20 نوفمبر 2024
مستقبل "العدالة والتنمية" المغربي
يعيش حزب العدالة والتنمية، المغربي الإسلامي، على وقع خلافات حادة بين قياداته وداخل صفوفه التنظيمية على خلفية إعفاء الملك محمد السادس زعيم الحزب، عبد الإله بنكيران، من رئاسة الحكومة منتصف الشهر الماضي، وتعيينه الرجل الثاني داخل الحزب، سعد الدين العثماني، رئيساً للحكومة الحالية في المغرب، إلا أن طريقة تدبير العثماني تشكيل أغلبيته الحكومية، وتشكيل حكومته، أثارا ردود أفعال كثيرة منتقدة داخل الحزب، والتي ذهب أصحابها إلى اعتبار أن العثماني قبِل بكل الشروط التعجيزية التي كان يرفضها سلفه بنكيران، وهو ما دفع قياداتٍ في الحزب من الصفين، الأول والثاني، إلى وصف ما حدث بأنه "تنازل" و"خيانة" و"إذلال" للحزب. وصف بنكيران، نفسه، ما حدث بأنه "زلزال"، أما العثماني فوصفه بأنه "اللحظة الصعبة والمؤلمة".
هذا الاختلاف الكبير في تقييم اللحظة الحالية التي يعيشها الحزب، وأكثر من ذلك في تقدير الخطوة التي أقدمت عليها قيادة الحزب الحالية التي تقود الحكومة في التعاطي مع المعطيات السياسية الداخلية، وطريقة تدبيرها مرحلة التفاوض الثانية، بعد إعفاء بنكيران، لتكوين الأغلبية الحكومية الحالية، كانت لها ارتداداتٌ تنظيميةٌ، هزّت بنية الحزب من الداخل، وما زالت انعكاساتها تتفاعل داخلياً، مهدّدة وحدة الحزب، وتماسك صفوفه.
ونتيجة هذه الأزمة التي تعتبر أكبر حدثٍ يشهده الحزب حديث العهد نسبياً، بما أنه سيحتفل
السنة المقبلة بالذكرى العشرين لميلاده الحقيقي (تاريخ تسميته حزب العدالة والتنمية عام 1998)، هي أكبر اختبار لوحدة الحزب، وقوته التنظيمية الداخلية، فهذه أول وأكبر أزمة داخلية يشهدها الحزب، عكس كل الأزمات السابقة التي عاشها، وكانت نتيجة مواجهاتٍ مع السلطة، من قبيل أزمة عام 2003 عندما وجهت اتهامات للحزب تُحمّله المسؤولية المعنوية في أحداث الدار البيضاء الإرهابية، وساهمت في تقوية الجبهة الداخلية للحزب، عكس الأزمة الحالية الناتجة عن خلافاتٍ في التقدير السياسي بين قيادات الحزب قسمتهم إلى مدافعين عن خط بنكيران "الممانع" وخط العثماني "المهادن".
ولعل إحدى أكبر تجليات هذه الأزمة التي تضرب أول حزب سياسي في المغرب هي تعطيل عمل مؤسساته الداخلية، خصوصا الهيئات التنفيذية والتقريرية الكبرى التي لم تنعقد منذ أن وقع الشرخ بين قيادات الحزب، على الرغم من ارتفاع عدة أصواتٍ داخله، تطالب بعقدها، وهو ما حول النقاش من داخل المؤسسات الحزبية إلى فضاء التواصل الاجتماعي الذي تحول إلى ساحة للتراشق بواسطة "التدوينات" بين قيادات الحزب في ما بينهم من جهة وصفوف الأتباع والمشايعين من جهة ثانية.
لقد أدّى "التهرّب" من النقاش بين قيادات الحزب داخل مؤسساته، ربما في انتظار أن تهدأ النفوس وهضم ما جرى إلى "تهريبه" إلى الفضاء العام، ما أدى إلى حالة الغليان الحالية التي ترتفع وتيرتها، مع مرور الأيام، مع ما قد يكون لذلك من تأثيرٍ على قدرة الحزب على المحافظة على وحدته مستقبلا.
لا يمكن فهم الأزمة الحالية داخل حزب العدالة والتنمية بمعزلٍ عن فاعل أساسي ومؤثر، ويتعلق الأمر بالسياق السياسي المغربي، وتأثيره على الفاعلين السياسيين، فأزمة الحزب ليست فقط نتيجة اختلافٍ في الرؤى بين قياداته، وإنما هي أكبر من ذلك انعكاس لصراع موازين القوى داخل الساحة السياسية المغربية، فالحزب الذي اكتسب شرعيةً شعبيةً وديمقراطيةً أصبح مصدر إزعاج للسلطة في المغرب التي عملت تاريخياً على إضعاف كل الأحزاب السياسية التي قد تهدّدها في شرعيتها.
ومن يعيد قراءة تاريخ علاقة الأحزاب السياسية ذات الامتداد الشعبي في المغرب مع السلطة
سيجد أنه تاريخ من الصراع حول من يتحكّم في موازين القوى. حدث هذا في فجر استقلال المغرب، عندما أفشل القصر الملكي عام 1958 محاولة الزعيم التاريخي لحزب الاستقلال، علال الفاسي، لتشكيل أول حكومة مستقلة في تاريخ المغرب المستقل، وعمد القصر آنذاك إلى اللعب على أجنحة حزب الاستقلال المتصارعة مرجّحاً كفة جناحه اليساري على جناحه المحافظ الذي كان يمثله علال الفاسي، ليس حباً في الجناح اليساري للحزب الذي كان يمثله عبد الله إبراهيم، وإنما بهدف إضعاف الجناح المحافظ داخل الحزب، وهو ما مهد لانشقاقه عام 1959 وولادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وتكرر السيناريو نفسه تقريباً عام 2002، عندما تدخل القصر، مرة أخرى، وأعفى عبد الرحمن اليوسفي، زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (وريث حزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية")، من رئاسة الحكومة، وحرمه من قيادتها لولاية ثانية، على الرغم من أن حزبه تصدّر نتائج تلك الانتخابات. واليوم، يكاد يتكرّر السيناريو نفسه بإعفاء بنكيران من رئاسة الحكومة وحرمانه من قيادتها لولاية ثانية، على الرغم من أنه هو من قاد حزبه إلى الفوز في انتخابات 2016 التي جعلته في صدارة الأحزاب السياسية، وأهلته حسب الدستور المغربي لقيادة الحكومة الحالية.
عرف القصر تاريخياً في المغرب كيف يلعب على التناقضات الداخلية للأحزاب السياسية القوية، ونجح في استقطاب الأجنحة التي غالباً ما ترجّح مصالحها داخل هذه الأحزاب، للعمل على إنهاكها من الداخل، وما يحدث اليوم داخل حزب العدالة والتنمية إنما هو تكرار بطرق أخرى لما حدث في أحزابٍ كبيرة انتهت إلى اضمحلال، فالتجارب الحزبية الثلاث، أي أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية، كانت بمثابة تيارات اجتماعية أكثر من كونها أحزاباً عقائدية، لأنهم كانوا يدافعون عن قيم كبيرة مشتركة، كان يختزلها مطلب الاستقلال بالنسبة لحزب الاستقلال، والحاجة إلى الديمقراطية بالنسبة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والرغبة في الإصلاح بالنسبة لحزب العدالة والتنمية. وأدى إضعاف هذه الأحزاب إلى عدم بلوغها أهدافها فـ "استقلال" المغرب، كما كانت تطالب به أدبيات حزب الاستقلال في نهاية خمسينيات القرن الماضي لم يتحقق على أرض الواقع بعد. والانتقال الديمقراطي الذي ناضل من أجله حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مازال متعثراً، على الرغم من مرور 42 سنة على انطلاق ما سمي في المغرب بـ "المسلسل الديمقراطي". ويخشى اليوم كثيرون من مناضلي حزب العدالة والتنمية ممن آمنوا بمشروع الحزب "الإصلاحي" أن يتحول الإصلاح إلى تطبيعٍ مع الفساد والاستبداد، كما هو واقع اليوم.
أحد الأسباب العميقة لما يحدث اليوم داخل حزب العدالة والتنمية أبعد من خلافات قياداته حول تكوين الأغلبية وتشكيل الحكومة والحزب.. لأنه يتعلق بالسؤال حول مآل مشروعه الإصلاحي الذي كان بمثابة "عصا موسى" في يد زعيمه بنكيران، كان يتوكأ عليها ويهشّ بها على أتباعه، وله فيها مآرب أخرى.. وبعد إعفائه أصبح بعض من أتباعه يخشون أن يظهر في صفوفهم "سامري" جديد، يزيّن لهم "عبادة العجل" التي أهلكت الأحزاب القوية التي سبقت حزبهم، فمستقبل "العدالة والتنمية" اليوم سيحدّده موقع زعيمه بنكيران وموقفه، إذا عاد ليقوده بعد مؤتمره المؤجل، والذي سيكون بمثابة لحظة الحقيقة للحسم في مآله.
هذا الاختلاف الكبير في تقييم اللحظة الحالية التي يعيشها الحزب، وأكثر من ذلك في تقدير الخطوة التي أقدمت عليها قيادة الحزب الحالية التي تقود الحكومة في التعاطي مع المعطيات السياسية الداخلية، وطريقة تدبيرها مرحلة التفاوض الثانية، بعد إعفاء بنكيران، لتكوين الأغلبية الحكومية الحالية، كانت لها ارتداداتٌ تنظيميةٌ، هزّت بنية الحزب من الداخل، وما زالت انعكاساتها تتفاعل داخلياً، مهدّدة وحدة الحزب، وتماسك صفوفه.
ونتيجة هذه الأزمة التي تعتبر أكبر حدثٍ يشهده الحزب حديث العهد نسبياً، بما أنه سيحتفل
ولعل إحدى أكبر تجليات هذه الأزمة التي تضرب أول حزب سياسي في المغرب هي تعطيل عمل مؤسساته الداخلية، خصوصا الهيئات التنفيذية والتقريرية الكبرى التي لم تنعقد منذ أن وقع الشرخ بين قيادات الحزب، على الرغم من ارتفاع عدة أصواتٍ داخله، تطالب بعقدها، وهو ما حول النقاش من داخل المؤسسات الحزبية إلى فضاء التواصل الاجتماعي الذي تحول إلى ساحة للتراشق بواسطة "التدوينات" بين قيادات الحزب في ما بينهم من جهة وصفوف الأتباع والمشايعين من جهة ثانية.
لقد أدّى "التهرّب" من النقاش بين قيادات الحزب داخل مؤسساته، ربما في انتظار أن تهدأ النفوس وهضم ما جرى إلى "تهريبه" إلى الفضاء العام، ما أدى إلى حالة الغليان الحالية التي ترتفع وتيرتها، مع مرور الأيام، مع ما قد يكون لذلك من تأثيرٍ على قدرة الحزب على المحافظة على وحدته مستقبلا.
لا يمكن فهم الأزمة الحالية داخل حزب العدالة والتنمية بمعزلٍ عن فاعل أساسي ومؤثر، ويتعلق الأمر بالسياق السياسي المغربي، وتأثيره على الفاعلين السياسيين، فأزمة الحزب ليست فقط نتيجة اختلافٍ في الرؤى بين قياداته، وإنما هي أكبر من ذلك انعكاس لصراع موازين القوى داخل الساحة السياسية المغربية، فالحزب الذي اكتسب شرعيةً شعبيةً وديمقراطيةً أصبح مصدر إزعاج للسلطة في المغرب التي عملت تاريخياً على إضعاف كل الأحزاب السياسية التي قد تهدّدها في شرعيتها.
ومن يعيد قراءة تاريخ علاقة الأحزاب السياسية ذات الامتداد الشعبي في المغرب مع السلطة
عرف القصر تاريخياً في المغرب كيف يلعب على التناقضات الداخلية للأحزاب السياسية القوية، ونجح في استقطاب الأجنحة التي غالباً ما ترجّح مصالحها داخل هذه الأحزاب، للعمل على إنهاكها من الداخل، وما يحدث اليوم داخل حزب العدالة والتنمية إنما هو تكرار بطرق أخرى لما حدث في أحزابٍ كبيرة انتهت إلى اضمحلال، فالتجارب الحزبية الثلاث، أي أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية، كانت بمثابة تيارات اجتماعية أكثر من كونها أحزاباً عقائدية، لأنهم كانوا يدافعون عن قيم كبيرة مشتركة، كان يختزلها مطلب الاستقلال بالنسبة لحزب الاستقلال، والحاجة إلى الديمقراطية بالنسبة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والرغبة في الإصلاح بالنسبة لحزب العدالة والتنمية. وأدى إضعاف هذه الأحزاب إلى عدم بلوغها أهدافها فـ "استقلال" المغرب، كما كانت تطالب به أدبيات حزب الاستقلال في نهاية خمسينيات القرن الماضي لم يتحقق على أرض الواقع بعد. والانتقال الديمقراطي الذي ناضل من أجله حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مازال متعثراً، على الرغم من مرور 42 سنة على انطلاق ما سمي في المغرب بـ "المسلسل الديمقراطي". ويخشى اليوم كثيرون من مناضلي حزب العدالة والتنمية ممن آمنوا بمشروع الحزب "الإصلاحي" أن يتحول الإصلاح إلى تطبيعٍ مع الفساد والاستبداد، كما هو واقع اليوم.
أحد الأسباب العميقة لما يحدث اليوم داخل حزب العدالة والتنمية أبعد من خلافات قياداته حول تكوين الأغلبية وتشكيل الحكومة والحزب.. لأنه يتعلق بالسؤال حول مآل مشروعه الإصلاحي الذي كان بمثابة "عصا موسى" في يد زعيمه بنكيران، كان يتوكأ عليها ويهشّ بها على أتباعه، وله فيها مآرب أخرى.. وبعد إعفائه أصبح بعض من أتباعه يخشون أن يظهر في صفوفهم "سامري" جديد، يزيّن لهم "عبادة العجل" التي أهلكت الأحزاب القوية التي سبقت حزبهم، فمستقبل "العدالة والتنمية" اليوم سيحدّده موقع زعيمه بنكيران وموقفه، إذا عاد ليقوده بعد مؤتمره المؤجل، والذي سيكون بمثابة لحظة الحقيقة للحسم في مآله.