28 مايو 2017
حدود الدولة وحدود العائلة
الثابت في جميع حالات "هروب" النساء السعوديات إلى خارج البلاد، أنه لا يمكن الجزم مِمّ يهربن: من العائلة؟ أم من الدولة؟ يظهر هذا بوضوح في خطابهنّ خلال الهروب وبعده، أغلبهنّ يتحدثنّ عن مشكلاتهنّ العائلية، بعضهنّ يتحدثن عن أزماتٍ مع المجتمع ونمطه، وبعضهن يتحدثنَ عن مشكلاتٍ ومخاوف قانونية صرفة، تتعلق بحرية الحركة والعمل والتعبير وحرية المعتقد. وإذا كان من المفهوم والمألوف عربياً الاتجاه نحو الهجرة وطلب اللجوء في دولة أجنبية، لأسباب تتعلق بالرأي السياسي أو حرية المعتقد (وهي موضوعاتٍ تشتبك مباشرة مع سلطة الحكومة)، فإن توجّه امرأة سعودية إلى الهجرة وطلب اللجوء، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تُنهي مُشكلاتها الخاصة مع عائلتها، هي مما يمكن أن يُعتبر "خصوصية سعودية"، حيث لا يمكن، في هذه الحالة، تمييز المشكلة العائلية الخالصة، من المشكلة العائلية التي يصنعها القانون الذي ينحاز مقدّماً، وبلا مرونة، إلى ترتيب وشكلٍ معيّنين للعائلة، من خلال بناء جميع القوانين التي تتعلق بالمرأة على أساس مبدأ الولاية. هناك مشكلاتٌ عائليةٌ في كل مكانٍ من العالم، ويمكن حسم مشكلات كثيرة حسماً ناعماً بلا حاجة إلى تدخل القانون ولا إلى قوة السلطة، عن طريق خروج المرأة إلى مسكنٍ مستقل، أو اختيارها السكن مع أقارب آخرين أو الزواج، فحيث لا وجود لفكرة الوليّ، لا يمكن إلزام المرأة بالسكن والمعيشة بصحبة شخصٍ محّدد، أو استخدام القانون لمنعها من الاستقلال بحياتها وقرارها، ويُترك الأمر رهناً بمشيئة المرأة والعائلة وتوجهات المجتمع.
في السعودية، لا يمكن لبعض النساء الخلاص من مشكلاتهنّ العائلية إلا بمغادرة الدولة، لأن
المشكلة الجذرية توجد في مبدأ الولاية على المرأة الـمُضمّن في القوانين كافة، أما المشكلة الثانوية فهي الموجودة في الحيّز العائلي. والمشكلة الجذرية لا يمكن حلها إلا حلاً جذرياً يتمثل في مغادرة البلاد التي تتداخل فيها حدود العائلة وحدود الدولة. تلتزم التقارير الرسمية المقدمة إلى اللجان الدولية بالدفاع عن نظام الولاية، بوصفهِ تمييزاً إيجابياً لحماية "عديمي أو ناقصي الأهلية". وعندما تحاول مواطنةٌ الفرار من عائلتها، عبر الخروج من البلاد، تتدخل الجهات الرسمية للمساعدة في إعادتها، بآلياتٍ غامضة، ربما تختلط فيها "الفزعة" الشخصية من رجلٍ إلى رجل، بالمخاوف السياسية على سُمعة البلاد، لكنها، في الوقت نفسه، تصف الحادثة بالشأن العائلي الذي لا يحقّ لأحدٍ التدخل فيه، لكن هذا الشأن العائلي يجد طريقهُ دائماً، ولأسبابٍ لا تحتاج إلى مزيد من الشرح، إلى صفحة الشؤون الدولية.
تثير قصص "هروب النساء" اهتماماً وضجيجاً دولياً لأسبابٍ كثيرة، منها أن هذا النوع من القصص قابل لإسقاطاتٍ إعلامية وتوظيفاتٍ سياسية، أكثرها من النوع الخياليّ الفج. لكن، من منظور شخصي، قد تكون قصص اللائي يعشنَ في ظروف سيئة، ولم يغادرنَ البلاد، وظللنَ يحاولنَ العثور على الحلّ ضمن منظومة القوانين المحلية؛ أكثر أهمية بكثير من قصص من قرّرنَ الاستقرار خارج البلاد، وتضاءلت علاقتهنّ بالوضع داخلها، أو تعاظمت مصلحتهنّ في
سرد قصصهنّ الشخصية، بطريقةٍ تؤهّلهنّ للحصول على اللجوء السياسي. إحدى ناشطات حملة إسقاط الولاية امرأةٌ تصارع مشكلاتها العائلية منذ سنوات، وهي تكتب بانتظام حول تطورات وضعها على "تويتر"، ملتزمة خطاباً هادئاً سياسياً ومعتدلاً اجتماعياً، وكانت تعبّر يومياً عن أملها العميق في تغيير أنظمة الولاية، لتتمكّن من مواصلة حياتها داخل البلاد بشكلٍ مُستقلّ وآمن، والمفارقة أن هذه المرأة توجد، في لحظة كتابة هذا المقال، في دار الرعاية (حيث تُحتجز النساء في سنّ دون الثلاثين)، كما الحال مع المرأة الأخرى التي حاولت اللجوء إلى أستراليا، واستعيدت من الفيليبين.
ينجرف نقاش هذه القصص بشكلٍ مستمر نحو نقاش التفاصيل العائلية الدقيقة لكلّ حالة، منحرفاً عن جوهر الموقف، وهو أن الحيّز العائلي ملتبس ومُتغيّر بطبيعته، خاصّ بطبيعته، ويزداد التباساً وتوتراً وغموضاً إذا ما تحوّل إلى مشهد عامٍ، ودخل إليه متفرّجون أغراب، يحاولون إصدار حكمٍ نهائيّ، وينساق الخطاب النسوي إلى التركيز على إثبات حالات التعنيف والإيذاء، برهاناً على التضرّر من قوانين الولاية، ومن ثمّ يصبح الشكّ في بعض التفاصيل، أو الإشارة إلى غموضها وغياب الأدلة الكافية، عملاً يوازي دحض القضية وتفنيدها كلها. والحالُ أن نقاش قضية الولاية على المرأة لا يحتاج إلى التركيز على المشكلة الثانوية، المتمثلة في الأوضاع الشخصية لكل امرأةٍ أو دقة (وصدقية) التفاصيل التي تسردها، ولا على الأمزجة المتغيرة وحيّز العلاقات العائلية الغامض والمعقّد الذي لا يمكن الانحياز مقدماً، ولا مطلقاً، لأيّ طرفٍ فيه، بل إلى التركيز على نقاش الحيّز القانوني، وفيه المشكلة الرئيسة.
@Emanmag
في السعودية، لا يمكن لبعض النساء الخلاص من مشكلاتهنّ العائلية إلا بمغادرة الدولة، لأن
تثير قصص "هروب النساء" اهتماماً وضجيجاً دولياً لأسبابٍ كثيرة، منها أن هذا النوع من القصص قابل لإسقاطاتٍ إعلامية وتوظيفاتٍ سياسية، أكثرها من النوع الخياليّ الفج. لكن، من منظور شخصي، قد تكون قصص اللائي يعشنَ في ظروف سيئة، ولم يغادرنَ البلاد، وظللنَ يحاولنَ العثور على الحلّ ضمن منظومة القوانين المحلية؛ أكثر أهمية بكثير من قصص من قرّرنَ الاستقرار خارج البلاد، وتضاءلت علاقتهنّ بالوضع داخلها، أو تعاظمت مصلحتهنّ في
ينجرف نقاش هذه القصص بشكلٍ مستمر نحو نقاش التفاصيل العائلية الدقيقة لكلّ حالة، منحرفاً عن جوهر الموقف، وهو أن الحيّز العائلي ملتبس ومُتغيّر بطبيعته، خاصّ بطبيعته، ويزداد التباساً وتوتراً وغموضاً إذا ما تحوّل إلى مشهد عامٍ، ودخل إليه متفرّجون أغراب، يحاولون إصدار حكمٍ نهائيّ، وينساق الخطاب النسوي إلى التركيز على إثبات حالات التعنيف والإيذاء، برهاناً على التضرّر من قوانين الولاية، ومن ثمّ يصبح الشكّ في بعض التفاصيل، أو الإشارة إلى غموضها وغياب الأدلة الكافية، عملاً يوازي دحض القضية وتفنيدها كلها. والحالُ أن نقاش قضية الولاية على المرأة لا يحتاج إلى التركيز على المشكلة الثانوية، المتمثلة في الأوضاع الشخصية لكل امرأةٍ أو دقة (وصدقية) التفاصيل التي تسردها، ولا على الأمزجة المتغيرة وحيّز العلاقات العائلية الغامض والمعقّد الذي لا يمكن الانحياز مقدماً، ولا مطلقاً، لأيّ طرفٍ فيه، بل إلى التركيز على نقاش الحيّز القانوني، وفيه المشكلة الرئيسة.
@Emanmag