06 سبتمبر 2023
الدولة العثمانية.. التاريخ والتزوير والاختلاف
غمرتنا الدولة العثمانية بأفضالها طوال 400 سنة (1917-1517)، فلم تتطوّر لدينا، بصورة حاسمة حتى في عصر القوميات، هوية قومية جامعة، وبقينا، نحن العرب، لابثين عند هوياتنا الوشائجية التي تنتمي إلى مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة. وظل العالم العربي راكدًا، اجتماعيًا واقتصاديًا، خلال معظم مراحل الحقبة العثمانية، لأن الدولة الجديدة التي قدّمت نفسها، في ما بعد، دولة خلافة إسلامية، لم تلجأ إلى تحديث البنى الاجتماعية والاقتصادية في بلاد الشام، بل اعتمدت على العائلات المتنفذة في تحصيل الضرائب وحفظ الأمن (نظام الالتزام). ومع ذلك، اندمج العرب بالدولة الجديدة، ومنحوها ولاءهم، وكسبوا من أُعطياتها الكثير، وقدموا لها تضحياتٍ كثيرة، ورهنوا مصيرهم بمصيرها في فترات متعاقبة. وما زال المؤرخون العرب منقسمين في شأن تقويم الحقبة العثمانية بين معادٍ للأتراك، أو متحسّر على ذلك الزمن، أو غير ذلك. والواضح أن هناك قراءات شتى لتاريخ تلك الدولة، يتردد معظمها بين القراءة الانتمائية والقراءة المعادية والقراءة النقدية، والأخيرة قليلة في أي حال. وينظر الأتراك عمومًا، بحسب المصادر المتاحة، إلى العرب نظرةً هازئة، خصوصًا إلى الشريف حسين بن علي وأولاده (علي وعبدالله وزيد وفيصل) فرأوا فيهم مجرّد عصاة ومتآمرين على الدولة العلية، تمامًا مثل ما رأوا في فخر الدين المعني (أميرالاي الشوف وصفد) عاصيًا على دولتهم التي أعدمته، ومثلما وجدوا في بعض السوريين واللبنانيين والفلسطينيين المناوئين للدولة "جواسيس" لفرنسا، فعلقتهم على المشانق في دمشق وبيروت في العامين 1915 و1916.
الريبة التركية من العرب كانت تقابلها ريبة عربية من الأتراك، ولا سيما في عهد جمعية الاتحاد والترقي التي اختلط تاريخها، في أذهان النخب العربية، بالماسونية وبنفوذ يهود الدونمة في تركيا. وكلمة "الدونمة" تقابلها في العبرية كلمة "مينيم" أي المنشقون، أما الدونمة فيطلقون على أنفسهم كلمة "ميئه مينيم" أي المؤمنون. ومع أن عربًا كثيرين، خصوصًا من المتنوّرين، أُعجبوا بحركة أتاتورك القومية العلمانية، وحاولوا أن ينهجوا نهجه، إلاّ أن إكراهات الوقائع السياسية جعلت الفجوة بينهما كبيرة. وكان الأساس في الشك والريبة هو السياسة الطورانية التي استفزّت العرب والأقوام الأخرى أيضًا، كاليونان والمقدونيين والصرب والألبان، فضلاً عن الأرمن والأشوريين والسريان، وألجأتهم إلى البحث عن مخارج للخلاص من الظلم
والتمييز اللّذين تجسدا بعد إعلان الدستور العثماني الجديد في سنة 1877 في إقصاء الموظفين العرب الكبار عن مراكزهم، وعدم تعيين أي عربيٍّ في الوظائف العامة الرفيعة في سورية والعراق، وحل جمعية النهضة السورية في دمشق، وإحلال اللغة التركية في محل اللغة العربية في غير مجال. والمؤكد أن من بين 215 شخصًا ممن شغلوا منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) ربما كان هناك ثلاثة من العرب فقط في مقابل 78 تركيًا و31 ألبانيًا. أما أمراء البحر (أدميرالات الأساطيل) فلم يكن بينهم أي عربي. وعلاوة على ذلك، كانت حتى الاتجاهات السلفية في الأوساط العربية حانقةً على السلطان عبد الحميد لمحاباته الصوفيين ومشايخ الطرق الصوفية، وهو نفسه كان شاذليًا من مريدي السوري محمود أبو الشامات، وقرّب إليه محمد بن حسن الصيادي الحلبي (أبو الهدى الصيادي).
ليست الدولة العثمانية شريرة، بل كانت دولة عظيمة بلا ريب. ولم ينظر إليها العرب أنها دولة استعمارية، بل اعتبروها دولتهم، وكانوا يسمّون أبناءهم بأسماء مثل "تركي" و"تركية" و"دولت" وغيرها. لكنها مثل أي دولة عظيمة أخرى، مرّت بأطوار من الصعود والهبوط، أو التقدّم والانحطاط، أو التشدّد واللين، أو العدل والاستبداد. لذلك، تخضع دراسة التاريخ العثماني لتلك المتناقضات. ومع ذلك، لا يلتفت المغرمون بالتاريخ العثماني، على أهميته الفائقة، في أحيانٍ كثيرة، إلى تلك المتناقضات، ويهملون تفسيرها وتعليلها، ويتناسون أن تلك الدولة لم تنجد العرب في الأندلس في عام 1492، حين كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها بعد استيلاء بني عُثمان على القسطنطينية (اسطنبول) في سنة 1453. وكانت الذريعة هي الخطر الفارسي الصفوي الآتي من الشرق. ولمّا احتلت بريطانيا الخليج العربي وعدن في سنة 1839 لم تحرّك اسطنبول ساكنًا. وعلى هذا الغرار، استولت فرنسا على تونس في 1878، بعدما اجتاز الجيش الفرنسي الحدود الجزائرية إليها. وفي 1869، حُفرت قناة السويس وكأن تركيا غير موجودة. وفي 1882 هاجم الأسطولان الفرنسي والبريطاني مدينة الاسكندرية، ثم احتلت القوات البريطانية مصر والسودان في السنة نفسها، ولم تفعل الدولة العلية شيئًا، لأن شيخوختها التي بدأت في أوائل القرن الثامن عشر أوصلتها إلى حالة "الرجل المريض" في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وفي تلك المرحلة، باتت الدولة العثمانية مثل سفينة مثقوبة، فلجأت إلى التخفيف من حمولتها، فراحت تطرد المسيحيين من أرجائها، بعدما كانت اسطنبول نفسها عاصمة المسيحية المشرقية وتدعى القسطنطينية. وفي هذا الميدان، اندثرت من سجلات التمدّن في الحقبة العثمانية، وربما قبل ذلك بقليل، مدن عظيمة، مثل الرُها ونصيبين وحران وأنطاكيا ورأس العين وماردين.
الثابت، إحصائيًا على الأقل، أن عدد سكان مصر في زمن الفراعنة بلغ ثمانية ملايين شخص، واستمر ذلك الرقم حتى عهد البطالسة. لكن، في سنة 1800، أي في العهد العثماني، انخفض العدد إلى المليونين ونصف المليون شخص. وكان عدد سكان مدينة حلب في سنة 1530 نحو 57 ألفًا. وفي الوقت نفسه، كان عدد سكان روما خمسين ألفًا، فأين أصبحت روما، وأين غدت حلب؟ وكانت باشاوية طرابلس تضم في القرن السادس عشر نحو ثلاثة آلاف قرية، وانحطت في القرن الثامن عشر إلى 400 قرية فقط. وضمت ولاية حلب، في القرن السادس عشر، نحو 3200 قرية، لم يبقَ فيها في القرن الثامن عشر إلا 400 قرية، ولهذا تكثر أسماء الخرب في تلك المناطق (خربة كذا...).
مناسبة هذا الكلام هي السجالات التي اشتجرت أخيرًا في شأن فخري باشا أو فخر الدين باشا (آخر والٍ عثماني على المدينة المنورة، واسمه الكامل عمر فخر الدين مسعود باشا). فبعضهم رسمه لصًا استولى على محفوظاتٍ ثمينة ومخطوطات نادرة من المكتبة المحمودية في المدينة، بينها نسخة من القرآن الكريم تعود إلى عهد عُثمان بن عفان، ونقلها إلى اسطنبول حيث
وُضعت في قصر توبقابي (متحف توبقابي اليوم). ورأى آخرون فيه نمرًا تركيًا قاتل دفاعًا عن قبر النبي في المدينة المنورة، وأنقذ أماناتٍ كانت ستقع في أيدي النهّابين البدو. والأمر نفسه وقع للسلطان عبد الحميد في قصته مع تيودور هيرتزل، فبعضهم ما برح ينافح عنه بذريعة رفضه استيطان اليهود في فلسطين. لكن السلطان عبد الحميد إياه وافق على استيطان اليهود في الأناضول، ولم يعترض على إنشاء المستوطنات اليهودية الأولى، فبين عامي 1882 و1909، أي في زمن عبد الحميد، بُني أكثر من خمسين مستعمرة في فلسطين، صمد منها 44 مستعمرة. وحاول مؤرخون وكتاب كثيرون تبرير هذه الوقائع بفساد الولاة والموظفين في فلسطين، لكن حجج هؤلاء وذرائعهم كانت واهية جدًا، وتبريرية ومخالفة للتفكير السليم والحقائق الموضوعية.
أما ما يمكن قوله هنا فهو أن التاريخ هو هكذا دائمًا، علم يتضمن الآراء المتناقضة والمتنافرة كلها، وميدانٌ يتيح للتعليلات المتخالفة أن تتبارز معًا، وهو علم تراكميٌّ كطبقات الجيولوجيا الصخرية، لا تلغي أي طبقةٍ ما قبلها، بل تتراكب الواحدة فوق الأخرى بتسلسل طبيعي. وقصة فخر الدين باشا إنما من الروايات التي اختلف الرواة في شأنها كثيرًا، مثلما اختلفوا في الموقف من جمال باشا وطلعت باشا وأنور باشا ومصطفى كمال (أتاتورك)، ومن الشريف حسين بن علي وأولاده، فهناك من رماهم بالتهم القاسية كالعمالة للإنكليز، وهناك من رفعهم إلى مراتب سامقة. وفخري باشا ليس حالةً خاصةً. والمهم في هذا الأمر عدم إيقاع الظلم التاريخي على أي شخصيةٍ تاريخية، لأن الظلم في هذه الحال يعادل التزوير والكذب.
الريبة التركية من العرب كانت تقابلها ريبة عربية من الأتراك، ولا سيما في عهد جمعية الاتحاد والترقي التي اختلط تاريخها، في أذهان النخب العربية، بالماسونية وبنفوذ يهود الدونمة في تركيا. وكلمة "الدونمة" تقابلها في العبرية كلمة "مينيم" أي المنشقون، أما الدونمة فيطلقون على أنفسهم كلمة "ميئه مينيم" أي المؤمنون. ومع أن عربًا كثيرين، خصوصًا من المتنوّرين، أُعجبوا بحركة أتاتورك القومية العلمانية، وحاولوا أن ينهجوا نهجه، إلاّ أن إكراهات الوقائع السياسية جعلت الفجوة بينهما كبيرة. وكان الأساس في الشك والريبة هو السياسة الطورانية التي استفزّت العرب والأقوام الأخرى أيضًا، كاليونان والمقدونيين والصرب والألبان، فضلاً عن الأرمن والأشوريين والسريان، وألجأتهم إلى البحث عن مخارج للخلاص من الظلم
ليست الدولة العثمانية شريرة، بل كانت دولة عظيمة بلا ريب. ولم ينظر إليها العرب أنها دولة استعمارية، بل اعتبروها دولتهم، وكانوا يسمّون أبناءهم بأسماء مثل "تركي" و"تركية" و"دولت" وغيرها. لكنها مثل أي دولة عظيمة أخرى، مرّت بأطوار من الصعود والهبوط، أو التقدّم والانحطاط، أو التشدّد واللين، أو العدل والاستبداد. لذلك، تخضع دراسة التاريخ العثماني لتلك المتناقضات. ومع ذلك، لا يلتفت المغرمون بالتاريخ العثماني، على أهميته الفائقة، في أحيانٍ كثيرة، إلى تلك المتناقضات، ويهملون تفسيرها وتعليلها، ويتناسون أن تلك الدولة لم تنجد العرب في الأندلس في عام 1492، حين كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها بعد استيلاء بني عُثمان على القسطنطينية (اسطنبول) في سنة 1453. وكانت الذريعة هي الخطر الفارسي الصفوي الآتي من الشرق. ولمّا احتلت بريطانيا الخليج العربي وعدن في سنة 1839 لم تحرّك اسطنبول ساكنًا. وعلى هذا الغرار، استولت فرنسا على تونس في 1878، بعدما اجتاز الجيش الفرنسي الحدود الجزائرية إليها. وفي 1869، حُفرت قناة السويس وكأن تركيا غير موجودة. وفي 1882 هاجم الأسطولان الفرنسي والبريطاني مدينة الاسكندرية، ثم احتلت القوات البريطانية مصر والسودان في السنة نفسها، ولم تفعل الدولة العلية شيئًا، لأن شيخوختها التي بدأت في أوائل القرن الثامن عشر أوصلتها إلى حالة "الرجل المريض" في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وفي تلك المرحلة، باتت الدولة العثمانية مثل سفينة مثقوبة، فلجأت إلى التخفيف من حمولتها، فراحت تطرد المسيحيين من أرجائها، بعدما كانت اسطنبول نفسها عاصمة المسيحية المشرقية وتدعى القسطنطينية. وفي هذا الميدان، اندثرت من سجلات التمدّن في الحقبة العثمانية، وربما قبل ذلك بقليل، مدن عظيمة، مثل الرُها ونصيبين وحران وأنطاكيا ورأس العين وماردين.
الثابت، إحصائيًا على الأقل، أن عدد سكان مصر في زمن الفراعنة بلغ ثمانية ملايين شخص، واستمر ذلك الرقم حتى عهد البطالسة. لكن، في سنة 1800، أي في العهد العثماني، انخفض العدد إلى المليونين ونصف المليون شخص. وكان عدد سكان مدينة حلب في سنة 1530 نحو 57 ألفًا. وفي الوقت نفسه، كان عدد سكان روما خمسين ألفًا، فأين أصبحت روما، وأين غدت حلب؟ وكانت باشاوية طرابلس تضم في القرن السادس عشر نحو ثلاثة آلاف قرية، وانحطت في القرن الثامن عشر إلى 400 قرية فقط. وضمت ولاية حلب، في القرن السادس عشر، نحو 3200 قرية، لم يبقَ فيها في القرن الثامن عشر إلا 400 قرية، ولهذا تكثر أسماء الخرب في تلك المناطق (خربة كذا...).
مناسبة هذا الكلام هي السجالات التي اشتجرت أخيرًا في شأن فخري باشا أو فخر الدين باشا (آخر والٍ عثماني على المدينة المنورة، واسمه الكامل عمر فخر الدين مسعود باشا). فبعضهم رسمه لصًا استولى على محفوظاتٍ ثمينة ومخطوطات نادرة من المكتبة المحمودية في المدينة، بينها نسخة من القرآن الكريم تعود إلى عهد عُثمان بن عفان، ونقلها إلى اسطنبول حيث
أما ما يمكن قوله هنا فهو أن التاريخ هو هكذا دائمًا، علم يتضمن الآراء المتناقضة والمتنافرة كلها، وميدانٌ يتيح للتعليلات المتخالفة أن تتبارز معًا، وهو علم تراكميٌّ كطبقات الجيولوجيا الصخرية، لا تلغي أي طبقةٍ ما قبلها، بل تتراكب الواحدة فوق الأخرى بتسلسل طبيعي. وقصة فخر الدين باشا إنما من الروايات التي اختلف الرواة في شأنها كثيرًا، مثلما اختلفوا في الموقف من جمال باشا وطلعت باشا وأنور باشا ومصطفى كمال (أتاتورك)، ومن الشريف حسين بن علي وأولاده، فهناك من رماهم بالتهم القاسية كالعمالة للإنكليز، وهناك من رفعهم إلى مراتب سامقة. وفخري باشا ليس حالةً خاصةً. والمهم في هذا الأمر عدم إيقاع الظلم التاريخي على أي شخصيةٍ تاريخية، لأن الظلم في هذه الحال يعادل التزوير والكذب.