05 نوفمبر 2024
الأردن ومعادلة الجنوب السوري
لعل السؤال الذي ينبغي طرحه، قبل الخوض في غمار الموقف الأردني الراهن من التطورات السورية المتسارعة ميدانياً وسياسياً، هو هل غيّر هذا البلد الطاعن في الحرص والقلق، الحذر والتكتم، استراتيجيته المعتمدة منذ نحو ست سنوات، أو أنه في طور تغيير هذه الاستراتيجية القائمة على الترقب والانتظار، مع ترك كل الأبواب مفتوحةً، وكل الخيوط موصولة، ليس فقط مع اللاعبين على المسرح الدامي في الديار الشامية، وإنما كذلك مع قوى محلية معارضة كثيرة، وفي القلب منها الفصائل العسكرية المعتدلة.
وقد يحتاج الأمر إلى سؤال استهلالي آخر، قبل الغوص في بحر هذه المسألة، وهو إذا كان هناك تغيّر قيد التشكل في هذه الآونة، فما هي دواعيه لدى بلدٍ مجاور لمركز الزلازل السورية، ظل يتبع سياسة النأي بالنفس، ويتجنّب السير على الدروب الزلقة، ويحسب لكل صغيرة وكبيرة الحساب المناسب، يزن الأمور بدقة، ويأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات والتداعيات والمضاعفات المحتملة لكل موقف أو خطوة من شأنها أن تضع البلد الوحيد الآمن في المشرق في عين العاصفة.
في ظل سياسة التحوّط والتكتم هذه، تصبح مهمة المراقب بالغة الصعوبة، وهو يستقصي السيناريوهات، ويستجمع الدلائل والمؤشرات، وينقّب بين السطور والكلمات، لتشخيص موقفٍ رسميٍّ ذي بعدٍ عسكري، قلما يتم الإفصاح عنه، أو وضعه موضع النقاش العلني، الأمر الذي يحول دون التوصل إلى استخلاصاتٍ يقينية، ويمنع من الإمساك بمكوّنات صلبة، تساعد صاحبها على إجراء تقديرٍ صحيح للموقف، وبناء وجهة نظر مدعّمة بالحيثيات والمعطيات اللازمة لتشكيل رأي موضوعي، بعيداً عن الأفكار الرغائبية.
وهكذا، فإن ما بين أيدينا قلة قليلة من المؤشرات والإيماءات والمواقف والتصريحات، التي تؤسس في مجموعها لرؤيةٍ تحتمل الخطأ والصواب، إزاء العنوان أعلاه "الأردن ومعادلة الجنوب السوري"، وهي معادلة أحسب أنها تغيّرت في الأسابيع القليلة الماضية، عما كانت عليه، وأن هذا التغيّر الذي لم يكتمل تماماً، كانت قد أملته جملة من الأحداث والتحولات والتحديات التي راحت تخاطب الأردن على وجه الخصوص في الآونة الأخيرة، وفق ما سوف يلي من حقائق، ليست عابرة أو قليلة الأهمية.
في باب دواعي التغيير وأسبابه، يمكن العثور على جملةٍ من العوامل التي فرضت نفسها على الأردن، وأملت عليه إعادة حساباته، لعل في أولها ذلك الشريط المصوّر الذي هدّدت فيه "داعش" الدولة والمجتمع الأردني بصورة مباشرة، وأنذرت بنقل المعركة إلى الداخل الذي عانى، في العام الماضي، من عدة هجمات إرهابية. كما تكوّن تقدير موقف سياسي عسكري مفاده بأنه كلما اشتدّت الضغوط على تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل والرقة، فإنه سيتوجه جنوباً إلى البادية السورية، وسيقترب أكثر فأكثر من الحدود الأردنية الشرقية الشمالية.
ولا تتوقف الأخطار المحدقة بالأردن عند حدود "داعش"، بل تتعدّاها إلى خطرين آخرين متلازمين، أولهما أن النظام السوري قد دخل في مرحلة التفتت إلى مليشيات بسلاح جو متهالك، ما يعني أن الواجهة الشمالية للأردن باتت مقبلةً على تطورات ميدانية أشد خطورة من قبل، وثانيهما أن المليشيات الإيرانية، بما في ذلك حزب الله وغيره من مكوّنات الحشد الشيعي الطائفي، اقتربت من الحدود الأردنية أكثر من ذي قبل، وهو أمر سبق للعاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني، أن أعرب للروس، وفلاديمير بوتين، بأن ذلك خط أحمر لا يتسامح معه.
وقد يكون من أهم العوامل التي حدت بالأردن على تغيير استراتيجيته السابقة، ذلك التبدّل الذي حدث في البيت الأبيض، وانقضى معه عهد الرخاوة الأميركية، التي حملت الأردن، وغيره من البلدان العربية، على التقرّب من موسكو، الذاهبة في تأييدها نظام الأسد إلى الحدود القصوى، الأمر الذي حمل حلفاء أميركا التقليديين في المنطقة على نقل الرهان من كتفٍ إلى كتف، وإجراء ما يمكن إجراؤه من مواءماتٍ سياسية، انتزعها، في واقع الأمر، تحول موسكو، في ظل غياب واشنطن الكامل، إلى اللاعب الدولي الوحيد في الكارثة السورية.
وشيء آخر استدعى هذا التحول، تجلى في الحملة الإيرانية المسفّة إزاء الأردن، وما تلاها من ملاسناتٍ تعاقب عليه حزب الله وبشار الأسد ضد البلد الذي تنفّس الصعداء بعد وصول إدارة أميركية بدت حازمة، ومصممة على مجابهة إيران، لا سيما بعد زيارة الملك عبدالله الثاني واشنطن واجتماعه مع الرئيس دونالد ترامب وأركان إدارته التي أطلعت الملك على حيثيات الاستراتيجية الأميركية الجاري وضعها إزاء سورية والمنطقة، بما في ذلك إيران تحديداً.
من واشنطن، قال الملك عبدالله، في مقابلة له مع صحيفة واشنطن بوست، إن على من يقتل شعبه أن يخرج من المشهد. كما أعلن الأردن، عقب ذلك، عن تأييده الكامل الغارة الأميركية على مطار الشعيرات، ورد بعد ذلك على تصريحات الأسد الخاصة بالأردن، ووصفها بأنها منفصلة عن الواقع، وإن على من يقتل شعبه عدم الحديث عن مسائل السيادة المستباحة لديه بقوة. وأخيراً، قال الملك، بصراحة تامة، إن إيران من تسببت بالصراع والفتنة الطائفية في المنطقة.
على خلفية ذلك كله، من الواقعي الافتراض بثقة من درجة عالية، أن الأردن قد غيّر استراتيجيته القديمة، وإنه زاد من استعداداته العسكرية للدفاع عن حدوده وأمنه وترابه الوطني، وإن هذ البلد الذي كان أول من حذّر العرب من مخاطر الهلال الشيعي، بصدد بناء دورٍ له يتعدّى نطاق مسألة محاربة الإرهاب، من خلال التحالف الدولي، إلى سيناريو المناطق الآمنة التي تحدّث عنها دونالد ترامب مبكراً، لا سيما في المنطقة الجنوبية التي من غير المقدّر لها أن تنشأ بدون دور أردني فاعل، قد يمتد من درعا إلى منطقة التنف على الحدود السورية العراقية.
وهناك ما يشبه الاتفاق على أن قيام منطقة آمنة بالتوافق مع روسيا قد انتهى إلى غير رجعة، بعد زيادة وزن الحضور الأميركي في الشمال السوري، وفي ظلال ما يتسرّب عن الاستراتيجية الأميركية قيد الإعداد والتشكيل في هذه المرحلة، وإنه إذا ما عزمت أميركا أمرها، بالتعاون مع بريطانيا، وبعض الدول العربية الخليجية، فإن من المحتمل أن يطرأ تحول كبير في إطار "معادلة الأردن والجنوب السوري"، هذه المعادلة التي قد يكون موعدها صيف هذه السنة، إذا لم تحدث تطوراتٌ معاكسة وغير محسوبة.
وقد يحتاج الأمر إلى سؤال استهلالي آخر، قبل الغوص في بحر هذه المسألة، وهو إذا كان هناك تغيّر قيد التشكل في هذه الآونة، فما هي دواعيه لدى بلدٍ مجاور لمركز الزلازل السورية، ظل يتبع سياسة النأي بالنفس، ويتجنّب السير على الدروب الزلقة، ويحسب لكل صغيرة وكبيرة الحساب المناسب، يزن الأمور بدقة، ويأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات والتداعيات والمضاعفات المحتملة لكل موقف أو خطوة من شأنها أن تضع البلد الوحيد الآمن في المشرق في عين العاصفة.
في ظل سياسة التحوّط والتكتم هذه، تصبح مهمة المراقب بالغة الصعوبة، وهو يستقصي السيناريوهات، ويستجمع الدلائل والمؤشرات، وينقّب بين السطور والكلمات، لتشخيص موقفٍ رسميٍّ ذي بعدٍ عسكري، قلما يتم الإفصاح عنه، أو وضعه موضع النقاش العلني، الأمر الذي يحول دون التوصل إلى استخلاصاتٍ يقينية، ويمنع من الإمساك بمكوّنات صلبة، تساعد صاحبها على إجراء تقديرٍ صحيح للموقف، وبناء وجهة نظر مدعّمة بالحيثيات والمعطيات اللازمة لتشكيل رأي موضوعي، بعيداً عن الأفكار الرغائبية.
وهكذا، فإن ما بين أيدينا قلة قليلة من المؤشرات والإيماءات والمواقف والتصريحات، التي تؤسس في مجموعها لرؤيةٍ تحتمل الخطأ والصواب، إزاء العنوان أعلاه "الأردن ومعادلة الجنوب السوري"، وهي معادلة أحسب أنها تغيّرت في الأسابيع القليلة الماضية، عما كانت عليه، وأن هذا التغيّر الذي لم يكتمل تماماً، كانت قد أملته جملة من الأحداث والتحولات والتحديات التي راحت تخاطب الأردن على وجه الخصوص في الآونة الأخيرة، وفق ما سوف يلي من حقائق، ليست عابرة أو قليلة الأهمية.
في باب دواعي التغيير وأسبابه، يمكن العثور على جملةٍ من العوامل التي فرضت نفسها على الأردن، وأملت عليه إعادة حساباته، لعل في أولها ذلك الشريط المصوّر الذي هدّدت فيه "داعش" الدولة والمجتمع الأردني بصورة مباشرة، وأنذرت بنقل المعركة إلى الداخل الذي عانى، في العام الماضي، من عدة هجمات إرهابية. كما تكوّن تقدير موقف سياسي عسكري مفاده بأنه كلما اشتدّت الضغوط على تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل والرقة، فإنه سيتوجه جنوباً إلى البادية السورية، وسيقترب أكثر فأكثر من الحدود الأردنية الشرقية الشمالية.
ولا تتوقف الأخطار المحدقة بالأردن عند حدود "داعش"، بل تتعدّاها إلى خطرين آخرين متلازمين، أولهما أن النظام السوري قد دخل في مرحلة التفتت إلى مليشيات بسلاح جو متهالك، ما يعني أن الواجهة الشمالية للأردن باتت مقبلةً على تطورات ميدانية أشد خطورة من قبل، وثانيهما أن المليشيات الإيرانية، بما في ذلك حزب الله وغيره من مكوّنات الحشد الشيعي الطائفي، اقتربت من الحدود الأردنية أكثر من ذي قبل، وهو أمر سبق للعاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني، أن أعرب للروس، وفلاديمير بوتين، بأن ذلك خط أحمر لا يتسامح معه.
وقد يكون من أهم العوامل التي حدت بالأردن على تغيير استراتيجيته السابقة، ذلك التبدّل الذي حدث في البيت الأبيض، وانقضى معه عهد الرخاوة الأميركية، التي حملت الأردن، وغيره من البلدان العربية، على التقرّب من موسكو، الذاهبة في تأييدها نظام الأسد إلى الحدود القصوى، الأمر الذي حمل حلفاء أميركا التقليديين في المنطقة على نقل الرهان من كتفٍ إلى كتف، وإجراء ما يمكن إجراؤه من مواءماتٍ سياسية، انتزعها، في واقع الأمر، تحول موسكو، في ظل غياب واشنطن الكامل، إلى اللاعب الدولي الوحيد في الكارثة السورية.
وشيء آخر استدعى هذا التحول، تجلى في الحملة الإيرانية المسفّة إزاء الأردن، وما تلاها من ملاسناتٍ تعاقب عليه حزب الله وبشار الأسد ضد البلد الذي تنفّس الصعداء بعد وصول إدارة أميركية بدت حازمة، ومصممة على مجابهة إيران، لا سيما بعد زيارة الملك عبدالله الثاني واشنطن واجتماعه مع الرئيس دونالد ترامب وأركان إدارته التي أطلعت الملك على حيثيات الاستراتيجية الأميركية الجاري وضعها إزاء سورية والمنطقة، بما في ذلك إيران تحديداً.
من واشنطن، قال الملك عبدالله، في مقابلة له مع صحيفة واشنطن بوست، إن على من يقتل شعبه أن يخرج من المشهد. كما أعلن الأردن، عقب ذلك، عن تأييده الكامل الغارة الأميركية على مطار الشعيرات، ورد بعد ذلك على تصريحات الأسد الخاصة بالأردن، ووصفها بأنها منفصلة عن الواقع، وإن على من يقتل شعبه عدم الحديث عن مسائل السيادة المستباحة لديه بقوة. وأخيراً، قال الملك، بصراحة تامة، إن إيران من تسببت بالصراع والفتنة الطائفية في المنطقة.
على خلفية ذلك كله، من الواقعي الافتراض بثقة من درجة عالية، أن الأردن قد غيّر استراتيجيته القديمة، وإنه زاد من استعداداته العسكرية للدفاع عن حدوده وأمنه وترابه الوطني، وإن هذ البلد الذي كان أول من حذّر العرب من مخاطر الهلال الشيعي، بصدد بناء دورٍ له يتعدّى نطاق مسألة محاربة الإرهاب، من خلال التحالف الدولي، إلى سيناريو المناطق الآمنة التي تحدّث عنها دونالد ترامب مبكراً، لا سيما في المنطقة الجنوبية التي من غير المقدّر لها أن تنشأ بدون دور أردني فاعل، قد يمتد من درعا إلى منطقة التنف على الحدود السورية العراقية.
وهناك ما يشبه الاتفاق على أن قيام منطقة آمنة بالتوافق مع روسيا قد انتهى إلى غير رجعة، بعد زيادة وزن الحضور الأميركي في الشمال السوري، وفي ظلال ما يتسرّب عن الاستراتيجية الأميركية قيد الإعداد والتشكيل في هذه المرحلة، وإنه إذا ما عزمت أميركا أمرها، بالتعاون مع بريطانيا، وبعض الدول العربية الخليجية، فإن من المحتمل أن يطرأ تحول كبير في إطار "معادلة الأردن والجنوب السوري"، هذه المعادلة التي قد يكون موعدها صيف هذه السنة، إذا لم تحدث تطوراتٌ معاكسة وغير محسوبة.
دلالات
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024