29 ابريل 2023
تصريح ترامب والأداء الفلسطيني
تبدو قراءة الدوافع العينية المتصلة بتصريح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بشأن القدس، مهمة، قدر ما نقرأ منها الاستراتيجيات التي يحملها. ونقرأ السياسات التي يحملها قدر ما نقرأ أيضا الظروف التي مكّنت هذا الإعلان "الزخم" في منطقةٍ مشتعلة الصراع، فمن الصعب أن نتخيل قيام أي طرف جدي بتغيير جدي نحوها، من دون أن تحمل منطقة الصراع متغيراتٍ تستوعب هذا التغيير. وقد تقاطعت أربعة مجالات سياسية، لتجعل هذا التصريح ممكناً:
أولها، الطرف الفلسطيني الذي يرفض، منذ اغتيال ياسر عرفات، التصادم الحقيقي مع إسرائيل أو أميركا، بحجة "المصلحة الفلسطينية"، وتحويل مصلحة السلطة الوطنية "مصلحة فلسطينية"، حتى لو كانتا على شفا نقيض. لقد مهد اتفاق أوسلو لانحراف خطير، وبدل أن تصحّح السلطة، بعد الدلالة الكبيرة لحصار عرفات ومن ثم اغتياله، المسار، قامت بحرفه إلى الاتجاه المعاكس، فحوّلت القضية الفلسطينية تماما من قضية نضال شعب إلى قضية دبلوماسية دولية، ومن قضية صراع مع العدو إلى قضية تنسيق وتفاهمات معه، ومن قضية احتلالٍ مكلفٍ إلى احتلال بخس. كما قامت بتحويل نفسها من قائدة نضال إلى وكيلة ضبط وتهدئة.
ثانيها: تلك الإسرائيلية التي تتجه، منذ سنوات، في اتجاه متسارع إلى حسم الصراع من جانب واحد، متحرّرة من الشعور بالحاجة لأي عملية "سلمية"، ومعتمدة، من جهة، على أن الاحتلال لم يعد يشكل حالة عبء. ومن جهة أخرى، على أن المجتمع الإسرائيلي أعاد عملية استيعاب المستوطنين كجزء من نخبة مهمة ومؤثرة ومركزية، كما أعاد بلورة إجماعٍ يضع قيم الاستيطان والتوسع باعتبارها قيما أساسية في تعريف أهم مكونات الهوية الإسرائيلية: الصهيونية واليهودية.
ثالثها، محور السعودية التي باتت تسرح وتمرح، بعد تحييد الدول المنشغلة بقتل شعوبها وقمعهم، ويرى هذا المحور في إيران عدوا من حيث المبدأ، ويريد بكل ثمن تسوية مع إسرائيل، ليس حماية للفلسطينيين، بل تبريرا لدخول إسرائيل في تحالف عربي مشترك ضد إيران.
رابعها، إدارة ترامب التي أكدت، من خلال وثيقة الاستراتيجية الأمنية، أنه لا يهمها إحراز أي تقدّم في الصراع، الذي "لا تراه عائقا في إحراز سلام في الشرق الأوسط".
تقاطعت هذه الديناميكات، موضحة أن خطورة التصريح تكمن في أنه يشكل تعاملا استراتيجيا "جديدا" مع القضية الفلسطينية، وليس "مجرّد" حلقة في تردّي الأوضاع، ما يجعل السؤال حول ما العمل، يتخطّى "ردود الفعل"، أو "هبّات الغضب"، إلى سؤال يتعلق، هو الآخر، بتغيير استراتيجي جدّي في قواعد اللعبة من الطرف الفلسطيني.
هناك إدراك أن على التعامل مع تصريح ترامب أن يكون من باب "تحجيم خطره"، أو مواجهته بشكل مباشر (الأمر الذي يحدث الآن وبطريقة غير مقنعة)، فيما الملحّ هو القفز عليه، وإنتاج واقع جديد، يصبح فيه هذا التصريح "غير ذي صلة"، يجعل من تحليل أداء السلطة الفلسطينية، في الأسابيع الثلاثة الفائتة، أمرا غاية في الأهمية، إذ تبدو هذه المحطة، المحطة الأخيرة في فحص نية (ولا نقول قدرة، القدرة معدومة فقط إذا كانت النية معدومة، والعكس صحيح) السلطة بتصحيح أدائها وتلبية مطالب شعبها.
يبدو للمتتبع أن السلطة غير معنية بتطوير بدائل حقيقية، وأنها ما زالت متمسّكة بمبدأ "بقاء السلطة"، وليس "مصلحة الشعب"، وأنها تتعامل وفق سياسة "ضبط الشارع"، واستعمال منسوبٍ مدروسٍ من الغضب، كآلية لمحاولة العودة إلى واقع ما قبل تصريح ترامب بيوم، ليس أكثر، أي أن كل سلوكيات السلطة تفيد بأنها تحاول العودة إلى حالة الأزمة التي أوصلتنا إلى إعلان ترامب، وليس لإنتاج واقع نضالي رادع للولايات المتحدة ولإسرائيل.
لجوء السلطة لتجنب خطوات سياسية تصعيدية تشعل الرأي العام يعني أنها غير معنية بتطوير بدائل حقيقية. فعند فحص الأداء الفلسطيني الرسمي، تبرز ملامح بالغة الخطورة، يتعلق أولها بمسودة القرار التي طرحت على مجلس الأمن في أعقاب تصريح ترامب. ويتعلق الثاني بملف المصالحة. ويتعلق الثالث بملامح المرحلة المقبلة، كما بلورها الخطاب السياسي الذي استعمل في الأسابيع القليلة الماضية.
كانت أمام السلطة الفلسطينية فرصة لا تعوّض، فيما يتعلق بتصويت مجلس الأمن أخيرا، لقلب مجريات الأمور رأسا على عقب، بحيث تعارك من أجل تقديم بيان يتعلق بتصريح ترامب، وليس بصيغة عامة تدور حول "الأعمال الإسرائيلية غير القانونية في القدس الشرقية المحتلة وبقية الأرض الفلسطينية المحتلة"، ما لا يمكن الولايات المتحدة من تفعيل حق النقض، فيكون القرار عندها ملزما للولايات المتحدة، (بغض النظر عن استعداد مجلس الأمن معاقبة الولايات المتحدة، في حال لم تلتزم بالقرار).
لكن السلطة اختارت التعاون مع التنسيق الأميركي –السعودي- المصري بشأن نص البيان، والسكوت على تمرير صيغة عامة. وبهذا خسر الشعب الفلسطيني محطة مهمة، وذات دلالات كبيرة من حيث الاستعداد لتغيير فعلي لقواعد اللعبة السياسية. ويبدو هذا التصرّف في نقيض تام، ليس فقط مع المصلحة الفلسطينية، وإمكانات المرحلة معا، بل مع ادّعاء السلطة نفسها، بأنها "تناضل دبلوماسيا".
أما الأداء المتعلق بالمصالحة الفلسطينية، فلم يبد أن خطورة تصريح ترامب كانت كافيةً لكي تقنع أبو مازن بالمضي قدماً، وبجدية، في ملف المصالحة. أكثر من ذلك، تم انعقاد اللقاء الأول "للأطر الوطنية" بعد تصريح ترامب، المكونة من أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير،
واللجنة المركزية لحركة فتح، وقادة الأجهزة الأمنية والأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، من دون دعوة ممثلين عن حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ومن دون اتخاذ أي إجراءات تتعلق برفع العقوبات الفلسطينية على شعبنا الصامد في غزة. (العقوبات بحد ذاتها أمر يفوق قدرة استيعاب الفلسطيني).
الأمر الثالث، والمتعلق بملامح المرحلة، كما حدّدها الخطاب السياسي الذي استعمل في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، أنه لم يبد أن هنالك تراجعاً عن قاموس المفاهيم الذي رسم ملامح المرحلة الجديدة. بالعكس، تم التأكيد في الخطابات والمؤتمرات الصحافية المختلفة، على "عدم تمكننا من الانسحاب من العملية السلمية"، وعلى "ضرورة البحث عن مرجعية جديدة"، حيث المقصود مرجعية دولية، من دون أن يعني أن الشعب الفلسطيني هو المرجعية الوحيدة التي يعوّل عليها، و"يجب أن نستمر في التعاطي مع الشرعيات الدولية، لأنها الوحيدة المتوفرة لنا دولة فلسطينية"، في إصرار كامل على التعامل مع كيان دولة وهمية، خطاب ليس فقط يدل على إفلاس سياسي كامل، بل يدل على سياسة قطع الطريق على إنتاج أي بدائل.
يبدو أن المرحلة المقبلة ستبدأ فقط بعد إدراك كامل أن السلطة لم تعد تستطيع أن تكون جزءاً من الحل، وأن المرحلة الجديدة تتطلب "الاستئناف الشعبي" عليها، وأمام هذا الشعب ما يكفي من الطاقات الشعبية والسياسية لذلك.
أولها، الطرف الفلسطيني الذي يرفض، منذ اغتيال ياسر عرفات، التصادم الحقيقي مع إسرائيل أو أميركا، بحجة "المصلحة الفلسطينية"، وتحويل مصلحة السلطة الوطنية "مصلحة فلسطينية"، حتى لو كانتا على شفا نقيض. لقد مهد اتفاق أوسلو لانحراف خطير، وبدل أن تصحّح السلطة، بعد الدلالة الكبيرة لحصار عرفات ومن ثم اغتياله، المسار، قامت بحرفه إلى الاتجاه المعاكس، فحوّلت القضية الفلسطينية تماما من قضية نضال شعب إلى قضية دبلوماسية دولية، ومن قضية صراع مع العدو إلى قضية تنسيق وتفاهمات معه، ومن قضية احتلالٍ مكلفٍ إلى احتلال بخس. كما قامت بتحويل نفسها من قائدة نضال إلى وكيلة ضبط وتهدئة.
ثانيها: تلك الإسرائيلية التي تتجه، منذ سنوات، في اتجاه متسارع إلى حسم الصراع من جانب واحد، متحرّرة من الشعور بالحاجة لأي عملية "سلمية"، ومعتمدة، من جهة، على أن الاحتلال لم يعد يشكل حالة عبء. ومن جهة أخرى، على أن المجتمع الإسرائيلي أعاد عملية استيعاب المستوطنين كجزء من نخبة مهمة ومؤثرة ومركزية، كما أعاد بلورة إجماعٍ يضع قيم الاستيطان والتوسع باعتبارها قيما أساسية في تعريف أهم مكونات الهوية الإسرائيلية: الصهيونية واليهودية.
ثالثها، محور السعودية التي باتت تسرح وتمرح، بعد تحييد الدول المنشغلة بقتل شعوبها وقمعهم، ويرى هذا المحور في إيران عدوا من حيث المبدأ، ويريد بكل ثمن تسوية مع إسرائيل، ليس حماية للفلسطينيين، بل تبريرا لدخول إسرائيل في تحالف عربي مشترك ضد إيران.
رابعها، إدارة ترامب التي أكدت، من خلال وثيقة الاستراتيجية الأمنية، أنه لا يهمها إحراز أي تقدّم في الصراع، الذي "لا تراه عائقا في إحراز سلام في الشرق الأوسط".
تقاطعت هذه الديناميكات، موضحة أن خطورة التصريح تكمن في أنه يشكل تعاملا استراتيجيا "جديدا" مع القضية الفلسطينية، وليس "مجرّد" حلقة في تردّي الأوضاع، ما يجعل السؤال حول ما العمل، يتخطّى "ردود الفعل"، أو "هبّات الغضب"، إلى سؤال يتعلق، هو الآخر، بتغيير استراتيجي جدّي في قواعد اللعبة من الطرف الفلسطيني.
هناك إدراك أن على التعامل مع تصريح ترامب أن يكون من باب "تحجيم خطره"، أو مواجهته بشكل مباشر (الأمر الذي يحدث الآن وبطريقة غير مقنعة)، فيما الملحّ هو القفز عليه، وإنتاج واقع جديد، يصبح فيه هذا التصريح "غير ذي صلة"، يجعل من تحليل أداء السلطة الفلسطينية، في الأسابيع الثلاثة الفائتة، أمرا غاية في الأهمية، إذ تبدو هذه المحطة، المحطة الأخيرة في فحص نية (ولا نقول قدرة، القدرة معدومة فقط إذا كانت النية معدومة، والعكس صحيح) السلطة بتصحيح أدائها وتلبية مطالب شعبها.
يبدو للمتتبع أن السلطة غير معنية بتطوير بدائل حقيقية، وأنها ما زالت متمسّكة بمبدأ "بقاء السلطة"، وليس "مصلحة الشعب"، وأنها تتعامل وفق سياسة "ضبط الشارع"، واستعمال منسوبٍ مدروسٍ من الغضب، كآلية لمحاولة العودة إلى واقع ما قبل تصريح ترامب بيوم، ليس أكثر، أي أن كل سلوكيات السلطة تفيد بأنها تحاول العودة إلى حالة الأزمة التي أوصلتنا إلى إعلان ترامب، وليس لإنتاج واقع نضالي رادع للولايات المتحدة ولإسرائيل.
لجوء السلطة لتجنب خطوات سياسية تصعيدية تشعل الرأي العام يعني أنها غير معنية بتطوير بدائل حقيقية. فعند فحص الأداء الفلسطيني الرسمي، تبرز ملامح بالغة الخطورة، يتعلق أولها بمسودة القرار التي طرحت على مجلس الأمن في أعقاب تصريح ترامب. ويتعلق الثاني بملف المصالحة. ويتعلق الثالث بملامح المرحلة المقبلة، كما بلورها الخطاب السياسي الذي استعمل في الأسابيع القليلة الماضية.
كانت أمام السلطة الفلسطينية فرصة لا تعوّض، فيما يتعلق بتصويت مجلس الأمن أخيرا، لقلب مجريات الأمور رأسا على عقب، بحيث تعارك من أجل تقديم بيان يتعلق بتصريح ترامب، وليس بصيغة عامة تدور حول "الأعمال الإسرائيلية غير القانونية في القدس الشرقية المحتلة وبقية الأرض الفلسطينية المحتلة"، ما لا يمكن الولايات المتحدة من تفعيل حق النقض، فيكون القرار عندها ملزما للولايات المتحدة، (بغض النظر عن استعداد مجلس الأمن معاقبة الولايات المتحدة، في حال لم تلتزم بالقرار).
لكن السلطة اختارت التعاون مع التنسيق الأميركي –السعودي- المصري بشأن نص البيان، والسكوت على تمرير صيغة عامة. وبهذا خسر الشعب الفلسطيني محطة مهمة، وذات دلالات كبيرة من حيث الاستعداد لتغيير فعلي لقواعد اللعبة السياسية. ويبدو هذا التصرّف في نقيض تام، ليس فقط مع المصلحة الفلسطينية، وإمكانات المرحلة معا، بل مع ادّعاء السلطة نفسها، بأنها "تناضل دبلوماسيا".
أما الأداء المتعلق بالمصالحة الفلسطينية، فلم يبد أن خطورة تصريح ترامب كانت كافيةً لكي تقنع أبو مازن بالمضي قدماً، وبجدية، في ملف المصالحة. أكثر من ذلك، تم انعقاد اللقاء الأول "للأطر الوطنية" بعد تصريح ترامب، المكونة من أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير،
الأمر الثالث، والمتعلق بملامح المرحلة، كما حدّدها الخطاب السياسي الذي استعمل في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، أنه لم يبد أن هنالك تراجعاً عن قاموس المفاهيم الذي رسم ملامح المرحلة الجديدة. بالعكس، تم التأكيد في الخطابات والمؤتمرات الصحافية المختلفة، على "عدم تمكننا من الانسحاب من العملية السلمية"، وعلى "ضرورة البحث عن مرجعية جديدة"، حيث المقصود مرجعية دولية، من دون أن يعني أن الشعب الفلسطيني هو المرجعية الوحيدة التي يعوّل عليها، و"يجب أن نستمر في التعاطي مع الشرعيات الدولية، لأنها الوحيدة المتوفرة لنا دولة فلسطينية"، في إصرار كامل على التعامل مع كيان دولة وهمية، خطاب ليس فقط يدل على إفلاس سياسي كامل، بل يدل على سياسة قطع الطريق على إنتاج أي بدائل.
يبدو أن المرحلة المقبلة ستبدأ فقط بعد إدراك كامل أن السلطة لم تعد تستطيع أن تكون جزءاً من الحل، وأن المرحلة الجديدة تتطلب "الاستئناف الشعبي" عليها، وأمام هذا الشعب ما يكفي من الطاقات الشعبية والسياسية لذلك.