24 أكتوبر 2024
هل القتلة بشرٌ مثلنا؟
يبحث السوريون ممن لهم ابن أو أب أو أخ أو أخت أو قريب مفقود أو معتقل في صورةٍ تتسرب بين الحين والآخر من معتقلات النظام السوري، متمنين أن لا يكون قريبهم من بين الجثث في الصور المرعبة، على أمل أن تحصل معجزةٌ، ويعود فيه المفقود إلى أهله. لا شك في أن العصابة الحاكمة في دمشق قد حوّلت حياة السوريين إلى جحيم، ليس بالمعنى المجازي للكلمة، بل بالمعنى الفعلي. كل يوم يمر يكشف المزيد من الجرائم المرتكبة في سورية، حتى بات البلد منتجاً لألبوم الرعب الذي يصوّر الهولوكست السوري المستمر منذ ست سنوات. عشرات آلاف الأبرياء، ليس لهم ذنب، سوى أنهم كانوا في المكان الخطأ في الزمان الخطأ، ما عرّضهم للاعتقال، وبالتالي، لأبشع أنواع التنكيل والتعذيب، وأن يد الجلاد لا تكفّ عن القتل داخل المعتقلات وخارجها.
وبما أن الجرائم المعروفة إلى اليوم يمكن أن تكون قمة جبل الجليد للجرائم المرتكبة بحق السوريين، فلنا أن نتخيّل أي هولوكوست مرَّ ويمرُّ السوريون به على يد النظام المجرم في دمشق، من دون أن يرفّ للعالم جفن، والى متى سيستمر؟!. يبعث التطابق بين صور الهولوكست اليهودي على يد الألمان والهولوكست السوري على يد النظام على الفزع، لا فرق بينهما سوى أن صور الهولوكست السوري ملوّنة، ولو تم حذف الألوان من الصور وخلطها مع صور الهولوكست، لما تم تميز الصور عن بعضها بعضاً.
تبعث عمليات القتل على الذهول، ليس بسبب وحشيتها فحسب، بل، وبسبب ضعف الإجابة
من أين جاءت كل هذه القسوة؟ أين تربى هذا الإجرام السادي المنفلت من عقاله؟ أي منظومةٍ قيمية في غاية التشويه أنتجت هذه الوحوش البشرية، مصاصي دماء بشر مثلهم؟ هل تفسر "عادية الشر" التي كتبت عنها حنة أرندت في كتابها "إيخمان في القدس"، والذي يحمل عنواناً فرعياً "تقرير عن عادية الشر" الوضع السوري. شكل إيخمان في نظر أرندت نموذجاً للإداري التكنوقراطي الذي يرتكب أبشع الجرائم بضمير مرتاح من دون أن يرفّ له جفن، بوصفه جزءاً من الآلة. ينزع تعبير "عادية الشر" الذي استخدمته أرندت الشيطنة عن الجناة والقتلة، مصورة إيخمان بوصفه موظفاً بورجوازياً تافهاً، وليس سادياً أو شاذّاً، كما حاول الادعاء الإسرائيلي أن يصوّره، بل شخصاً عادياً تماماً، ومرعباً في عاديته. لم ترَ أرندت في إيخمان تجسيداً للشر، بل اعتبرت أن الكارثة تكمن في قدرة النظم الشمولية على تحويل البشر إلى محض "منفذين" و"تروس" في الآلة الإدارية لدولة البطش، أي تجرّدهم من إنسانيتهم، وتجعلهم منفذين للشر، بوصفه الأمر الطبيعي الذي عليهم القيام به.
ليس التحليل الفكري وحده الذي يتحدّث عن تحول البشر إلى تروسٍ في آلة الدولة الشمولية المدمرة، علم النفس بدوره يدعم هذه العادية للشر. بعد الحرب العالمية الثانية، تم إجراء تجارب وأبحاث نفسية عديدة لإيجاد أجوبةٍ مقنعةٍ عن كيفية اتباع الإنسان أوامر قد تعتبر غير أخلاقية أو إنسانية. من أشهر هذه التجارب تجربة العالم النفسي الأميركي، ستانلي ملغرام، مطلع الستينات، وفيها قام بتجنيد متطوعين مقبولين من الناحية الثقافية والاجتماعية، وقام بتوزيع الأدوار عليهم، من دون أن يدري المتطوعون الغرض الرئيسي من التجربة. وضع ملغرام أحد الأشخاص في غرفةٍ مغلقةٍ، لا يمكن لأحد رؤيته فيها، وأعطي لهذا الشخص تعليمات أن يخطئ بصورة متعمدة في هجاء بعض الكلمات. على الجانب الثاني من الغرفة، كان هناك شخص مزود بقائمة من الكلمات التي طلب منه أن يلقنها للشخص الموجود في الغرفة، ليقوم الأخير بهجائها بالصورة الصحيحة، وإذا أخطأ فعلى السائل أن يضغط على زر يؤدي إلى صعق الشخص بشحنةٍ كهربائية، تُزاد كمية الشحنة في كل مرة يرتكب فيها الشخص خطأ إضافياً. في الحقيقة، لم يكن هناك أي جرعة كهربائية، لكن السائل لم يعرف ذلك، والشخص الموجود في الغرفة كان يتصنّع الصراخ من الألم كل مرة يضغط السائل فيها على الزر. لم يكن لكل المشتركين أي مانع من تنفيذ هذا الأمر، ما أدى إلى الاستنتاج بأن للإنسان نزعة بإتباع الأوامر، إذا ما اعتقد أنها صادرة من أشخاص مسؤولين، حتى إذا كانت هذه الأوامر منافيةً للمنطق.
مرعبةٌ فكرة "عادية الشر"، يعني أن الشر مقيم بيننا، في منازلنا، بين أصدقائنا، جيراننا، في البشر البسطاء الذين يسيرون في الشارع، كل هؤلاء يمكن تحويلهم إلى تروسٍ في آلة القتل،