حرب حزيران 1967.. مطالعة بعد 50 عاما
سبق أن عبّرتُ يومًا عن فكرة مُفادها أنّ حزيران/ يونيو 1967، وليس أيار/ مايو 1948، هو تاريخ نشوء إسرائيل الحقيقي (أو تثبيته على الأقل). فحتى انتصارها في تلك الحرب، كانت إسرائيل - التي أُرِّخت النكبةُ الفلسطينية بيومِ إعلانِ استقلالها - مشروعًا غير مستقرٍّ في نظر الحركة الصهيونيّة، وما سُمّي "يهود الشتات" الذين أقنعتهم حرب 67 أنّ إسرائيل أكثر من مغامرة، وأنها مشروعٌ مضمون؛ فتكثّفت الهجرة إليها بعدها، وتدفقت الاستثمارات أضعافًا مضاعفةً، وانتقلت إسرائيل من اقتصاد القطاع العامّ الاستيطاني التعبوي إلى اللبرلة الاقتصادية. كما أنّ الولايات المتحدة الأميركية أبرمت التحالف الإستراتيجي معها، واقتنعت بفائدته العملية والرّهان عليها بعد هذه الحرب. فكما هو معلومٌ، انتصر جيش الاحتلال في هذه الحرب بسلاحٍ فرنسي، وليس بسلاح أميركي، وتدفقت أموال المعونات الأميركية والاستثمارات، وجرى تسليح الجيش الإسرائيلي بطائرات الفانتوم بدلا عن الميراج الفرنسية، أمّا بقية "قصّة" العلاقات الأميركية - الإسرائيلية إثْر تلك الحرب، فهي معروفةٌ للجميع.
لن يكون بوسعنا اليوم التطرّق إلى الأبعاد، الدوليّة والعربيّة والفلسطينيّة، كلِّها، ولكنّنا سوف نُلقي ضوءًا مختلفًا عليها، أو نقاربها مقاربةً مخالفةً لما هو مألوف.
خرجتْ إسرائيل من حرب 1948 بخسائر كبيرة، تتجاوز ما خسرته في جميع الحروب الأخرى، مقارنةً بعدد السكان في ذلك الوقت؛ على الرغم من وهن الدول العربيّة، وتبعيّتها للدول الاستعمارية وارتباكها وضعف جيوشها وهشاشة المقاومة الفلسطينيّة بعد ثورةٍ منهِكة استنزفت الاقتصاد والمجتمع بين عامي 1936 و1939، وعلى الرغم من التحالف البريطاني – الصهيوني أيضًا. ولم يتلخص الفرق في التفوق الصهيوني بالمعدّات والتقنيات فحسب، بل كانت ثمة فجوةٌ عددية مسكوت عنها غالبًا. فقد حشدت "الهاغانا" أعدادًا تفوق عديدَ مقاتلي الجيوش العربيّة مجتمعةً. وحتى من هذه الناحية، فإنّ حرب الكثرة ضد القلة أسطورةٌ من الأساطير الصهيونية في الصراع.
لم يعترف العرب بتحوّل الكيان الصهيوني الاستيطاني إلى دولةٍ بتشريد الشعب الفلسطيني عام 1948، وأصبح العداء لهذا الكيان موضوعَ تنافسٍ بين التيارات السياسية العربية كافّةً. ويُعَدُّ تأثير النكبة والتأثُّر بها من أهم دوافع الانقلابات العسكرية ضد النخب التقليدية والليبرالية التي حكمت الدول العربية بعد الاستقلال، وفشلت في هذه الحرب، مثلما فشلت في حلّ المسألة الزراعية وغيرها. وكنت قد أوضحت سابقا أن النكبة لم تقتصر على الشعب الفلسطيني الذي تحمل وزرها الأكبر، بل امتدت إلى الشعوب العربية، وأصبحت عاملاً مفصليا في مجمل التطورات الداخلية للبلدان العربية، وتأسّس الاستخدام الأداتي للقضية الفلسطينية، سواء في الصراعات الداخلية في البلدان العربية أو العلاقات البينية. وثمّة نمط متكرّر لضباطٍ شاركوا في حرب 1948 وقاموا بانقلابات عسكريةٍ في مصر وسورية والعراق. ولكنّ هؤلاء الضباط الذين قادوا الانقلابات المبرّرة بفجيعة خسارة الجيوش العربية الحرب عام 1948، تعرّضوا لهزيمة أكثر فداحةً عام 1967.
كان رأي بن غوريون أنّ حرب عام 1948 التي سُمِّيت حرب الاستقلال لم تَحسم المسألة، وأنّه لكي تتقبل الدول العربية وجود إسرائيل في المنطقة لا بدّ من إرغامها على ذلك، بإلحاق هزيمةٍ أخرى بها في حربٍ أخرى، تُقنعها بقبول الأمر الواقع. ولهذا، من حيث المزاج العامّ، وبغضّ النظر عن تفاصيل بدء الحرب مع مصر أو سورية، كانت المؤسسة الصهيونية مستعدةً وجاهزةً لخوض حربٍ ثانيةٍ أو ثالثةٍ، بل معنيّةً بذلك.
وبعد حرب الأيام الستة، وفي العام نفسه، طرحت الحكومة الإسرائيلية، في مراسلاتٍ مع الإدارة الأميركية، إمكانية مقايضة الأراضي التي احتلتها (ما عدا القدس) باتفاقيات سلامٍ مع الدول العربيّة. أمّا اليوم، فلا يمكننا التأكد من جديّة هذه الخطوة، وتلخص الموقف الرسمي العربي ب"لاءات الخرطوم" المعروفة الثلاث: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات. فقد كان المطلوب - إسرائيليًا - تجاوز قضيّة فلسطين، بل نسيانها، وحلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين عربيًا، وتحقيق سلام مع الدول العربيّة يقوم على ما سُمي حينئذٍ "تسوية أراضٍ إقليميّة" Territorial compromise على أساس قرار مجلس الأمن 242.
الحقيقة أنّه لم يكن بوسع الأنظمة العربية قبول ذلك، فهو لا يعني إلا الاستسلام بعد هزيمةٍ مذلّةٍ تعرّضت لها الأنظمة والجيوش العربية؛ ولكنه أصبح أمرًا واردًا إثْر استعادة بعض الثقة بالنّفس في حرب 1973، أي إنّ أهداف حرب 1967 الإسرائيلية، في ما يتعلّق بقبول إسرائيل في المنطقة وعقد اتفاقيات سلام مع الدول العربية من دون حلّ قضية فلسطين، تحققت بعد حرب 1973 على الجبهة المصرية.
وبعد صعود منظمة التحرير الفلسطينية، بفصائلها المسلحة المبهر، إثْر تلك الحرب، وإن كانت تأسست قبل الحرب، وأفولها بعد حربين أخريين (حرب لبنان 1982، وحرب الخليج 1991، وبينهما الانتفاضة الفلسطينية)، طُبِّق ذلك على الجبهة الأردنية، عبر التسوية مع منظمة التحرير الفلسطينيّة. لقد أصبح مبدأ "أرض مقابل الاعتراف" الذي رفعته إسرائيل في ما بعد شعارًا عربيًا بعد أن عُدِّل، "الأرض مقابل السلام"، والمعنى واحدٌ في الحقيقة. جرى هذا بعد أن توطّد في إسرائيل معسكرٌ كبيرٌ يدعو إلى "السلام مقابل السلام"، ويعترض على إعادة الأرض، أو يقبل بإعادة جزء من الأرض مع أكبر عدد من الفلسطينيين، وذلك بتحويل التسوية الإقليميّة إلى تسوية ديموغرافيّة. وهذه مواضيع أخرى لن تشغلنا كثيرًا في هذا المؤتمر.
لم تتجلَّ الضربةُ التي تلقّتها الحركة القومية العربية بأزمة الأنظمة التي تبنّت القومية العربية أيديولوجية رسمية بعد هزيمتها في حرب 1967، بل أيضا في تفكيك الطرف العربي في الصراع العربي الإسرائيلي، وذلك عبر ظاهرة اتفاقيات الصلح المنفرد المصري والأردني والفلسطيني مع إسرائيل، وعمليات التفاوض المنفصلة.
وتكمن المفارقة التاريخية الكبرى في أنه حينما هزمت الأنظمة العربية التي تبنت القومية العربية أيديولوجية رسمية في الحرب مع إسرائيل، انحسرت معها هذه الأيديولوجية تحديدا، وهي التي تعتبر الصراع مع إسرائيل قضية العرب جميعا، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. واستفادت من ذلك تلك الأنظمة التي لم تتبنّ هذه العقيدة، واعتبرتها مغامِرةً، والقوى التي صعدت من داخل الأنظمة، واتجهت نحو السلام المنفرد مع إسرائيل، وغطّت رغبتها هذه بضع سنوات بحججٍ مثل عدم التدخل في الشأن الفلسطيني، والحرص على ترك قضية فلسطين للفلسطينيين يقرّرون بشأنها. أما الأنظمة التي ظلت تتمسّك بهذه الأفكار، فلم تتنازل عن قضية فلسطين، ولكن ليس في الصراع مع إسرائيل، بل في صراعها على البقاء وتخوين المطالبين بالحرية والعدالة، وكذلك في المساومة بشأن موقعها الدولي والإقليمي. وهذه الميزة (أو الورقة كما يحلو لبعضهم أن يقول) انتزعتها منها منظمة التحرير في المعركة على استقلالية القرار الفلسطيني.
ملاحظات حول ردّ الفعل العربي على الحرب
لن أتوقف طويلًا عند محاولة الأنظمة العربيّة تمويه الهزيمة، غير أنّني أشير إلى أمرَين بشأنه: كان ذلك، أولًا، بتلطيف اللفظ نفسه، أيْ تحويله إلى "نكسة"، فكأنّ الأمر يتعلّق بزلّةٍ محزنةٍ لأنظمةٍ تسير عمومًا على طريق صحيح. وبحسب هذا الأسلوب التصويري، تكون لكلّ مسيرةٍ عظيمةٍ نكسةٌ أو نكسات، مثلما يكون "لكل حصانٍ كبوة". وكان التمويه، ثانيًا، بتجاوز ذلك في محاولة قلب الهزيمة انتصارًا لأنّ إسرائيل لم تنجح في إطاحة ما سُميت "الأنظمة التقدمية"، وأنّ كلّ ما استطاعت فعله هو احتلال الأرض فقط (!!). فهذه فضيحةٌ تستحق كُتبًا وأبحاثًا في تحليل البلاغة السياسية العربية والديماغوغيا التي تستبيح سائر المعايير العقلية، والذهنية التي تقبع خلفهما. أما عند الاعتراف بالفشل العسكري، فيقترن ذلك مع التهويل في قدرات إسرائيل وامكاناتها إلى حدود أسطورية، بما في ذلك "المؤامرة اليهودية العالمية" وسيطرتها على أميركا؛ وهو ما استخدم لاحقاً في عملية تصفية القضية الفلسطينية، وتبرير عمليات السلام المنفردة. فإذا كانت إسرائيل تمتلك هذه القوى الخارقة، يصبح أي فتاتٍ تقدّمه على مائدة المفاوضات إنجازًا مهما.
أمّا ردّة الفعل المعارض للأنظمة العربيّة، فكانت أكثر استعدادًا للاعتراف بالهزيمة بطبيعة الحال، فهي هزيمة الأنظمة، ولكنّها عمومًا لم يُتوقَّف عندها مليًّا، وذلك لسببين:
أولًا، لأنّ التدقيق في ما جرى في أثناء الحرب، والبحث في الإخفاقات العسكريّة والتخبط في صنع القرار السياسي، كانت أمورًا تُعَدُّ من المحظورات. والنقد العيني الذي لا يكتفي بالعموميات، في حالة القيام به، لا بدّ أن يمسَّ ممارساتِ أنظمةٍ ظلّت قائمةً بعد الحرب، والنّبشُ عن دفاترها ومستنداتها (إن وُجِدت) ممنوعٌ، فضلًا عن التعرّض لقياداتها. وقد قامت الأنظمة نفسها بالتضحية ببعض الضباط، ونشرت شائعاتٍ تقبّلها الجمهور العربي برحابة صدر، منها المؤامرة والتواطؤ والخيانة، من دون تقديمِ أدلةٍ كما هي العادة. لكنْ طوال نصف قرن، لم يَجرِ التطرّق - على نحوٍ علميّ - إلى أكبر إخفاقٍ عسكري، عرفه العرب في تاريخهم الحديث. وأقصد التطرّق إليه من منظور العلوم السياسيّة والعلوم العسكرية، وبأدواتها؛ هذا في وقتٍ صدرت فيها مئات الدراسات في إسرائيل والغرب، في تحليل الحرب وأسبابها ونتائجها وتوثيقها، وفي تحليل كل معركةٍ من معاركها، فضلًا عن كُتب السير الكثيرة التي كتبها القادة، ووزراء الخارجية، ووزراء الدفاع، وحتى الضباط. لهذا، إذا أردتَ أن تدرس مسارَ حرب 67 ذاتَه، سوف تجد نفسك أمام مكتبةٍ كاملة صهيونية أو بريطانية أو أميركية، ولكنك ستجد ندرةً في الأدبيات البحثية العربية، وستكون ممتنًّا - في حال الحصول على معلوماتٍ متفرقةٍ - إزاء ما "تكرّم" به بعض الضباط والسياسيين العرب في مذكّراتهم.
ثانيًا، انشغل المثقفون العرب بعد الحرب بمسائل، مثل الصدمة الحضاريّة أو صدمة الحداثة المجدّدة التي أحدثتها الحرب، وقارن بعضهم أثَرَها بغزو نابليون مصر، كما انشغلوا بصدمة اكتشاف قوّة المؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة التي غالبًا ما استخفّوا بها، وعدُّوها كيانًا هشًا مؤقتًا وعصابةً صهيونيةً حاكمةً، وأشتاتًا تتجمع على أرض فلسطين، لا تشكِّل شعبًا وأمّةً، خلافًا للعرب في زمن انتشار الأيديولوجية القومية.
ولعب نقد الصدمة الحضارية هذا لاحقاً دورا في ميلاد تيار أُعجِب بإسرائيل وسياسييها ومؤسساتها وضباطها، باعتبارها دولة حديثة.
لقد فتحت الهزيمة بابًا لنقد التخلف والبحث عن أسبابه في الجهل وانتشار الأمية، أو في التبعية الاقتصادية، أو في الدولة السلطانية، وفي الدين والتديّن، وصولا إلى سيكولوجيا الإنسان العربي وعقليته (وربما "جيناته" البيولوجية أو الثقافية) وغيرها، كما فتحت المجال واسعًا أمام الوعظ بالحداثة والعقلانية والتقدم- وهو جهد لم يخلُ من جوانب مفيدة، لمسها بعضنا في أجواء سبعينيات القرن الماضي– ولكن، من منظور موضوعنا اليوم، قفز هذا النقد غالبا عن الموضوع، أو تجاوزه من فرط حماسةِ الاندفاع نحوَه.
وبعد أدبيات الصدمة الحضاريّة، انتشرت أدبياتٌ يسارية، وأخرى أيديولوجية علمانيّة أو دينيّة يحاسب كلٌ منها الأنظمةَ من منطلقه، فتدّعي، مثلًا، أنّه لو كان النظام يتّبع الاشتراكيّة العلميّة لما هُزم في الحرب، ولو كان إسلاميًّا لما اندحرت جيوشه؛ فالهزيمة عقوبةٌ إلهيّةٌ على التخلي عن تعاليم الإسلام ونظام حكمه، وكأنّ إسرائيل انتصرت لأنها كانت متمسكةً فعلًا بالدين، أو هي كافرةٌ ضالة، ولكنْ "سخَّرها الله لمعاقبة الحكام العرب العلمانيين"، بل انتشرت بعض الأدبيات الإسلامية التي تؤكد تمسُّكَ إسرائيل بالدين اليهودي في تلك الفترة، مع أنها كانت أكثر علمانيةً ممّا هي عليه اليوم، فقد ازداد منسوب التديّن فيها، وتورّط الدين في السياسة، بعد تلك الحرب في لقاء ما تسمى "أرض إسرائيل التوراتية" مع كيان الدولة التي كان يحكمها حزبٌ عمالي اشتراكي النزعات، يؤمن بالتأميم والقطاع العامّ. فإثْر الحرب، تكثفت التبريرات التوراتيّة لضمّ القدس الشرقية والضفة الغربية التي سُميت "يهودا والسامرة"، في مقابل التبريرات الأمنية للانسحاب أو الضمّ.
أمّا دعاة الديمقراطيّة، فلم يتردّدوا في الجزم أنّه لو كانت الأنظمة العربيّة ديمقراطيّةً، ولو كان الشعب يشارك في صنع القرار، لما وقعت الكارثة. وبغضّ النّظر عن موقفنا من الأيديولوجيات المختلفة (والمتحدّث هنا عربي يُعرِّفُ نفسه، إذا اضطر إلى ذلك، بوصفه يساريًّا اجتماعيًّا، وديمقراطيًّا ليبراليًّا من الناحية السياسيّة، هذا إذا اتفق مع المخاطَب على تعريفات هذه المصطلحات) فإنّ سببَ الهزيمة ليس غيابَ الديمقراطية، فقد هَزمت ألمانيا النازية دولًا ديمقراطيّةً كثيرةً خلال الحرب العالمية الثانية، ولم تصمد فرنسا الديمقراطية أمام ألمانيا النازية، في حين صمدت بريطانيا الديمقراطيّة وروسيا الشيوعيّة؛ وفيتنام لم تنتصر في مقاومتها العدوان الأميركي عليها بفضل الديمقراطية، ولم يتحرّر جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي لأنّ أيديولوجيّة المقاومة اللبنانية كانت ديمقراطيّةً أو اشتراكيّةً علميّةً أو دينيةً مذهبيةً.
نحن لا نؤيّد العدالة الاجتماعية والديمقراطية الليبراليّة لناحية المشاركة السياسيّة والحريات والحقوق المدنيّة، بحجة أنها تقدم أداءً أفضل في الحروب، بل من أجل العدالة والحرية ذاتهما، لأنّنا نؤمن أنهما أفضل من الظلم والعبودية. وعلميًّا، لا يمكن إثبات فرضيةٍ مُفادها بأنّ أداءَ نظامِ حكمٍ يسترشد بهاتين القيمتين يكون أفضلَ في الحروب أو أسوأ. للحرب الحديثة في عصرنا مقوماتٌ قائمة بذاتها: مثل التخطيط، والنجاعة، والتدريب، والانضباط، والتجهيز، والتسلح، والواقعية العسكرية، وتحديد العدوّ والأهداف بدقّة، والجهد الاستخباراتي، وتكامل القرار السياسي والعسكري في أثناء الحرب... إلخ. وهذه المقومات يمكن أن تتوفر لدى اليساريين واليمينين، والمتدينين وغير المتدينين، والديمقراطيين وغير الديمقراطيين.
ولو تحرّرنا من النّقاش الذي يُسخّر هزيمة 67 في خدمة الجهد لإثبات تفوّقِ أيديولوجيةٍ على أخرى، فيفقد محاسن هذه الأيديولوجيا، كما يفقد أدواتِ فهم ما جرى عام 67 في الوقت ذاته... لو تحرّرنا من هذا كلِّه، ونظرنا بدقّةٍ وصرامةٍ علميتين إلى مجريات تلك الحرب، لأدركنا ما يُفترض أن ندركه تحديدًا، وهو أنّ هذه الهزيمة لم تكن حتميّةً، لا بسبب طبيعة حضارتنا و"تخلفنا"، ولا بسبب غياب العدالة الاجتماعيّة والديمقراطية.
كان بالإمكان، في وضع الأنظمة العربيّة الذي كانت عليه، وفي وضع حضارتنا كما كانت، ألَّا يسقط الجولان هذا السقوط المدوِّي، وألَّا يُعلَن سقوطُه قبل أن يسقط، وألَّا تسقط الضفة الغربية للأردن بهذه الطريقة، وأن يصمد المقاتلون في سيناء مدّةً أطول، وألَّا ينسحبوا مثل ذلك الانسحاب المعيب، بعد أوامر من قيادةٍ مرعوبة. لقد انتقلت هذه القيادة من التظاهر بالقوة للتغطية على نتائج غير بعد حرب استنزاف في اليمن، والمزايدة وإغلاق مضايِقَ تيران والطلب إلى القوات الدولية أن تُخلِيَ سيناء كأنها سوف تشنّ الحرب، وذلك من دون أن تريد الحرب فعلًا... انتقلت من المزايدة والتظاهر بأنها تدعو إلى حربٍ لا تريدها في الحقيقة إلى حالة الفزع والذهول والشلل بعد القصف الإسرائيلي، فاتخذت قرارات الانسحاب السريع وغير المنظّم من سيناء.
كان ممكنًا أن يكون الأداء أفضل. وهذا، تحديدًا، ما يجب أن يُدرس. ما هي الأخطاء التي وقعت في هذه الحرب في العلاقة بين المستويين، السياسي والعسكري، في كلٍّ من سورية ومصر، وفي العلاقة بين القدرات العسكريّة وعمليّة صنع القرار السياسي؟ وكيف كان وضع الجيوش العربية وتدريبها وتسليحها، ووسائل اتصالها؟ ولماذا تضع خططًا لا تُنفَّذ؟ ثمة بالطّبع حاجةٌ إلى فهْم طبيعة النظام عند مقاربه هذه الإشكاليات، ولكنّ طبيعة النظام، على أهميتها ومصيريتها، لا توفر إجابة عينيّة عن كلّ إشكالية.
يكتفي بعضُ من يقاربون موضوع الحرب عسكريًّا، وليس أيديولوجيًّا، بالقول إنّ إسرائيل حسمت المعركة من الجوّ، حين أبادت سلاحَ الطيران المصري وهو رابضٌ في المطارات، ولكنْ حتى جيوش الأنظمة غير الديمقراطيّة والمتخلفة والقمعية يمكنها الصمود على نحوٍ أفضل بعد تدمير سلاح الطيران. والمقاومة في أنحاء العالم كلِّه، ومنها مقاوماتٌ عربيّة في غزة وفي لبنان، تُثبت أنّه بالإمكان الصمود من دون سلاح طيران. وربما لا يمكن تحقيق انتصار، ولكنْ يمكن بالتأكيد ردْعُ العدوان، والصمود. وهذه كلُّها أمورٌ متعلقة بفهمِ النسبة بين قدرات العدو والقدرات الذاتيّة، وتكييف وسائل القتال ومناهجها بموجب ذلك. ثمّة أمورٌ كثيرة يجب أن تُدرس ويستفاد منها على هذا المستوى.
بعد الحرب، قِيل الكثير حول حُسن الدعاية الصهيونيّة، وعجْز الدعاية العربيّة عن التفسير "للعالم" أنّ حرب 67 كانت عدوانًا إسرائيليًا، وليست دفاعَ القلّة عن نفسها في وجه الكثرة، ولا حربَ داوود أمام جوليات (جالوت). ولا شكّ في أنّ الخطاب السياسي العربي قبل الحرب، والذي ينسى أصحابه المنجرفين في حمأة المزايدات بين الأنظمة العربية المتنافسة، أنّ ثمّة من يرصد، وأنه سوف يُترجم إلى لغاتٍ أجنبية، قد ساهم في إظهار هذه الصورة. كما استفادت إسرائيل من لعب دور الضحية، وربطه بالتاريخ اليهودي في أوروبا تحديدًا. وأشير هنا إلى أن استخدام الهولوكوست بكثافة في الدعاية الإسرائيلية الرسمية، وفي الثقافة الإسرائيلية نفسها وصناعة الهولوكوست كمكوِّن أساسي في السياسة والثقافة، انطلقت بعد 1967، (وسبق أن تطرّق مؤرخون إلى ذلك بتوسع). فقد كان الانشغال بها محرجا للثقافة الصهيونية الاستيطانية قبل ذلك، لأنها تذكّر بضعف يهود الشتات، وهو ما يريد "اليشوف" (الساكنة الصهيونية) في فلسطين أن ينساه. ولكن منذ محاكمة آيخمان، وبشكل مكثف بعد حرب 1967، بدأ الاستخدام المكثف لها في السياسة، وفي تشكيل صورة إسرائيل وريثاً لضحايا المحرقة، وممثلا لهم ولقضيتهم، وبذلك يصبح تحصيل حاصلٍ أن من يشن الحرب عليها هو وريث مرتكبي تلك الإبادة الجماعية.
لعبت الضحية دور الفاعل بإتقانٍ بالغٍ، أما المجرم فتقمّص دور الضحية. وهناك الكثير ممّا يمكن تحسينه في شرح ما جرى في تلك الحرب لناحية العدوان الإسرائيلي المُبيّت، وتواطؤ الولايات المتحدة معه في مرحلة الحرب الباردة، وفي ظل تعثرها في فيتنام، لتلقين الأنظمة غير الودودة للمصالح الأميركية في المنطقة درسًا. ولكن، لا حاجة إلى عبقرية خاصة، لندرك أنّ ما يُعبَّر عنه بألفاظ مثل "العالم" أو "المجتمع الدولي" (وغيرها من المصطلحات الضبابية) ربما يتعاطف مع الضحية؛ تحديدًا مع ضحيةٍ تُقاوم، لكنه لا ينتصر لها. والشعب الفلسطيني، بالتأكيد، ضحيّةٌ لمشروع استيطاني كولونيالي. وقد أصبح ممكنًا تحقيق التعاطف الدولي معه، بعد أن انتزع زمام المبادرة وناضل ضد الاحتلال. لكنْ، من الصعب على "العالم" أن يفهم أنّ الدول العربيّة كلَّها، بأنظمتها وثرواتها، ضحيّة. المنتصِر في هذه الحالة أكثر إقناعًا من المهزوم الذي يدّعي أنّه الضحية؛ أما المنتصر عسكريا، أو الذي يحقّق تفوقًا في في مجالات أخرى فيجد من يتفهمه ومن ثم يتعاطف معه ويعجب به، حتى وإن تعرّض للشيطنة في مرحلةٍ سابقة. وذلك لأنه حقق شيئا يمكنه الدفاع عنه، فإنجازات ألمانيا واليابان الاقتصادية أسهمت في نشوء صورةٍ إيجابية لهما بعد مرور عقدين من الحرب العالمية الثانية، وينطبق الأمر على الصين، بل إن صورة فيتنام في الولايات المتحدة لم تتحوّل سلبية.
ولذلك، سيكون تخلي المهزوم عن لعب دور الضحيّة أكثرَ واقعيةً وعقلانيةً في هذه الحالة، وكذلك البحث عن عناصر القوة التي تمكّنه من التفوق والانتصار أو الصمود على الأقل. ومن هنا، تنبع أهمية فحص مكامن الضعف العينيّة التي أدّت إلى الهزيمة؛ هذا إذا توفرت الإرادة، ما يعني أنّني لا أتحدث عن الأنظمة العربية الحاليّة التي فقدتها، حتى أصبح بعضها يَعُدّ دولةَ الاحتلال حليفًا (تارة بحجة الصراع مع إيران، وطورا بغرض الفوز في التنافس العربي على الفوز بحظوة أوفر لدى واشنطن)، بل أخاطب من يحاول أن يطرح بدائلَ. ومُفاد رسالتي إليه أنّ طرحَ بدائلَ للأنظمة القائمة بمعايير أيديولوجية، وحتى قيمية، ليس كافيًا، بل سيكون على من يسعى إلى السلطة أن يُتقِن (وأقصد أن يعرف كيف يعمل مع مؤسسات تُتْقن) فنونًا متعلقةً بإدارة الدولة والاقتصاد والسياسة الخارجية... والحرب أيضًا.
المحاضرة الافتتاحية لمؤتمر "خمسون عاما على حرب حزيران/ يونيو 1967.. مسارات الحرب وتداعياتها) في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 20- 22 مايو/ أيار 2017