28 يناير 2024
القدس و"راس العبد"
"لا شأن لي باحتلال القدس، فأنا لم أزل طفلاً في السابعة، ومن حقي الحصول على حلوى "راس العبد"، التي عودني أبي على شرائها يوميًا، حال عودته من عمله في مشروع إنشاء سدّ المخيبة، على الحدود الأردنية الفلسطينية".
كنت محتقنًا ذلك اليوم، فقد قيل لي "لا تقترب من أبيك، فهو غاضبٌ للغاية لأن القدس احتلت"، ما يعني أنني فقدت فرصتي الذهبية بالحصول على "راس العبد" الموعود.
لا أتذكّر، بل أصف الحال، لأنني لم أزل طفلاً في السابعة، لم يكبر منذ تلك الظهيرة القائظة، التي عاد فيها أبي مبكرًا إلى بيتنا في مدينة إربد، معفّر الوجه والثياب، وبدت ملامحه كأنها تختزن غضب الكون كله، فقد نجا بصعوبة من قصف الطيران الإسرائيلي سد المخيبة، والمنطقة التي كان يعمل فيها، ولم يفعل شيئًا سوى الانزواء في ركنٍ بعيد داخل البيت، وحرق السجائر بشراهة، ولم يجرؤ أحد منا على الاقتراب منه.
منذ تلك اللحظة، بدأت أقرأ الحوادث العربية من خلال ملامح أبي، وصرت أكثر تدقيقًا فيها، قبل أن أجرؤ على طلب "راس العبد" منه.
فبعد ذلك الزمن بسنوات، وفي السابعة من عمري، أيضًا، لم أجرؤ على طلب هذا "الرأس"، أيضًا، في حرب تشرين (التحريرية) سنة 1973، على الرغم من أنني كنت أقرأ في بدايتها انفراجًا في أسارير أبي، مع تقدّم القوات المصرية، واقتحامها خط بارليف المحصن، غير أن ملامحه سرعان ما عادت إلى تجهمها، حين رجع من عمله في سد المخيبة معفرًا للمرة الثانية، ولسان حاله يقول "هي مجرد خدعة أخرى من حكامنا، فالحرب لم تكن تحريرية، بل تحريكية، هدفها الصلح مع العدو والتنازل عن القدس إلى الأبد"، وكدت أسأله: "لكن القدس احتلت من زمان يا أبي"، لكنني خشيت من ردة فعله التي لا تعرف عواقبها، وآثرت الصمت علّني أحظى بفرصة ثانية للحصول على "راس العبد".
لاحقًا، خضت، أيضاً، خيبات "الربيع العربي"، على وجه أبي، على الرغم من أنني لم أتجاوز السابعة من عمري، وكم كنت قريبًا من "راس العبد"، مرّات متعددة، لكن اختطاف هذه الثورات من لصوص كثيرين في أبوظبي والرياض وتل أبيب، أعادني ثانيةً إلى مربع بعيد عن موضع انزواء أبي، إثر عودته خائبًا من سد الخيبة.
في السابعة، كذلك، كنت أقف أمام جسد أبي المسجّى، في الركن المنزويّ من البيت، موشكًا أن أطلب منه ثمن "راس العبد"، حين قيل لي إن علي أن أقرأ الفاتحة على روحه، ولم أدر ما معنى هذه العبارة؛ إذ كان كل ما فكرت فيه خساراتي المتكرّرة للرأس المشتهى.
قرأت في ملامحه خيبة كبيرة هذه المرة، مفادها بأن "القدس احتلت إلى الأبد"، لا بسبب إعلان ترامب المدينة عاصمة أبدية لإسرائيل، فهذا بديهي للغاية، لأن الانحياز الأميركي للعدو قديم قدم "سد الخيبة" نفسه الذي تحطمت عنده آمال أبي كلها بالعودة والتحرير واستعادة القدس، بل بسبب تواطؤ أنظمة عربية كثيرة مع هذا القرار، وتنسيق ترامب معها قبل صفعته المهولة على خد العرب جميعًا، بهذا الإعلان المشؤوم.
عرفت في هذه "الخيبة" تحديدًا، أنني لم أعد في السابعة من عمري، وأن ما أطلبه ليس "رأس عبد" واحدًا فقط، بل "رؤوس عبيد" كثر ينامون على عتبات البيت الأبيض والكنيست الإسرائيلي، يعرضون خدماتهم، ويستجدون العمالة استجداء، "عبيد" تحفل بهم بلادنا، يعتلون عروش القش، ولا يأنفون من التفريط بسائر مقدساتهم وبلادهم وشعوبهم، إن لزم الأمر، لقاء البقاء على تلك العروش الزائفة.
عرفت أن من يحتل القدس حقًا، ليس إسرائيل ولا أميركا، بل هؤلاء العبيد أنفسهم.
كنت محتقنًا ذلك اليوم، فقد قيل لي "لا تقترب من أبيك، فهو غاضبٌ للغاية لأن القدس احتلت"، ما يعني أنني فقدت فرصتي الذهبية بالحصول على "راس العبد" الموعود.
لا أتذكّر، بل أصف الحال، لأنني لم أزل طفلاً في السابعة، لم يكبر منذ تلك الظهيرة القائظة، التي عاد فيها أبي مبكرًا إلى بيتنا في مدينة إربد، معفّر الوجه والثياب، وبدت ملامحه كأنها تختزن غضب الكون كله، فقد نجا بصعوبة من قصف الطيران الإسرائيلي سد المخيبة، والمنطقة التي كان يعمل فيها، ولم يفعل شيئًا سوى الانزواء في ركنٍ بعيد داخل البيت، وحرق السجائر بشراهة، ولم يجرؤ أحد منا على الاقتراب منه.
منذ تلك اللحظة، بدأت أقرأ الحوادث العربية من خلال ملامح أبي، وصرت أكثر تدقيقًا فيها، قبل أن أجرؤ على طلب "راس العبد" منه.
فبعد ذلك الزمن بسنوات، وفي السابعة من عمري، أيضًا، لم أجرؤ على طلب هذا "الرأس"، أيضًا، في حرب تشرين (التحريرية) سنة 1973، على الرغم من أنني كنت أقرأ في بدايتها انفراجًا في أسارير أبي، مع تقدّم القوات المصرية، واقتحامها خط بارليف المحصن، غير أن ملامحه سرعان ما عادت إلى تجهمها، حين رجع من عمله في سد المخيبة معفرًا للمرة الثانية، ولسان حاله يقول "هي مجرد خدعة أخرى من حكامنا، فالحرب لم تكن تحريرية، بل تحريكية، هدفها الصلح مع العدو والتنازل عن القدس إلى الأبد"، وكدت أسأله: "لكن القدس احتلت من زمان يا أبي"، لكنني خشيت من ردة فعله التي لا تعرف عواقبها، وآثرت الصمت علّني أحظى بفرصة ثانية للحصول على "راس العبد".
لاحقًا، خضت، أيضاً، خيبات "الربيع العربي"، على وجه أبي، على الرغم من أنني لم أتجاوز السابعة من عمري، وكم كنت قريبًا من "راس العبد"، مرّات متعددة، لكن اختطاف هذه الثورات من لصوص كثيرين في أبوظبي والرياض وتل أبيب، أعادني ثانيةً إلى مربع بعيد عن موضع انزواء أبي، إثر عودته خائبًا من سد الخيبة.
في السابعة، كذلك، كنت أقف أمام جسد أبي المسجّى، في الركن المنزويّ من البيت، موشكًا أن أطلب منه ثمن "راس العبد"، حين قيل لي إن علي أن أقرأ الفاتحة على روحه، ولم أدر ما معنى هذه العبارة؛ إذ كان كل ما فكرت فيه خساراتي المتكرّرة للرأس المشتهى.
قرأت في ملامحه خيبة كبيرة هذه المرة، مفادها بأن "القدس احتلت إلى الأبد"، لا بسبب إعلان ترامب المدينة عاصمة أبدية لإسرائيل، فهذا بديهي للغاية، لأن الانحياز الأميركي للعدو قديم قدم "سد الخيبة" نفسه الذي تحطمت عنده آمال أبي كلها بالعودة والتحرير واستعادة القدس، بل بسبب تواطؤ أنظمة عربية كثيرة مع هذا القرار، وتنسيق ترامب معها قبل صفعته المهولة على خد العرب جميعًا، بهذا الإعلان المشؤوم.
عرفت في هذه "الخيبة" تحديدًا، أنني لم أعد في السابعة من عمري، وأن ما أطلبه ليس "رأس عبد" واحدًا فقط، بل "رؤوس عبيد" كثر ينامون على عتبات البيت الأبيض والكنيست الإسرائيلي، يعرضون خدماتهم، ويستجدون العمالة استجداء، "عبيد" تحفل بهم بلادنا، يعتلون عروش القش، ولا يأنفون من التفريط بسائر مقدساتهم وبلادهم وشعوبهم، إن لزم الأمر، لقاء البقاء على تلك العروش الزائفة.
عرفت أن من يحتل القدس حقًا، ليس إسرائيل ولا أميركا، بل هؤلاء العبيد أنفسهم.