حاجة ليبيا إلى مبادرة دولية
مهى سمارة
كاتبة وصحافية لبنانية، ماجستير في العلوم السياسية، زاولت التعليم الجامعي للصحافة والإعلام، لها كتابان، حازت جائزة Nieman للصحافة في 1987
تبرز قناعة دولية وإقليمية بضرورة إصدار مجلس الأمن مبادرة دولية تضع حداً للفوضى المسلحة في ليبيا، بعد تعذر الحل العسكري وفشل المبادرات الداخلية والإقليمية.
إلى تاريخه، فشلت جميع محاولات التهدئة. وفشل اتفاق الصخيرات الذي رعته الأمم المتحدة والغرب. وفشلت حكومة الوفاق التي انبثقت منه، وتعثرت انطلاقتها، وتحولت بطة عرجاء "موجودة غير مسيطرة"، وتفتقر إلى القوة الموجودة بيد الجماعات المسلحة وأمراء الحرب المسيطرين والغرب.
بعد سبع سنوات من الفلتان الأمني الذي لم يوفر مدينة وإقليما وجهة، لم تتمكن الأطراف المتنازعة من التفاهم أو الاتفاق، وربما لن تتوصل بسبب التدخلات الخارجية، الأجنبية والعربية والأفريقية التي استغلت الصراعات القبلية والجهوية، وعقدت ارتباطات مالية وسياسية مع الجماعات المسلحة.
مشكلة ليبيا معقدة ومتشابكة ومزمنة. لا أوهام في سهولة حلها في ظل التخلي الدولي، وعدم وجود توافق إقليمي ودولي يبدو مستبعداً حاليا، في انتظار معرفة سياسة الإدارة الأميركية الجديدة بشأن ليبيا. اهتمام أميركا محصور بمحاربة الإرهاب، ومنع "داعش" من إقامة وجود لها في سرت وغيرها، تكون بديلاً عن الرقة والموصل، بعد هرب تكفيريين وإرهابيين عديدين من سورية والعراق.
تخلت الدول الكبرى عن ليبيا بعد سقوط نظام القذافي. تركت الساحة لليبيين، لتدبير أمورهم، من دون أي اكتراث بما يمكن أن يحدث في اليوم التالي. تركت دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي قادت حرب إسقاط النظام وراءها ترسانة من السلاح والعتاد الثقيل، ليقاتل الليبيون بعضهم بعضاً. طبيعي أن تتصرف الدول من وحي مصالحها، وتتعامل مع ما يناسبها عملاً بوصفة "الأخذ بالكلفة القليلة".
تتطلع إيطاليا أكثر الدول معرفة بالشأن الليبي نظراً للقرب الجغرافي والماضي الاستعماري إلى تأمين حاجتها من الغاز، والحد من تدفق المهاجرين الأفارقة والسوريين إلى شواطئها. كانت فرنسا في عهد الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، تبدي اهتماماً أكثر من الرئيس فرانسوا هولاند الذي يركز اهتمامه على الجنوب منصةً لحماية الأنظمة الصديقة في تشاد والنيجر وسلامة قواته المرابطة هناك. وبريطانيا التي كانت تنعم بالقواعد أيام الملكية يهمها منافسة فرنسا، وعقد صفقات سلاح واستثمارات نفط وغاز. وروسيا التي استبعدت من معركة تحرير ليبيا من نظام القذافي تحاول الثأر من قرارات الأمم المتحدة، وتتجاوب لطلبات من نصبه حلفاؤه قائد الجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر، الذي دعته مرتين لزيارة موسكو ووعدته بتقديم السلاح والمساعدات العسكرية. ويتردد أن للروس وجودا عسكريا وتجاريا في بنغازي، حيث تعمل فرق روسية على نزع الألغام، ما يثير قلق واشنطن.
بعد سقوط القذافي، لم تحظ ليبيا بالاهتمام الإعلامي والسياسي الذي تحظى به سورية والعراق واليمن. يوجد تعتيم لما يجري فيها، علماً أن الأوضاع المعيشية والإنسانية والأمنية مأساوية. إذ يعيش المدنيون الأبرياء في خوف وقهر دائمين من الجماعات المسلحة وأمراء الحرب الذين يفرضون خوّات على المتاجر والمنازل وسلامة الأشخاص. هذا عدا عن انقطاع التيار الكهربائي، وسرقة المولدات وبيعها في بلد نفطي، والعودة إلى استعمال الحطب، إضافةً إلى تدني أسعار الدينار والارتفاع الجنوني للأسعار، وخصوصا المواد الغذائية المدعومة من الدولة، والتي تهرّب إلى الدول المجاورة.
باستثناء التركيز على موضوع المهاجرين إلى أوروبا واستغلال شبكات المافيا للاتجار بالبشر ومآسي ركاب الزوارق غير المجهزة للإبحار، والتي تعتبر جريمة إنسانية وأخلاقية بامتياز، خصوصاً وأن عدد المفقودين تجاوز ثلاثة آلاف ضحية.
تحولت ليبيا بعد ثورة 17 فبراير/ شباط 2011 إلى مرتع للخارجين عن القانون القادمين من نيجيريا والصومال وتشاد وسورية والعراق، ومسرحاً للمجرمين والمهرّبين الدوليين. ليبيا هي الآن بوابة العبور للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وقبلة ملايين الشباب الأفارقة الذين يبحثون عن عمل ومستقبل لهم ولأولادهم في دول الاتحاد الأوروبي.
بما أن الهجرة غير الشرعية تخضع إلى ابتزاز السماسرة ومافيات التهريب، يضطر عديدون من طالبي اللجوء للبقاء أشهرا في ليبيا في أوضاع اجتماعية وحياتية مزرية، الأمر الذي استدعى تدخل الأمم المتحدة ومبعوث الأمين العام في ليبيا، للطلب من الحكومة الليبية والجماعات المسلحة معاملة هؤلاء اللاجئين برأفة ورحمة، وليس كسجناء. وفعلاً، وقّعت الأسبوع الماضي اتفاقية مع الحكومة الإيطالية، بشأن طالبي الهجرة، لتحسين أوضاعهم المعيشية والإنسانية، ريثما تتبلور قراراتهم، أما الاستمرار في مغامرة السفر والهجرة أو ترتيب عودتهم إلى دولهم من دون إكراه.
معروف أن ليبيا تفتقر إلى الحياة السياسية الطبيعية الموجودة في بلدان أخرى. تركيبة المجتمع القبلية والجهوية والاختلافات بين النواحي والأقاليم في السكان والموارد ساعدت على التشرذم. كما أن حكم القذافي الاستبدادي أكثر من 43 عاماً عطل الحياة السياسية، وحرم المواطنين من ممارسة أية تجربة حزبية وبرلمانية ونقابية حقيقية، غير بهلوانية اللجان الشعبية واستعراضات الحكم الهزلية. وقد شجع هذا الواقع الأليم من الكبت والحرمان المواطن على اقتناء السلاح بعد أن فتحت وسرقت مخازن القذافي وترسانات حلف شمال الأطلسي. وأصبح الإخوان المسلمون الذين كانوا في السجون أيام القذافي الأكثر تنظيماً والأكثر حضوراً في العاصمة طرابلس والغرب. ووجدت القبائل المعارضة للقذافي فرصتها للأخذ بالثأر باقتنائها السلاح الذي أصبح زينة الرجال وصاحب الكلمة الأخيرة في غياب الدولة التي لم تكن يوماً دولة بالمعنى المتعارف عليه.
كان المستفيد الأول من الفوضى العارمة هم أمراء الحرب والجماعات المسلحة، فليس من مصلحتها تغيير الأوضاع القائمة، فذلك سيكون على حسابها والقضاء على نفوذها ومنافعها المادية، إلا أن استفحال الفلتان واستحالة ضبط الحدود السائبة والبوابات المشرعة جعلت جيران ليبيا، مثل مصر وتونس والجزائر وأوروبا، تشعر بخطر أن تنتقل الفوضى والإرهاب إلى أراضيها. وقد اعتبرت الأجهزة الأمنية المصرية كثيرا من النشاط الإرهابي في سيناء وشوارع القاهرة قادما من ليبيا. واتهمت تونس العمليات الإرهابية التي استهدفت متحف باردو في العاصمة تونس وشاطئ سوسة قادمة من ليبيا. وتتخوف الجزائر من تسرّب الإرهاب مجدداً على حدودها، وقد أبدت استعداداً لمساندة الجيش الوطني الليبي.
وبسبب العلاقة التاريخية والعميقة بين مصر وشرق ليبيا التي تعتبرها القاهرة حديقتها الخلفية ورغبة الرئيس عبد الفتاح السيسي باسترجاع دور مصر العربي، أطلقت القاهرة مبادرة لجمع رئيس حكومة الوفاق فائز السراج مع خليفة خفتر، وتشكلت لجنة مصرية عليا برئاسة رئيس أركان الجيش المصري الفريق محمود حجازي لترتيب لقاء مباشر بدون وسيط. وجوهر
المبادرة التي لاقت ترحيبا عربياً من تونس والجزائر والإمارات وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي هو دمج الجيش الوطني الليبي في حكومة الوفاق وتعديل المادة الثامنة من اتفاق الصخيرات لقيام مجلس عسكري بقيادة حفتر وحده بصلاحياتٍ واسعةٍ، لتعيين المناصب العسكرية والأمنية العليا بضمانات من السراج.
وعلى الرغم من عدم عقد اللقاء المباشر بين الرجلين، إلا أن التواصل لا يزال جارياً بسرية، بمساعدة وسطاء ليبيين ومصريين. وفسر مصدر ليبي اعتكاف حفتر بأنه رسالة إلى المصريين أكثر منه إلى السراج، حفاظاً على استقلالية الموقف الليبي، واحتراماً للحساسية الجزائرية. إلا أن الجماعات المسلحة في طرابلس ومصراتة تخوفت من التقارب بين طرابلس وبنغازي، وتحسبت لإمكانية نجاح مشروع الاتفاق السياسي، فحاولت تعطيله، بشن هجوم على الهلال النفطي، واحتلت أياما معدودة ميناءي رأس لانوف وسدرة، لضرب مصداقية "الجيش الوطني الليبي"، وإشغاله بمعارك جانبية، وبالتالي تعطيل دوره باعتباره حجر الزاوية لأي مشروع توافقي، ينهي حالة الفوضى، ويعيد قيام الدولة المركزية الموحدة.
وفشلت مسرحية البنيان المنصوص التي قامت بها سرايا الدفاع عن بنغازي المؤلفة من مليشيات طرابلس ومصراتة، إذ استطاعت القوات التي تتبع حفتر احتواءها، واستعادت سيطرتها على رأس لانوف وسورة، وسلمتها إلى المؤسسة الوطنية للنفط التي أعادت الإنتاج والتصدير إلى معدل 700 ألف برميل في اليوم. والقطبة المخفية في هذه العملية أن حقول (وطرق) الإمداد التي تؤمن النفط للمنشآت والمرافئ، كانت وما تزال تحت سيطرة حفتر.
وأهمية المبادرة المصرية أنها فتحت الباب أمام الحلول السياسية. وليبيا بتعقيداتها وأهميتها الاستراتيجية وعذابات شعبها تستحق مبادرة دولية تصدر عن مجلس الأمن، وتعيين ممثل جديد للأمين العام للأمم المتحدة. وبانتظار بلورة سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تجاه ليبيا، الأمر الذي قد يحتاج ستة شهور، ستبقى المبادرة معلقة والفوضى الحياتية والسياسية في ليبيا قائمة.
إلى تاريخه، فشلت جميع محاولات التهدئة. وفشل اتفاق الصخيرات الذي رعته الأمم المتحدة والغرب. وفشلت حكومة الوفاق التي انبثقت منه، وتعثرت انطلاقتها، وتحولت بطة عرجاء "موجودة غير مسيطرة"، وتفتقر إلى القوة الموجودة بيد الجماعات المسلحة وأمراء الحرب المسيطرين والغرب.
بعد سبع سنوات من الفلتان الأمني الذي لم يوفر مدينة وإقليما وجهة، لم تتمكن الأطراف المتنازعة من التفاهم أو الاتفاق، وربما لن تتوصل بسبب التدخلات الخارجية، الأجنبية والعربية والأفريقية التي استغلت الصراعات القبلية والجهوية، وعقدت ارتباطات مالية وسياسية مع الجماعات المسلحة.
مشكلة ليبيا معقدة ومتشابكة ومزمنة. لا أوهام في سهولة حلها في ظل التخلي الدولي، وعدم وجود توافق إقليمي ودولي يبدو مستبعداً حاليا، في انتظار معرفة سياسة الإدارة الأميركية الجديدة بشأن ليبيا. اهتمام أميركا محصور بمحاربة الإرهاب، ومنع "داعش" من إقامة وجود لها في سرت وغيرها، تكون بديلاً عن الرقة والموصل، بعد هرب تكفيريين وإرهابيين عديدين من سورية والعراق.
تخلت الدول الكبرى عن ليبيا بعد سقوط نظام القذافي. تركت الساحة لليبيين، لتدبير أمورهم، من دون أي اكتراث بما يمكن أن يحدث في اليوم التالي. تركت دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي قادت حرب إسقاط النظام وراءها ترسانة من السلاح والعتاد الثقيل، ليقاتل الليبيون بعضهم بعضاً. طبيعي أن تتصرف الدول من وحي مصالحها، وتتعامل مع ما يناسبها عملاً بوصفة "الأخذ بالكلفة القليلة".
تتطلع إيطاليا أكثر الدول معرفة بالشأن الليبي نظراً للقرب الجغرافي والماضي الاستعماري إلى تأمين حاجتها من الغاز، والحد من تدفق المهاجرين الأفارقة والسوريين إلى شواطئها. كانت فرنسا في عهد الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، تبدي اهتماماً أكثر من الرئيس فرانسوا هولاند الذي يركز اهتمامه على الجنوب منصةً لحماية الأنظمة الصديقة في تشاد والنيجر وسلامة قواته المرابطة هناك. وبريطانيا التي كانت تنعم بالقواعد أيام الملكية يهمها منافسة فرنسا، وعقد صفقات سلاح واستثمارات نفط وغاز. وروسيا التي استبعدت من معركة تحرير ليبيا من نظام القذافي تحاول الثأر من قرارات الأمم المتحدة، وتتجاوب لطلبات من نصبه حلفاؤه قائد الجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر، الذي دعته مرتين لزيارة موسكو ووعدته بتقديم السلاح والمساعدات العسكرية. ويتردد أن للروس وجودا عسكريا وتجاريا في بنغازي، حيث تعمل فرق روسية على نزع الألغام، ما يثير قلق واشنطن.
بعد سقوط القذافي، لم تحظ ليبيا بالاهتمام الإعلامي والسياسي الذي تحظى به سورية والعراق واليمن. يوجد تعتيم لما يجري فيها، علماً أن الأوضاع المعيشية والإنسانية والأمنية مأساوية. إذ يعيش المدنيون الأبرياء في خوف وقهر دائمين من الجماعات المسلحة وأمراء الحرب الذين يفرضون خوّات على المتاجر والمنازل وسلامة الأشخاص. هذا عدا عن انقطاع التيار الكهربائي، وسرقة المولدات وبيعها في بلد نفطي، والعودة إلى استعمال الحطب، إضافةً إلى تدني أسعار الدينار والارتفاع الجنوني للأسعار، وخصوصا المواد الغذائية المدعومة من الدولة، والتي تهرّب إلى الدول المجاورة.
باستثناء التركيز على موضوع المهاجرين إلى أوروبا واستغلال شبكات المافيا للاتجار بالبشر ومآسي ركاب الزوارق غير المجهزة للإبحار، والتي تعتبر جريمة إنسانية وأخلاقية بامتياز، خصوصاً وأن عدد المفقودين تجاوز ثلاثة آلاف ضحية.
تحولت ليبيا بعد ثورة 17 فبراير/ شباط 2011 إلى مرتع للخارجين عن القانون القادمين من نيجيريا والصومال وتشاد وسورية والعراق، ومسرحاً للمجرمين والمهرّبين الدوليين. ليبيا هي الآن بوابة العبور للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وقبلة ملايين الشباب الأفارقة الذين يبحثون عن عمل ومستقبل لهم ولأولادهم في دول الاتحاد الأوروبي.
بما أن الهجرة غير الشرعية تخضع إلى ابتزاز السماسرة ومافيات التهريب، يضطر عديدون من طالبي اللجوء للبقاء أشهرا في ليبيا في أوضاع اجتماعية وحياتية مزرية، الأمر الذي استدعى تدخل الأمم المتحدة ومبعوث الأمين العام في ليبيا، للطلب من الحكومة الليبية والجماعات المسلحة معاملة هؤلاء اللاجئين برأفة ورحمة، وليس كسجناء. وفعلاً، وقّعت الأسبوع الماضي اتفاقية مع الحكومة الإيطالية، بشأن طالبي الهجرة، لتحسين أوضاعهم المعيشية والإنسانية، ريثما تتبلور قراراتهم، أما الاستمرار في مغامرة السفر والهجرة أو ترتيب عودتهم إلى دولهم من دون إكراه.
معروف أن ليبيا تفتقر إلى الحياة السياسية الطبيعية الموجودة في بلدان أخرى. تركيبة المجتمع القبلية والجهوية والاختلافات بين النواحي والأقاليم في السكان والموارد ساعدت على التشرذم. كما أن حكم القذافي الاستبدادي أكثر من 43 عاماً عطل الحياة السياسية، وحرم المواطنين من ممارسة أية تجربة حزبية وبرلمانية ونقابية حقيقية، غير بهلوانية اللجان الشعبية واستعراضات الحكم الهزلية. وقد شجع هذا الواقع الأليم من الكبت والحرمان المواطن على اقتناء السلاح بعد أن فتحت وسرقت مخازن القذافي وترسانات حلف شمال الأطلسي. وأصبح الإخوان المسلمون الذين كانوا في السجون أيام القذافي الأكثر تنظيماً والأكثر حضوراً في العاصمة طرابلس والغرب. ووجدت القبائل المعارضة للقذافي فرصتها للأخذ بالثأر باقتنائها السلاح الذي أصبح زينة الرجال وصاحب الكلمة الأخيرة في غياب الدولة التي لم تكن يوماً دولة بالمعنى المتعارف عليه.
كان المستفيد الأول من الفوضى العارمة هم أمراء الحرب والجماعات المسلحة، فليس من مصلحتها تغيير الأوضاع القائمة، فذلك سيكون على حسابها والقضاء على نفوذها ومنافعها المادية، إلا أن استفحال الفلتان واستحالة ضبط الحدود السائبة والبوابات المشرعة جعلت جيران ليبيا، مثل مصر وتونس والجزائر وأوروبا، تشعر بخطر أن تنتقل الفوضى والإرهاب إلى أراضيها. وقد اعتبرت الأجهزة الأمنية المصرية كثيرا من النشاط الإرهابي في سيناء وشوارع القاهرة قادما من ليبيا. واتهمت تونس العمليات الإرهابية التي استهدفت متحف باردو في العاصمة تونس وشاطئ سوسة قادمة من ليبيا. وتتخوف الجزائر من تسرّب الإرهاب مجدداً على حدودها، وقد أبدت استعداداً لمساندة الجيش الوطني الليبي.
وبسبب العلاقة التاريخية والعميقة بين مصر وشرق ليبيا التي تعتبرها القاهرة حديقتها الخلفية ورغبة الرئيس عبد الفتاح السيسي باسترجاع دور مصر العربي، أطلقت القاهرة مبادرة لجمع رئيس حكومة الوفاق فائز السراج مع خليفة خفتر، وتشكلت لجنة مصرية عليا برئاسة رئيس أركان الجيش المصري الفريق محمود حجازي لترتيب لقاء مباشر بدون وسيط. وجوهر
وعلى الرغم من عدم عقد اللقاء المباشر بين الرجلين، إلا أن التواصل لا يزال جارياً بسرية، بمساعدة وسطاء ليبيين ومصريين. وفسر مصدر ليبي اعتكاف حفتر بأنه رسالة إلى المصريين أكثر منه إلى السراج، حفاظاً على استقلالية الموقف الليبي، واحتراماً للحساسية الجزائرية. إلا أن الجماعات المسلحة في طرابلس ومصراتة تخوفت من التقارب بين طرابلس وبنغازي، وتحسبت لإمكانية نجاح مشروع الاتفاق السياسي، فحاولت تعطيله، بشن هجوم على الهلال النفطي، واحتلت أياما معدودة ميناءي رأس لانوف وسدرة، لضرب مصداقية "الجيش الوطني الليبي"، وإشغاله بمعارك جانبية، وبالتالي تعطيل دوره باعتباره حجر الزاوية لأي مشروع توافقي، ينهي حالة الفوضى، ويعيد قيام الدولة المركزية الموحدة.
وفشلت مسرحية البنيان المنصوص التي قامت بها سرايا الدفاع عن بنغازي المؤلفة من مليشيات طرابلس ومصراتة، إذ استطاعت القوات التي تتبع حفتر احتواءها، واستعادت سيطرتها على رأس لانوف وسورة، وسلمتها إلى المؤسسة الوطنية للنفط التي أعادت الإنتاج والتصدير إلى معدل 700 ألف برميل في اليوم. والقطبة المخفية في هذه العملية أن حقول (وطرق) الإمداد التي تؤمن النفط للمنشآت والمرافئ، كانت وما تزال تحت سيطرة حفتر.
وأهمية المبادرة المصرية أنها فتحت الباب أمام الحلول السياسية. وليبيا بتعقيداتها وأهميتها الاستراتيجية وعذابات شعبها تستحق مبادرة دولية تصدر عن مجلس الأمن، وتعيين ممثل جديد للأمين العام للأمم المتحدة. وبانتظار بلورة سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تجاه ليبيا، الأمر الذي قد يحتاج ستة شهور، ستبقى المبادرة معلقة والفوضى الحياتية والسياسية في ليبيا قائمة.
مهى سمارة
كاتبة وصحافية لبنانية، ماجستير في العلوم السياسية، زاولت التعليم الجامعي للصحافة والإعلام، لها كتابان، حازت جائزة Nieman للصحافة في 1987
مهى سمارة