01 يناير 2024
مؤتمر فلسطينيي الخارج.. الاستقطاب وتعميق الانقسام
كل الاحترام والتقدير للذين نظموا المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، وقاموا عليه. والاختلاف في الاجتهاد أو الرأي معهم لا يفسد للود قضية، بأي حال. وانطلاقاً من هذا، يمكن طرح عدة ملاحظات أساسية بشأن المؤتمر الذي عقد في اسطنبول نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي. وعقده في اسطنبول لا يعيبه أبداً، فقد ضاقت المنطقة والدنيا على منظمي المؤتمر، فالعواصم والحواضر الكبرى تحكمها الفلول والثورات المضادة، وبيروت تخلت، منذ زمن، عن دورها نافذة للعالم العربي وشرفته المفتوحة على العالم، وباتت الآن تحت سيطرة (وهيمنة) الحشد الشعبي الذي يفرض إرادته بقوة السلاح في الداخل، بينما يتماهى مع الغزاة والطغاة والفلول في الخارج.
وإضافة إلى ما سبق، ليست اسطنبول غريبة عنّا، هي عاصمتنا حاضرتنا الكبرى، أخت عواصمنا وحواضرنا الكبرى، مكة، الشام، حلب، القاهرة، القدس، بغداد، الموصل، تونس، والجزائر، والخرطوم، وهي تستفيق وتستعيد وعيها وذاكرتها التاريخية ببطء، وبشكل تدريجي ومتواصل.
منظمو المؤتمر قادة ومسؤولون في حركة حماس، والهيئات والمؤسسات التي شاركت في الإعداد، أو عبرت عن دعمها ومساندتها المؤتمر، تابعة وموجهة من الحركة، وتمت دعوة شخصيات من خارج "حماس"، علماً أنهم كانوا بمثابة الاستثناء الذي يثبت القاعدة، ولا ينفيها. وكما تبدّى من الندوات التي عقدت على هامش المؤتمر، وحاضر فيها إخوة أصدقاء زملاء أغلبهم من حماس، أو العاملين في مؤسساتٍ تابعة لها، مدعومةٌ ومقرّبةٌ منها، ببساطة تقف حماس خلف المؤتمر من الألف إلى الياء.
إلى ذلك، تم تجاهل دعوة شخصيات ومؤسسات فلسطينية عديدة في تركيا وخارجها، سواء لجهة نقاش فكرة المؤتمر وكيفية إنجاحها، وحتى في تحديد الدعوات والمشاركين والأساس المتين الذي سينطلق منه المؤتمر. ببساطة، اتفقت نواة ومجموعة من "حماس"، وقرّرت إقامة المؤتمر وفق اجتهادها وأهدافها وأجندتها، ومن ثم تم التفكير في المدعوين أو الشخصيات التي بإمكانها التساوق، والتأييد، أو عدم معارضة الإطار المحدّد له.
من هنا، بدا مؤتمر اسطنبول في الحقيقة أقرب إلى مؤتمر الجالية الفلسطينية في أوروبا، الذي ترعاه وتدعمه "حماس" مباشرة (ثمة مؤتمرات وجاليات أخرى مدعومة من فتح أو فصائل منظمة التحرير)، ومن شارك من خارجها هم الشخصيات نفسها التي كانت تتم دعوتها إلى الخطابة والمحاضرة في مؤتمر الجالية الفلسطينية في أوروبا. أي أننا أمام تغييب لنصف الجاليات الفلسطينية بالخارج وتجاهلها، وفق ما يتبدى من المؤتمرات المتعددة لها التي تعقد في أوروبا تحديداً.
أما البيان الختامي للمؤتمر فقد تحدث عن منظمة التحرير بصفتها الممثل الشرعي، وليس الوحيد للفلسطينيين، من دون إقامة التمييز الضروري واللازم بين المنظمة وطناً معنويا لنا أينما كنا، واللجنة التنفيذية بصفتها الهيئة الإدارية التي تديرها، وهي بالتأكيد غير شرعية غير ميثاقية غير ديمقراطية، ولا تعبر عن الواقعي، ولا عن المشهد السياسي الحزبي الحالي في فلسطين.
لا يمكن الجدال أو تجاهل حقيقة أن المنظمة، أو بالأحرى لجنتها التنفيذية، لا تقوم بواجبها كما ينبغي، وهي تتجاهل، منذ اتفاق أوسلو، وعن عمد، فلسطينيي الخارج. وفي الحقيقة، ابتلعت السلطة الوطنية المنظمة، وهي التي تتصرف وكأنها تخص فلسطينيي الداخل فقط. ومن هنا لا يمكن إنكار حق أو اتهام من ينطلق للعمل لملء هذا الفراغ، والقيام بأنشطة سياسية إعلامية اجتماعية نقابية فلسطينية في الخارج، غير أن هذا يجب أن ينطلق بوضوح، ومن دون لبس، أو شك من قاعدة أن المنظمة وطن الفلسطينيين المعنوي، ولا مشكلة طبعاً مع الوطن الذي لا يشيخ أبداً، والمشكلة هي فقط مع الحكومة التي تدير الوطن، وبمجرد إعادة الحياة والحيوية إلى شرايين المنظمة ومؤسساتها، وانتخاب لجنة تنفيذية جديدة بشكل ديمقراطي وطني شفاف ونزيه، فإن كل ما يعمل حالياً أو يجتهد لملء الفراغ سيضع نفسه بتصرف القيادة الجديدة، بصفتها المرجعية لكل الفلسطينيين في الداخل والخارج.
الأمر اللافت الآخر في البيان الختامي كان الموقف المخجل والمشين من الثورات العربية، بإبداء الحياد تجاهها، وعلى الرغم من أن المؤتمر شعبي، ويفترض أنه يتحرّر من القيود الرسمية، وحتى من اللغة الدبلوماسية، إلا أنه تبنى لغةً رسمية ومحايدة تجاه الثورات. وبدلاً من الانحياز للشعوب الثائرة ضد أنظمة الاستبداد التي قهرت وقتلت من الفلسطينيين أكثر مما فعلت إسرائيل، تم الحديث عن حيادٍ تجاه المحاور المتصارعة، على الرغم من أن هذه هي لغة الفلول والثورات المضادة، فقد تم صبغ الثورات بالدم، واستجلاب مليشيات طائفية مذهبية أجنبية، وحتى غزاة، كما في الحالة الروسية، لدعم الأنظمة الأقلية الحاكمة بالمعنى الطائفي الحزبي السياسي، ثم تم تمويه الواقع والحديث عن تباينات وخلافات بين محاور سياسية، لا بد بالتالي من عزل القضية الفلسطينية عنها، وليس عن ثوراتٍ وتناقضاتٍ بين الشعوب وسلطات الاستبداد الحاكمة التي فشلت في امتحانات الخبز الحرية الكرامة، وقبل ذلك وبعده امتحان فلسطين الكبير.
إلى ذلك، تم تعمد اختيار شخصيات من خارج "حماس" لرئاسة المؤتمر أو إدارته لنفي رعاية "حماس" له، أو للتمويه على قيادتها له، واللافت أنهم جميعاً بلغوا من الكبر عتيّاً، يفترض أن يأتوا ضيوفا، ويقدّموا نصائحهم أو تصوراتهم للأجيال الجديدة. ومع كل الاحترام لهم، إلا أنهم
عموما، يمثل المؤتمر، فى أحسن الأحوال، نصف فلسطينيي الخارج، وهو تعبير عن الانقسام، وليس حلاًّ أو علاجاً له. وللأسف، فقد عمّق الانقسام والاستقطاب، ومع طابعه الحزبي والسياسي لم يضع حلولاً جدية تجاه المصالحة، خصوصا مع لهجة (أو خطاب) التكفير السياسي التخويني من قبل بعض المتحدثين.
أخيرا، رغبة (وحق) فلسطينيي الخارج، خصوصا الشباب منهم، في التعبير عن أنفسهم وملء الفراغ الذي تركته اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وليست المنظمة وطنا، لكن هذا يجب أن يتم على قاعدة وطنية فكرية سياسية. واضحة في اعتبار المنظمة وطناً لا خلاف أو صراع معه، والخلاف والتباين واقع مع الهيئة الهرمة الفاسدة التي تديره. إلى جانب الانحياز الراسخ للثورات التي اندلعت في وجه الدول العميقة المتوحشة، بحثاً عن دول عربية مدنية ديوقراطية لكل مواطنيها. وحتماً لا يمكن فصل نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والكرامة والاستقلال وتقرير المصير عن حق الشعوب العربية في فعل الشيء نفسه. الشعوب التي احتضنت الفلسطينيين، وساهمت بكل ما تستطيع من أجل القضية الفلسطينية، وتحملت عقوداً أنظمة الاستبداد القهر والاستبداد، بحجة تحرير فلسطين وذريعته، وأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة التي اتضح أنها لمصلحة السلطة النظام والعائلة، وضد الشعوب نفسها، وليست ضد الاحتلال الإسرائيلي، أو الاحتلالات الأخرى على اختلاف مسمياتها وأشكالها.