأخيرة، التي يُمارس فيها عقاب جماعي بحق الفلسطينيين، إذ كانت رائحة الموت في "أيلول الأسود" لا تزال في الذاكرة الفلسطينية.
باستثناء سورية، لم تلتزم الدول العربية ببروتوكول الدار البيضاء الصادر عن مجلس جامعة الدول العربية، والمصادق عليه من الملوك والرؤساء العرب في 11 سبتمبر/ أيلول 1965، والذي دعا الدول المضيفة للاجئين إلى معاملتهم مثل رعايا تلك الدول، فيما يتعلق بالحقوق
المدنية والاجتماعية والاقتصادية، بما فيها حرية العمل والتنقل. وبعد خسارة الفلسطينيين السوريين معظم مخيماتهم وتجمعاتهم التقليدية، في خضم الحرب الأهلية السورية، هناك إشارات إلى ما يمسّ وضعيتهم الاجتماعية والقانونية بدأت في الظهور، فلم تعد الإعلانات عن الوظائف الرسمية تحمل عبارة "السوريين ومن في حكمهم"، بل صارت هذه الوظائف تقتصر على السوريين، من دون من في حكمهم (الفلسطينيين السوريين). كما لم تعد تقبل أي وكالة قانونية يخوّل فيها الفلسطيني الذي غادر الأراضي السورية من شؤونه القضائية والإدارية، إضافة إلى شؤون الملكية والثروة، وبات يشترط حضوره شخصيا.
تميز تعامل لبنان الرسمي مع القضية الفلسطينية عموما، وقضية اللاجئين منهم خصوصا، بالبراغماتية والازدواجية، وفق اعتبارات مذهبية وطائفية، فعلى الرغم من هيمنة سياسة رفض قبول اللاجئين الفلسطينيين، هيأ لبنان الرسمي لرجال الأعمال، وأصحاب الثروات منهم، مقراً مناسباً للانطلاق والعمل، وأتاح للآلاف منهم، وخصوصا من بين المسيحيين، فرصة التجنس والحصول على جوازات سفر لبنانية، واستفاد من تراجع الاقتصاد الفلسطيني، ومكانة ميناء حيفا باعتباره ميناءً رئيسيا في الشرق الأوسط، لصالح إنعاش ميناء بيروت والاقتصاد اللبناني. ومع بدء انقشاع غبار الحرب الأهلية اللبنانية، صوّت مجلس النواب اللبناني في 1987على إلغاء "اتفاق القاهرة"، ليبدأ عزل الفلسطينيين في غيتوات، لا يزال لبنان الرسمي يرى فيها فرصةً للتنصل من أي مسؤوليات إنسانية، واجتماعية، واقتصادية، وأمنية، تجاه اللاجئين الفلسطينيين.
لم توقّع السعودية على بروتوكول الدار البيضاء، وهي الدولة الخليجية الوحيدة التي كانت تحوز استقلالها في حينه، ولم يكن هناك أية مشكلة في سفر الفلسطينيين طوال الخمسينات والستينات إلى الدول الخليجية، بسبب حاجة هذه الدول للأيدي العاملة، ليتغير الوضع لاحقا منذ نهاية السبعينات، مع انكسار حدة ارتفاع عائدات أسعار النفط، وزيادة القلق من النشاط السياسي للفلسطينيين.
استثني العراق من "الدول العربية المضيفة للاجئين" لرفض الحكومة العراقية آنذاك السماح لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بمزاولة أي نشاط داخل أراضيها، لتقدم عوضا عن ذلك مساعداتٍ عينيةً وماليةً لهم. وبقي وضع فلسطينيي العراق عرضة للتذبذب، حتى استقر أخيرا بموجب القانون 202 الذي أصدره مجلس قيادة الثورة العراقية في العام 2001 في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، والذي نص على معاملة الفلسطيني كالعراقي في جميع الامتيازات وحقوق المواطنة، باستثناء حصوله على الجنسية العراقية. وبعد الاحتلال الأميركي في 2003، تعرّض فلسطينيو العراق لاضطهاد ممنهج، تنكيل واعتقال على يد قوات الاحتلال، وعمليات تصفية لوجودهم بدأت منذ 2006 على يد مليشيات طائفية مسلحة، فتناقص تعدادهم من 35 ألفا إلى حوالي ستة آلاف. وأخيرا كشفت صحيفة العربي الجديد ( 21 ديسمبر/ كانون الأول 2017) عن وثيقة صادرة عن مكتب الرئيس العراقي، فؤاد معصوم، يصادق فيها على القانون رقم 76 ديسمبر/ كانون الأول 2017، بعد أن ناقشه وصوّت عليه البرلمان العراقي، وينص على إلغاء القانون 202، وكل ما يترتب عليه من امتيازات، ويوضع بموجبه المواطن الفلسطيني في العراق ضمن خانة المقيمين الأجانب، بلا أي امتيازات أخرى.
استمرت معاملة اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة من دون أن تنظمها قوانين وتشريعات صادرة عن السلطات التشريعية، بل من خلال قراراتٍ وأحكامٍ إدارية صادرة عن أجهزة حكومية، وعبر بوابة أمنية بالدرجة الأولى، ووفق التقلبات السياسية المحلية والدولية. وما حدث أن القانون العراقي الصادر قبل أيام يسلب الفلسطينيين حقهم في التعليم والصحة المجانية، وكذلك السكن ووثائق السفر والبطاقة الغذائية، فضلاً عن إبعاد الموظفين منهم من دوائر الدولة ومؤسساتها. وإذا أُخذ في الاعتبار أنه صدر عن سلطة عراقية تشريعية، في ظل عجز منظمة
التحرير الفلسطينية عن تحمل مسؤولياتها تجاه اللاجئين، وحرمان فلسطينيي العراق من خدمات "أونروا"، فإن النتائج ستكون كارثية على لاجئين فلسطينيين يعدّون الأكثر فقرا بين الفلسطينيين.
لم يعد الفلسطيني اليوم محروما من الوطن، بل أيضا يجري تجريده من المنفى، بتغييبه سياسيا واجتماعيا. ومن لجوءٍ إلى نزوح وبالعكس، يهيم الفلسطيني في الأرض، وكأنه سيزيف يحمل صخرة اللجوء كرّة بعد أخرى. وهنا تسقط كل مزايدات الأنظمة العربية المستمرة على الفلسطينيين وقضيتهم، فلا يمنع عجزٌ في مواجهة إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، سيما بعد قرار الإدارة الأميركية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، من نقطة انطلاق جادّة تتمثل في الحفاظ على حق الفلسطيني الوجودي في منفىً يليق به باعتباره بشرا، قبل حقه السياسي في الوطن، وإلا فإن ما يجري تواطؤ صريح ضد الفلسطينيين.
ويوما بعد آخر، يتأكد أن على الفلسطينيين التعويل على مقدّراتهم الذاتية، وإعادة بناء حركتهم الوطنية، وهياكلهم السياسية، والكفّ عن التعويل على أنظمةٍ عربيةٍ ورموزها، استغلت فلسطين شعارا لحرمان شعوبها، قبل أن تحرمهم، وجرّمت مواطنيها قبل أن تعاملهم مشاغبين سياسيين، وقمعت شعوبها قبل أن تنظر إلى الفلسطينيين خطرا أمنيا وديمغرافيا يتهدّدها.
شمل مصطلح "الدول العربية المضيفة للاجئين الفلسطينيين" رسميا أربع دول، الأردن وسورية ولبنان ومصر (أضيفت إليها لاحقا منظمة التحرير الفلسطينية)، وهي الدول التي تنشط فيها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). وعلى الرغم من عدم وجود أي نشاط فعلي للوكالة داخل مصر، أضيفت الأخيرة إلى جانب تلك الدول إبّان إشرافها على قطاع غزة قبل حرب 1967. مع ذلك، تمتع الفلسطينيون في مصر بحقوق مواطنة أساسية، أقرّها عبد الناصر منذ 1954. ولكن في 1978، وبعد عام من زيارته للقدس، توفرت للرئيس أنور السادات الذريعة، ليقلب وضع اللاجئين الفلسطينيين في مصر رأسا على عقب. تمثلت تلك الذريعة في مشاركة إرهابي فلسطيني في اغتيال وزير الثقافة المصري، في حينه، يوسف السباعي، في قبرص، واتهام منظمة "فتح- المجلس الثوري" التي كان يقودها صبري البنا (أبو نضال) بالعملية. لم تكن تلك المرة الأولى، ولا الأخيرة، التي يُمارس فيها عقاب جماعي بحق الفلسطينيين، إذ كانت رائحة الموت في "أيلول الأسود" لا تزال في الذاكرة الفلسطينية.
باستثناء سورية، لم تلتزم الدول العربية ببروتوكول الدار البيضاء الصادر عن مجلس جامعة الدول العربية، والمصادق عليه من الملوك والرؤساء العرب في 11 سبتمبر/ أيلول 1965، والذي دعا الدول المضيفة للاجئين إلى معاملتهم مثل رعايا تلك الدول، فيما يتعلق بالحقوق
تميز تعامل لبنان الرسمي مع القضية الفلسطينية عموما، وقضية اللاجئين منهم خصوصا، بالبراغماتية والازدواجية، وفق اعتبارات مذهبية وطائفية، فعلى الرغم من هيمنة سياسة رفض قبول اللاجئين الفلسطينيين، هيأ لبنان الرسمي لرجال الأعمال، وأصحاب الثروات منهم، مقراً مناسباً للانطلاق والعمل، وأتاح للآلاف منهم، وخصوصا من بين المسيحيين، فرصة التجنس والحصول على جوازات سفر لبنانية، واستفاد من تراجع الاقتصاد الفلسطيني، ومكانة ميناء حيفا باعتباره ميناءً رئيسيا في الشرق الأوسط، لصالح إنعاش ميناء بيروت والاقتصاد اللبناني. ومع بدء انقشاع غبار الحرب الأهلية اللبنانية، صوّت مجلس النواب اللبناني في 1987على إلغاء "اتفاق القاهرة"، ليبدأ عزل الفلسطينيين في غيتوات، لا يزال لبنان الرسمي يرى فيها فرصةً للتنصل من أي مسؤوليات إنسانية، واجتماعية، واقتصادية، وأمنية، تجاه اللاجئين الفلسطينيين.
لم توقّع السعودية على بروتوكول الدار البيضاء، وهي الدولة الخليجية الوحيدة التي كانت تحوز استقلالها في حينه، ولم يكن هناك أية مشكلة في سفر الفلسطينيين طوال الخمسينات والستينات إلى الدول الخليجية، بسبب حاجة هذه الدول للأيدي العاملة، ليتغير الوضع لاحقا منذ نهاية السبعينات، مع انكسار حدة ارتفاع عائدات أسعار النفط، وزيادة القلق من النشاط السياسي للفلسطينيين.
استثني العراق من "الدول العربية المضيفة للاجئين" لرفض الحكومة العراقية آنذاك السماح لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بمزاولة أي نشاط داخل أراضيها، لتقدم عوضا عن ذلك مساعداتٍ عينيةً وماليةً لهم. وبقي وضع فلسطينيي العراق عرضة للتذبذب، حتى استقر أخيرا بموجب القانون 202 الذي أصدره مجلس قيادة الثورة العراقية في العام 2001 في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، والذي نص على معاملة الفلسطيني كالعراقي في جميع الامتيازات وحقوق المواطنة، باستثناء حصوله على الجنسية العراقية. وبعد الاحتلال الأميركي في 2003، تعرّض فلسطينيو العراق لاضطهاد ممنهج، تنكيل واعتقال على يد قوات الاحتلال، وعمليات تصفية لوجودهم بدأت منذ 2006 على يد مليشيات طائفية مسلحة، فتناقص تعدادهم من 35 ألفا إلى حوالي ستة آلاف. وأخيرا كشفت صحيفة العربي الجديد ( 21 ديسمبر/ كانون الأول 2017) عن وثيقة صادرة عن مكتب الرئيس العراقي، فؤاد معصوم، يصادق فيها على القانون رقم 76 ديسمبر/ كانون الأول 2017، بعد أن ناقشه وصوّت عليه البرلمان العراقي، وينص على إلغاء القانون 202، وكل ما يترتب عليه من امتيازات، ويوضع بموجبه المواطن الفلسطيني في العراق ضمن خانة المقيمين الأجانب، بلا أي امتيازات أخرى.
استمرت معاملة اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة من دون أن تنظمها قوانين وتشريعات صادرة عن السلطات التشريعية، بل من خلال قراراتٍ وأحكامٍ إدارية صادرة عن أجهزة حكومية، وعبر بوابة أمنية بالدرجة الأولى، ووفق التقلبات السياسية المحلية والدولية. وما حدث أن القانون العراقي الصادر قبل أيام يسلب الفلسطينيين حقهم في التعليم والصحة المجانية، وكذلك السكن ووثائق السفر والبطاقة الغذائية، فضلاً عن إبعاد الموظفين منهم من دوائر الدولة ومؤسساتها. وإذا أُخذ في الاعتبار أنه صدر عن سلطة عراقية تشريعية، في ظل عجز منظمة
لم يعد الفلسطيني اليوم محروما من الوطن، بل أيضا يجري تجريده من المنفى، بتغييبه سياسيا واجتماعيا. ومن لجوءٍ إلى نزوح وبالعكس، يهيم الفلسطيني في الأرض، وكأنه سيزيف يحمل صخرة اللجوء كرّة بعد أخرى. وهنا تسقط كل مزايدات الأنظمة العربية المستمرة على الفلسطينيين وقضيتهم، فلا يمنع عجزٌ في مواجهة إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، سيما بعد قرار الإدارة الأميركية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، من نقطة انطلاق جادّة تتمثل في الحفاظ على حق الفلسطيني الوجودي في منفىً يليق به باعتباره بشرا، قبل حقه السياسي في الوطن، وإلا فإن ما يجري تواطؤ صريح ضد الفلسطينيين.
ويوما بعد آخر، يتأكد أن على الفلسطينيين التعويل على مقدّراتهم الذاتية، وإعادة بناء حركتهم الوطنية، وهياكلهم السياسية، والكفّ عن التعويل على أنظمةٍ عربيةٍ ورموزها، استغلت فلسطين شعارا لحرمان شعوبها، قبل أن تحرمهم، وجرّمت مواطنيها قبل أن تعاملهم مشاغبين سياسيين، وقمعت شعوبها قبل أن تنظر إلى الفلسطينيين خطرا أمنيا وديمغرافيا يتهدّدها.