15 سبتمبر 2023
العرب والأتراك.. الحاضر ورواسب الماضي
خضع العرب للحكم العثماني منذ العام 1516 وحتى 1918، وتبدو صورة العثمانيين الأوائل في المصادر العربية المبكرة، والتي وثّقت الدخول العثماني لحلب ثم دمشق ولاحقاً القاهرة وبغداد وصنعاء، غير مستقرة، في زمن الانتقال. ولاحقاً استقرت وتبدلت إيجابياً، وخُطب للسلطان سليم العثماني باعتباره مدبّر أمور الأمم فلكي الهمم، سلطان المسلمين، وأمير المؤمنين، ولم تقل المصادر الأولى عنه إنه خليفة المسملين، إذ تمّت إضافة اللقب فيما بعد، ذلك أن السلطان سليم بقي سلطاناً، ونقل معه من القاهرة آخر ورثة البيت العباسي إلى إسطنبول، والذي يقال إن أحفاده انتهوا مستقرين في منطقة جنوب تركيا الحديثة.
ليس المهم اليوم إعادة سرد التاريخ، وإنما كيف نظر العرب إلى العثمانيين، وكيف تم تصوير العلاقة بينهما، وما انعكسات التحولات التي طرأت بعد الانقلاب العثماني 1908، أو ما سميت المشروطية الثانية على العلاقة العربية التركية، حيث أن وصول الحركة الطورانية إلى الحكم أدى إلى نتائج سلبية في العلاقة، وانتقال العرب من المطالبة بالإصلاح، في إطار من اللامركزية، إلى المطالبة بحكم محلي، وهو ما حدث في مطالبات إمام اليمن، يحيى بن حميد الدين، الذي رأى أن من حقه التمتع بحكم محلي، على غرار حكم الشريف حسين في الحجاز، ومن ثمّ مطالبة محمد الإدريسي حاكم عسير وجيزان بالطلب نفسه، والذي انتهت مطالبه بقمع تركي شديد، بمعنى أن النزعة الكيانية ظهرت قبيل حرب البلقان 1913 والحرب العالمية الأولى 1914. ومع ذلك، كان على الدولة العثمانية أن تخوض حملات استعادة وحروب طويلة لعودة الأقاليم الطامحة للاستقلال، إلى سلطانها، وشارك أبناء العرب إلى جانب الجيش العثماني في مهمات "السفر برلك" الطويلة في حربي عسير والجبل الأسود 1862 وحرب الصرب 1876 والحرب الروسية 1877-1878 والحرب البلقانية 1913.
تطورت نزعة العرب القومية، في هذه الظروف، في إطار الدولة العثمانية، وتأثرت حركة القومية العربية في نشأتها بالحركة البلقانية القومية التي بدأت في مدينة برزرن، لكن النزعة الإصلاحية استمرت حتى بدايات التواصل الغربي مع العرب، بعد إعلان الحرب الكبرى.
ولم تتطور مطالب العرب من الإصلاح من داخل الدولة والحكم اللامركزي إلى الرغبة بالاستقلال أو النزعة إلى ثورة، إلا مع تزايد سياسات الاتحاديين التتريكية، وهو ما آل إلى التقاء النخب العربية في دمشق، والاتفاق مع الأمير فيصل بن الحسين على الثورة، ثم كان ما حدث من محاولة لبناء حكم عربي في دمشق انتهى بمعركة ميسلون 1920.
يُستعاد التاريخ العربي العثماني اليوم، في عدة صور. هناك من يسحب السنوات الصعبة التي تلت انقلاب 1908 على مجمل تاريخ العلاقة العربية التركية الذي امتدّ أربعة قرون. وهناك من يفصل بين اللحظة الاتحادية وبداية النزعة القومية العربية. وهناك من يرى الحكم العثماني اسمترارا لدولة "الأروام" التي حكمت في القاهرة (دولة المماليك). وثمة من يراها دولة خلافةٍ مُفترى عليها، كما كتب عبد العزيز الشناوي، وظلت النزعة الدفاعية عن العثمانيين مقترنة بأمرين: أنها كانت دولة خلافة، حيث أن آخر الخلفاء له بيعة في الرقاب وعزل قهراً. وأنها دولة حافظت على وحدة بلاد الإسلام، والشرق العربي تحديداً، في زمن التفوق الغربي الذي أنهى الوجود المملوكي وأضعفه، بعد الكشوف الجغرافية. وخلال تلك القرون استمرت دولة بني عثمان بالفتوح وحفظ بيضة الإسلام. وفي مقابل هذا الرأي، هناك من رآها دولة استبداد شرقي، وهو رأي متأثر بالتوصيف الغربي لها.
بيد أن الصورة المرسومة سلباً لم تكن كلها نتيجة تصور غربي هيمن على الدراسات العربية، كما أن الرغبة بالنظرة الايجابية للدولة العثمانية ليست مجرد مشاعر، أو نزعات منفلته من عقالها، أو نتيجة جانب التدين أو شعور المسلمين بضياع خلافتهم، بل لأن الإنجازات العثمانية الحديثة، والتركية المعاصرة، ماثلة على الأرض، وباقية في التراث المادي، وفي المواقف الراهنة لتركيا، وهي تعزّز عودة الحضور العثماني.
وفي المقابل ذاكرةٍ مرّةٍ من الاستبداد والتجبّر والظلم، مارسها الولاة وممثلو السلطة العثمانية والمقاطعجية والزعامات على الفلاح في العصر العثماني الذي لم يقوَ على البقاء منتجاً ودافعاً للضرائب. وأنتج هذا الواقع حركاتٍ احتجاجيةً، وثوراتٍ محليةً، في حوران وريف دمشق، وفي الكرك والشوبك وجبل لبنان. ودعم الفقهاء ورجال الدين المسيحي هذه الثورات التي كانت تقصد تحرير الناس من الرسوم والضرائب، وتغير بنية السلطة المحلية والثورة على الأعيان.
وشهدت المجتمعات، في المدن العربية العثمانية، نوعاً آخر من الضرائب، سمي الرميات أو العوارض السلطانية وغيرها. وكانت تفرض على التجار كل هذا المناخ، ما أوجد حالة غضب دائمة، تختفي مع وصول والٍ عادلٍ يراعي الشرع والدين، ويهتم بطريق الحج واصلاحها. وهنا تتعدّل الصورة إيجابياً، كما تتحدّث المصادر في حالات عديدة، مع مدحت باشا في دمشق وبغداد، حيث أحدث نهضةً عمرانيةً كبيرةً في القرن التاسع عشر، إلى جانب أنه صاحب رأي في الإصلاح من الداخل ضد دعاة التغريب، وقبل ذلك مع سنان ودرويش باشا في دمشق في القرنين السادس والسابع عشر.
لا تخفي الدراسات المنصفة والعلمية التي قام بها مستشرقون، أمثال أندريه ريمون وجان سوفاجيه، وبعض العرب، أمثال عبد الكريم رافق وفاضل بيات، أو الأتراك، أمثال أكمل الدين أوغلوا وخالد أرن، حقيقة تطور المدن العربية، ونموها حضريا في العهد العثماني، حيث ازدهرت المعاهد، وقامت مؤسسة الأوقاف برعاية العلم ومجتمع العلماء. وأنفقت الأوقاف والصُرة السلطانية على مساجد القدس والحرمين ومدارسهما، وعلى إصلاح طرق الحج وإقامة البرك للحجيج، أو ما خصص منها للفقراء، وكان آخر المشاريع الكبرى عثمانياً سكة حديد الحجاز التي تعطلت بعد انطلاق جيش الثورة العربية شمالاً، وأصبحت معطلة بحلول نهاية 1917.
وقد تفاعلت المدينة العربية في العصر العثماني مع حركة الحداثة، فظهر المسرح والمقاهي، وازدهرت الصناعات المحلية والتي نُظمت في إطار الطوائف والأصناف. وتحالفت القوى الصوفية غالباً مع ممثلي السلطة، وبدت المعاهد ودور التعليم أواخر القرن الثامن عشر تفتح للإرساليات، ودخلت المطبعة مبكراً إلى حلب، ثم عبر الأديرة في لبنان أواخر القرن السادس عشر.
وعند النظرة إلى الحكم العثماني، يجب تذكّر أن المنطقة العربية ودولة الخلافة واجهت عدوين: حركة الاستعمار الغربي التي تطورت إلى محاولات هيمنة واحتلال، في عدة صور، مرة مع النفوذ الروسي في عهد كاترينا العظيمة، ومع حملة نابليون، ومن ثم الاحتلال البريطاني لمصر والاحتلال الفرنسي في الجزائر وتونس، ثم الإيطالي في ليبيا العثمانية. والحركة الصهونية التي نشطت ضد السلطنة منذ 1897.
وكان العرب مع العثمانيين قلباً وقالباً في حروبهم العديدة، باعتبار دولتهم وعاصمتهم "دار السعادة" عاصمة المُلك ودولة الدين والدنيا، وجاء قيام الحرب العالمية ليكشف حاجة الحلفاء للعرب، والرغبة الغربية باستكمال توزيع النفوذ شرقاً، بعدما اكتمل في شمال أفريقا منذ احتلال الجزائر. وسرّعت الحرب الكبرى في اعلان العرب رغبتهم بالانفصال، وهو ما حدث في يونيو/ حزيران 1916، لكن الترك دفعوا، مع الألمان، إلى إطلاق دعوة الجهاد المقدس إلى جانب السلطنة، وجيء بماكس أوبنهايم الألماني، وصاحب موسوعة البدو الشهيرة، ليدير الدعاية والحملة. وحققت هذه الدعاية نتائج كبيرة، وقامت مظاهرات في دارفور والهند، ترفض التخلي عن السلطنة، وتدعو لها بالنصر. وخضع العرب لهذه الدعاية، وألفت مؤلفات دعت إلى التمسّك بالسلطنة، وهو ما سميت أدعية الحروب، ومنها كتب عبد الرحمن بن الياس المدني.
ختاماً، هناك مبالغات في الصورة المرسومة ذهنياً للعثمانيين، بوصفهم أتراك ما بعد الانقلاب الطوراني، وهو إرثٌ تخلّى عنه الأتراك اليوم، ولا يتذكّرونه إلا إذا هاجمناهم فيه، فيما العرب قابعون في سردياته، كما أنه يجب الانتباه إلى أن الأتراك بعد مائة عام عن فكاكهم عنّا، نهضوا بعيداً عن هواجس إرثهم الإمبراطوري، بقدر ما حافظوا على هويتهم، وتقدّموا وطنياً عبر الجمهورية العلمانية، فيما مسار الدولة الوطنية عربياً ظلّ متعثرا بين وعود التقدميين والإسلاميين أو هيمنة القبيلة. ويذكر أن علاقة العرب بعد عامين على الخروج العثماني لم تكن سلبية، ففي 1920 ذهب فيصل بن الحسين إلى حلب ويقول: "نزلت في فندق البارون وآخر من نزله مصطفى كمال القائد التركي.."، وخطب في النادي العربي في حلب، داعيا إلى الوحدة والتآخي مع الأتراك، والتواصل وتجاوز التوتر الذي لازم العقد الثاني من القرن العشرين.
ليس المهم اليوم إعادة سرد التاريخ، وإنما كيف نظر العرب إلى العثمانيين، وكيف تم تصوير العلاقة بينهما، وما انعكسات التحولات التي طرأت بعد الانقلاب العثماني 1908، أو ما سميت المشروطية الثانية على العلاقة العربية التركية، حيث أن وصول الحركة الطورانية إلى الحكم أدى إلى نتائج سلبية في العلاقة، وانتقال العرب من المطالبة بالإصلاح، في إطار من اللامركزية، إلى المطالبة بحكم محلي، وهو ما حدث في مطالبات إمام اليمن، يحيى بن حميد الدين، الذي رأى أن من حقه التمتع بحكم محلي، على غرار حكم الشريف حسين في الحجاز، ومن ثمّ مطالبة محمد الإدريسي حاكم عسير وجيزان بالطلب نفسه، والذي انتهت مطالبه بقمع تركي شديد، بمعنى أن النزعة الكيانية ظهرت قبيل حرب البلقان 1913 والحرب العالمية الأولى 1914. ومع ذلك، كان على الدولة العثمانية أن تخوض حملات استعادة وحروب طويلة لعودة الأقاليم الطامحة للاستقلال، إلى سلطانها، وشارك أبناء العرب إلى جانب الجيش العثماني في مهمات "السفر برلك" الطويلة في حربي عسير والجبل الأسود 1862 وحرب الصرب 1876 والحرب الروسية 1877-1878 والحرب البلقانية 1913.
تطورت نزعة العرب القومية، في هذه الظروف، في إطار الدولة العثمانية، وتأثرت حركة القومية العربية في نشأتها بالحركة البلقانية القومية التي بدأت في مدينة برزرن، لكن النزعة الإصلاحية استمرت حتى بدايات التواصل الغربي مع العرب، بعد إعلان الحرب الكبرى.
ولم تتطور مطالب العرب من الإصلاح من داخل الدولة والحكم اللامركزي إلى الرغبة بالاستقلال أو النزعة إلى ثورة، إلا مع تزايد سياسات الاتحاديين التتريكية، وهو ما آل إلى التقاء النخب العربية في دمشق، والاتفاق مع الأمير فيصل بن الحسين على الثورة، ثم كان ما حدث من محاولة لبناء حكم عربي في دمشق انتهى بمعركة ميسلون 1920.
يُستعاد التاريخ العربي العثماني اليوم، في عدة صور. هناك من يسحب السنوات الصعبة التي تلت انقلاب 1908 على مجمل تاريخ العلاقة العربية التركية الذي امتدّ أربعة قرون. وهناك من يفصل بين اللحظة الاتحادية وبداية النزعة القومية العربية. وهناك من يرى الحكم العثماني اسمترارا لدولة "الأروام" التي حكمت في القاهرة (دولة المماليك). وثمة من يراها دولة خلافةٍ مُفترى عليها، كما كتب عبد العزيز الشناوي، وظلت النزعة الدفاعية عن العثمانيين مقترنة بأمرين: أنها كانت دولة خلافة، حيث أن آخر الخلفاء له بيعة في الرقاب وعزل قهراً. وأنها دولة حافظت على وحدة بلاد الإسلام، والشرق العربي تحديداً، في زمن التفوق الغربي الذي أنهى الوجود المملوكي وأضعفه، بعد الكشوف الجغرافية. وخلال تلك القرون استمرت دولة بني عثمان بالفتوح وحفظ بيضة الإسلام. وفي مقابل هذا الرأي، هناك من رآها دولة استبداد شرقي، وهو رأي متأثر بالتوصيف الغربي لها.
بيد أن الصورة المرسومة سلباً لم تكن كلها نتيجة تصور غربي هيمن على الدراسات العربية، كما أن الرغبة بالنظرة الايجابية للدولة العثمانية ليست مجرد مشاعر، أو نزعات منفلته من عقالها، أو نتيجة جانب التدين أو شعور المسلمين بضياع خلافتهم، بل لأن الإنجازات العثمانية الحديثة، والتركية المعاصرة، ماثلة على الأرض، وباقية في التراث المادي، وفي المواقف الراهنة لتركيا، وهي تعزّز عودة الحضور العثماني.
وفي المقابل ذاكرةٍ مرّةٍ من الاستبداد والتجبّر والظلم، مارسها الولاة وممثلو السلطة العثمانية والمقاطعجية والزعامات على الفلاح في العصر العثماني الذي لم يقوَ على البقاء منتجاً ودافعاً للضرائب. وأنتج هذا الواقع حركاتٍ احتجاجيةً، وثوراتٍ محليةً، في حوران وريف دمشق، وفي الكرك والشوبك وجبل لبنان. ودعم الفقهاء ورجال الدين المسيحي هذه الثورات التي كانت تقصد تحرير الناس من الرسوم والضرائب، وتغير بنية السلطة المحلية والثورة على الأعيان.
وشهدت المجتمعات، في المدن العربية العثمانية، نوعاً آخر من الضرائب، سمي الرميات أو العوارض السلطانية وغيرها. وكانت تفرض على التجار كل هذا المناخ، ما أوجد حالة غضب دائمة، تختفي مع وصول والٍ عادلٍ يراعي الشرع والدين، ويهتم بطريق الحج واصلاحها. وهنا تتعدّل الصورة إيجابياً، كما تتحدّث المصادر في حالات عديدة، مع مدحت باشا في دمشق وبغداد، حيث أحدث نهضةً عمرانيةً كبيرةً في القرن التاسع عشر، إلى جانب أنه صاحب رأي في الإصلاح من الداخل ضد دعاة التغريب، وقبل ذلك مع سنان ودرويش باشا في دمشق في القرنين السادس والسابع عشر.
لا تخفي الدراسات المنصفة والعلمية التي قام بها مستشرقون، أمثال أندريه ريمون وجان سوفاجيه، وبعض العرب، أمثال عبد الكريم رافق وفاضل بيات، أو الأتراك، أمثال أكمل الدين أوغلوا وخالد أرن، حقيقة تطور المدن العربية، ونموها حضريا في العهد العثماني، حيث ازدهرت المعاهد، وقامت مؤسسة الأوقاف برعاية العلم ومجتمع العلماء. وأنفقت الأوقاف والصُرة السلطانية على مساجد القدس والحرمين ومدارسهما، وعلى إصلاح طرق الحج وإقامة البرك للحجيج، أو ما خصص منها للفقراء، وكان آخر المشاريع الكبرى عثمانياً سكة حديد الحجاز التي تعطلت بعد انطلاق جيش الثورة العربية شمالاً، وأصبحت معطلة بحلول نهاية 1917.
وقد تفاعلت المدينة العربية في العصر العثماني مع حركة الحداثة، فظهر المسرح والمقاهي، وازدهرت الصناعات المحلية والتي نُظمت في إطار الطوائف والأصناف. وتحالفت القوى الصوفية غالباً مع ممثلي السلطة، وبدت المعاهد ودور التعليم أواخر القرن الثامن عشر تفتح للإرساليات، ودخلت المطبعة مبكراً إلى حلب، ثم عبر الأديرة في لبنان أواخر القرن السادس عشر.
وعند النظرة إلى الحكم العثماني، يجب تذكّر أن المنطقة العربية ودولة الخلافة واجهت عدوين: حركة الاستعمار الغربي التي تطورت إلى محاولات هيمنة واحتلال، في عدة صور، مرة مع النفوذ الروسي في عهد كاترينا العظيمة، ومع حملة نابليون، ومن ثم الاحتلال البريطاني لمصر والاحتلال الفرنسي في الجزائر وتونس، ثم الإيطالي في ليبيا العثمانية. والحركة الصهونية التي نشطت ضد السلطنة منذ 1897.
وكان العرب مع العثمانيين قلباً وقالباً في حروبهم العديدة، باعتبار دولتهم وعاصمتهم "دار السعادة" عاصمة المُلك ودولة الدين والدنيا، وجاء قيام الحرب العالمية ليكشف حاجة الحلفاء للعرب، والرغبة الغربية باستكمال توزيع النفوذ شرقاً، بعدما اكتمل في شمال أفريقا منذ احتلال الجزائر. وسرّعت الحرب الكبرى في اعلان العرب رغبتهم بالانفصال، وهو ما حدث في يونيو/ حزيران 1916، لكن الترك دفعوا، مع الألمان، إلى إطلاق دعوة الجهاد المقدس إلى جانب السلطنة، وجيء بماكس أوبنهايم الألماني، وصاحب موسوعة البدو الشهيرة، ليدير الدعاية والحملة. وحققت هذه الدعاية نتائج كبيرة، وقامت مظاهرات في دارفور والهند، ترفض التخلي عن السلطنة، وتدعو لها بالنصر. وخضع العرب لهذه الدعاية، وألفت مؤلفات دعت إلى التمسّك بالسلطنة، وهو ما سميت أدعية الحروب، ومنها كتب عبد الرحمن بن الياس المدني.
ختاماً، هناك مبالغات في الصورة المرسومة ذهنياً للعثمانيين، بوصفهم أتراك ما بعد الانقلاب الطوراني، وهو إرثٌ تخلّى عنه الأتراك اليوم، ولا يتذكّرونه إلا إذا هاجمناهم فيه، فيما العرب قابعون في سردياته، كما أنه يجب الانتباه إلى أن الأتراك بعد مائة عام عن فكاكهم عنّا، نهضوا بعيداً عن هواجس إرثهم الإمبراطوري، بقدر ما حافظوا على هويتهم، وتقدّموا وطنياً عبر الجمهورية العلمانية، فيما مسار الدولة الوطنية عربياً ظلّ متعثرا بين وعود التقدميين والإسلاميين أو هيمنة القبيلة. ويذكر أن علاقة العرب بعد عامين على الخروج العثماني لم تكن سلبية، ففي 1920 ذهب فيصل بن الحسين إلى حلب ويقول: "نزلت في فندق البارون وآخر من نزله مصطفى كمال القائد التركي.."، وخطب في النادي العربي في حلب، داعيا إلى الوحدة والتآخي مع الأتراك، والتواصل وتجاوز التوتر الذي لازم العقد الثاني من القرن العشرين.