09 نوفمبر 2024
حدث في موريتانيا... وغيرها
كنتُ في موريتانيا، حين رفض مجلس الشيوخ فيها التعديلات الدستورية المقترحة من حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم. قال لي صديق موريتاني: ما جرى أمر سياسي مهم، فنحن نملك ديمقراطية
تذكّرت، حينها، العبرة التي كان يمكننا استخلاصها، قبل "الربيع العربي" بسنوات، مما جرى في موريتانيا العام 2008، حين قرّر الرئيس المنتخب، سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، أن يقيل قادة الجيش، فرّد هؤلاء بإقالته هو، ولسان حالهم يقول: هل صدّق حقاً أنه رئيس؟ إنه من دون رضانا وحمايتنا وتنازلنا الطوعي عن السلطة لا يساوي شيئاً، وسنريه ذلك كي يصحو على الحقيقة.
هذا ما كان يومها، إذ ذكّرنا الجيش الموريتاني بأن ما جرى عقب إطاحة الرئيس العسكري، معاوية ولد الطايع، العام 2005، وتنظيم انتخابات رئاسية العام 2007، لم يكن تطوراً ديمقراطياً طبيعياً ولا حقيقياً، بل كان "تمثيلية ديمقراطية"، لعب الجيش فيها دور البطل الفعلي، فيما لعب السياسيون دور الدمى والأراجوزات، وحين أرادوا التطاول والمنافسة على دور البطولة، نبّههم الجيش إلى حقيقتهم: لستم إلا أراجوزات.
كانت العبرة يومها أن الديمقراطية التي تقوم على "تمثيلية" لا يكون لها ضمانات تحمي استمرارها، وتحفظ بقاءها، وتساعد على تجذّرها، بل تكون في مهبّ الريح، مرهونة لأهواء من يملكون القوة والنفوذ، فإن رضوا عنها تركوها تستمر، وإلا قضوا عليها من دون أن يقاومهم أحد، ما يعني أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون حقيقية إن لم تكن متجذّرة في ثقافة المجتمع، ومنعكسة بالتالي في ثقافة السلطة. أليست هذه نفسها خلاصة ثورات العرب من ربيعهم المفترض؟ فإلى متى سنظل نعبر التجارب التاريخية من دون أن نتعلم منها؟
شهد العالم العربي تجربتين انقلابيتين، تستحقان الاعتبار بهما في هذا الشأن: في العام 1989 حين عطّلت "ثورة الإنقاذ" تمثيلية الديمقراطية "دفاعاً عن السودان" (!)، وفي العام 2008 حين عطلت عودة الجيش تمثيلية الديمقراطية "دفاعاً عن موريتانيا" (!). في الحالتين، كانت الديمقراطية التي يقدمها الانقلاب العسكري على الاستبداد مؤقتة، مع أنها محروسة بالنيات الطيبة للانقلابيين، ذلك أن هؤلاء الانقلابيين طيبو القلوب، يسلّمون السلطة طائعين، ويعودون إلى بيوتهم، تاركين المجال لانقلابيين آخرين كي يفعلوا ما يشاؤون.
ثم جاءت ثورات الربيع العربي لتعطينا الدرس نفسه، بشكل أكثر عمقاً وألماً ودموية: لا ضمانة للديمقراطية، أيها الناس، ما لم تنبع من داخل ثقافة المجتمع، ومن تطوره الطبيعي. لهذا، فإن أية ديمقراطية مستحدثة في العالم العربي، بالانقلاب أو بالثورة، تظل في مهب الريح، ما لم تتزامن مع برنامج تربوي وتعليمي، وتشريعات غليظة، تنقل الديمقراطية من النظرية إلى الممارسة، حتى تصير جزءاً من حياة الناس، في البيت والشارع والسوق، فيحملوها معهم إلى السلطة، ولا يرضون إلا بحكم ديمقراطي يتبدّل دورياً.
على أية حال، لا يمكن أن تكون الديمقراطية مطلوبة لذاتها، وخصوصا في البلدان العربية الفاشلة تنموياً، بل من أجل النهوض والتقدّم والتنمية. أليس غريباً أن يحصل الصراع بين الديمقراطية والانقلابية، في بلدانٍ عربية تعاني مشكلاتٍ جذرية في التنمية؟ علام يتصارع الناس هناك، ما داموا جميعاً؛ ديمقراطيين أو انقلابيين، لا يتصدّون، حين يبلغون السلطة، لمهام تنموية ملحة، تمس حياة الناس اليومية، وصحتهم، والبيئة التي يعيشون فيها، فضلاً عن أن تمس رفاههم؟ ما جدوى كل هذا الصراع على السلطة في بلدان تفتقر إلى الشوارع، والأرصفة، والنظام العام؟
يبدو كل شيء بمثابة تمثيلية فعلاً: الانتخاب، الديمقراطية، الانقلاب، الثورة. ليس ثمة معنى لكل هذه المفردات، ما بقي الإنسان خارج الحضور التاريخي، متأخراً عن العصر، مفتقراً في حياته اليومية إلى منجزات التنمية الضرورية؛ إذ كيف يمكن استخدام مفرداتٍ سياسية معاصرة، لمجتمعاتٍ تغيب عنها منجزات العصر؟
تذكّرت، حينها، العبرة التي كان يمكننا استخلاصها، قبل "الربيع العربي" بسنوات، مما جرى في موريتانيا العام 2008، حين قرّر الرئيس المنتخب، سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، أن يقيل قادة الجيش، فرّد هؤلاء بإقالته هو، ولسان حالهم يقول: هل صدّق حقاً أنه رئيس؟ إنه من دون رضانا وحمايتنا وتنازلنا الطوعي عن السلطة لا يساوي شيئاً، وسنريه ذلك كي يصحو على الحقيقة.
هذا ما كان يومها، إذ ذكّرنا الجيش الموريتاني بأن ما جرى عقب إطاحة الرئيس العسكري، معاوية ولد الطايع، العام 2005، وتنظيم انتخابات رئاسية العام 2007، لم يكن تطوراً ديمقراطياً طبيعياً ولا حقيقياً، بل كان "تمثيلية ديمقراطية"، لعب الجيش فيها دور البطل الفعلي، فيما لعب السياسيون دور الدمى والأراجوزات، وحين أرادوا التطاول والمنافسة على دور البطولة، نبّههم الجيش إلى حقيقتهم: لستم إلا أراجوزات.
كانت العبرة يومها أن الديمقراطية التي تقوم على "تمثيلية" لا يكون لها ضمانات تحمي استمرارها، وتحفظ بقاءها، وتساعد على تجذّرها، بل تكون في مهبّ الريح، مرهونة لأهواء من يملكون القوة والنفوذ، فإن رضوا عنها تركوها تستمر، وإلا قضوا عليها من دون أن يقاومهم أحد، ما يعني أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون حقيقية إن لم تكن متجذّرة في ثقافة المجتمع، ومنعكسة بالتالي في ثقافة السلطة. أليست هذه نفسها خلاصة ثورات العرب من ربيعهم المفترض؟ فإلى متى سنظل نعبر التجارب التاريخية من دون أن نتعلم منها؟
شهد العالم العربي تجربتين انقلابيتين، تستحقان الاعتبار بهما في هذا الشأن: في العام 1989 حين عطّلت "ثورة الإنقاذ" تمثيلية الديمقراطية "دفاعاً عن السودان" (!)، وفي العام 2008 حين عطلت عودة الجيش تمثيلية الديمقراطية "دفاعاً عن موريتانيا" (!). في الحالتين، كانت الديمقراطية التي يقدمها الانقلاب العسكري على الاستبداد مؤقتة، مع أنها محروسة بالنيات الطيبة للانقلابيين، ذلك أن هؤلاء الانقلابيين طيبو القلوب، يسلّمون السلطة طائعين، ويعودون إلى بيوتهم، تاركين المجال لانقلابيين آخرين كي يفعلوا ما يشاؤون.
ثم جاءت ثورات الربيع العربي لتعطينا الدرس نفسه، بشكل أكثر عمقاً وألماً ودموية: لا ضمانة للديمقراطية، أيها الناس، ما لم تنبع من داخل ثقافة المجتمع، ومن تطوره الطبيعي. لهذا، فإن أية ديمقراطية مستحدثة في العالم العربي، بالانقلاب أو بالثورة، تظل في مهب الريح، ما لم تتزامن مع برنامج تربوي وتعليمي، وتشريعات غليظة، تنقل الديمقراطية من النظرية إلى الممارسة، حتى تصير جزءاً من حياة الناس، في البيت والشارع والسوق، فيحملوها معهم إلى السلطة، ولا يرضون إلا بحكم ديمقراطي يتبدّل دورياً.
على أية حال، لا يمكن أن تكون الديمقراطية مطلوبة لذاتها، وخصوصا في البلدان العربية الفاشلة تنموياً، بل من أجل النهوض والتقدّم والتنمية. أليس غريباً أن يحصل الصراع بين الديمقراطية والانقلابية، في بلدانٍ عربية تعاني مشكلاتٍ جذرية في التنمية؟ علام يتصارع الناس هناك، ما داموا جميعاً؛ ديمقراطيين أو انقلابيين، لا يتصدّون، حين يبلغون السلطة، لمهام تنموية ملحة، تمس حياة الناس اليومية، وصحتهم، والبيئة التي يعيشون فيها، فضلاً عن أن تمس رفاههم؟ ما جدوى كل هذا الصراع على السلطة في بلدان تفتقر إلى الشوارع، والأرصفة، والنظام العام؟
يبدو كل شيء بمثابة تمثيلية فعلاً: الانتخاب، الديمقراطية، الانقلاب، الثورة. ليس ثمة معنى لكل هذه المفردات، ما بقي الإنسان خارج الحضور التاريخي، متأخراً عن العصر، مفتقراً في حياته اليومية إلى منجزات التنمية الضرورية؛ إذ كيف يمكن استخدام مفرداتٍ سياسية معاصرة، لمجتمعاتٍ تغيب عنها منجزات العصر؟