02 ديسمبر 2019
البحث الخائب عن فرضية "أرض الميعاد"
محمود العلي
باحث فلسطيني، دكتوراه في علم الاجتماع. عمل استاذاً مساعداً في معهد العلوم الاجتماعية - الجامعة اللبنانية، وفي عدّة وظائف في "الأونروا"، باحث ومنسق مركز حقوق اللاجئين – عائدون.
بدأ الخطاب التوراتي لمدارس الآثار الغربية يتداعى على أيدي علماء غربيّين، تحرّروا من الرؤية التي تقدّم تبريراً للمشروع الصهيوني في فلسطين، ومن أبرزهم روجيه غارودي الذي تناول، في كتابه "الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية" الذي نشر عام 1996، أشكال الأساطير اللاهوتية التي قامت عليها دولة إسرائيل، مركّزاً على أساطير الأرض الموعودة والشعب المختار والتطهير العرقي. مستخلصاً أن الرواية التوراتية لتضاريس فلسطين المحتلّة وربطها بتاريخها مجرّد صناعة لاهوتية، تخدم أغراضَ سياسة استعمار فلسطين؟
وصف غارودي أسطورة الأرض الموعودة بأنها ذريعة للاستعمار الذي مارسته إسرائيل تحت شعار ديني، وقال إن الأسطورة لا أساس دينيّاً لها، باعتراف الحاخام آلمر برغر، الرئيس السابق لرابطة من أجل اليهود. كما أكّد النتيجة ألبير دي بوري، أستاذ العهد القديم في كلّية اللاهوت البروتستانتية في جنيف في رسالته للدكتوراه حول الوعد الإلهي والخرافة الشعائرية في أدبيات يعقوب، وخلص فيها إلى أن تفسير الوعد الإلهي، بمعناه الكلاسيكي (تروّجه إسرائيل) جاء لإضفاء الشرعية على غزو فلسطين واحتلالها.
وإضافة إلى غارودي، ظهرت دراسات لعلماء موضوعيّين، مناقضة لما فسّر في الرواية التوراتية لتضاريس فلسطين المحتلّة وربطها بتاريخها ، واعتبار ذلك مجرّد صناعةٍ لاهوتية تخدم أغراضَ سياسة استعمار فلسطين، ومنهم عالم الآثار، كيث وايتلام، الذي عمل أستاذاً للدراسات الدينية في جامعة ستيرلينغ في اسكتلندا، وصاحب كتاب "اختلاق إسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني"، الذي صدر عام 1996. ويركّز وايتلام على البعد السياسي لمحاولات الطمس والتفسير المغلوط للتاريخ، حيث يذكر أن تاريخ إسرائيل المخترع في حقل الدراسات التوراتيّة كان وما زال صياغةً لغويةً وأيديولوجيةً لما كان ينبغي أن تكون عليه الممالك اليهودية. كما تمّ تناول الموضوع، في صحف أجنبية، منها مجلة التايم التي نشرت مقالاً بعنوان "هل التوراة حقيقة أم خيال" (5/12/95)، ومجلة لو نوفيل أوبسرفاتور الفرنسية، عندما نشرت في 24/7/2002 تحقيقاً: "الطوفان، إبراهيم، موسى، الخروج: التوراة، الحقيقة والأسطورة، الاكتشافات الجديدة لعلم الآثار"، كتبه فيكتور سيجيلمان، وجان لوك بوتيه، وصوفيا لوران. وأظهرت الاكتشافات الآثارية والتاريخية، على أيدي علماء آثار وتاريخ، منهم البروفيسور توماس طومسون في كتابه "السرد التوراتي وتاريخ فلسطين"، أن التاريخ المعروف لدى العالم المعاصر عن إسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم من صنع الخيال، وأن نتائج التنقيبات، في العقد الأخير، برهنت على أن التسلسل الزمني لتاريخ المنطقة يستند على مدّعياتٍ أدبيةٍ وسياسيةٍ وإيديولوجية، غرضها ترتيب العهد القديم وتأويله.
وكان علماء الآثار الإسرائيليون قد حاولوا عقودا أن يبرهنوا أن التوراة تبرّر عودة اليهود إلى أرضهم القديمة باستعمال الحفريات الأثرية، بغرض العثور على دليلٍ، يؤكّد حقّ اليهود في أرض الميعاد، كجزءٍ من عملية بناء الدولة. بيد أن نتائج الدراسات كانت عكسية، حيث بيّن علم الآثار ان "أرض الميعاد" أسطورة، وجرى إسقاط جغرافيّة التوراة على فلسطين. ومن بين باحثين ومؤرّخين شكّكوا في حكايات العهد القديم علماء آثار إسرائيليّون، منهم إسرائيل فنكلشتاين من جامعة تلّ أبيب، والمعروف "بأبي الآثار"، وقد نشر تقريراً في مجلة "جيروزاليم ريبورت" الإسرائيلية، أكّد فيه أن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية، تدعم بعض القصص الواردة في التوراة، ومنها قصص الخروج والتيه في سيناء، وانتصار يوشع بن نون على كنعان. كما شكّك في قصة داود التوراتية الأكثر ارتباطاً بالقدس بحسب معتقدات اليهود، وقال إنّه ليس من أساسٍ أو شاهد إثباتٍ تاريخي على وجود هذا الملك المحارب الذي اتخذ القدس عاصمة له، مؤكّداً أن شخصية داود زعيماً يحظى بتكريم كبير، لأنه وحّد مملكتَيْ يهودا وإسرائيل، مجرّد وهم وخيال لم يكن لها وجود حقيقي. وأكّد أن وجود باني الهيكل سليمان بن داود مشكوك فيه أيضاً.
وقال عالم الآثار في جامعة تل أبيب، البروفيسور زائيف هرتزوغ، الذي شارك في أعمال الحفر، إن كلّ الأحداث المذكورة في التوراة تتناقض تماماً مع ما توصّل إليه علماء الآثار. وتوصل أستاذ التاريخ في جامعة تلّ أبيب، شلومو ساند، في كتابه "متى وكيف تمّ اختراع الشعب اليهودي"، إلى أن الصهاينة الجدد، وليس اليهود، هم الذين اخترعوا "أرض إسرائيل" مصطلحا جيو - سياسيا عصريا. ونفى فيه وجود شعب يهودي، تمّ إرغامه على الخروج من البلاد إلى الشتات، وأكّد أن معظم يهود أوروبا الشرقية هُم من نسل مجتمعاتٍ وأفرادٍ تهوّدوا خلال مراحل تاريخية.
باحثون عرب
وعالج باحثون عرب موضوع ربط التوراة بأرض فلسطين، وعلاقة ذلك بالمشروع الصهيوني، ومنهم فاضل الربيعي الذي عمد إلى توضيح بعض المسائل التاريخية، مستنداً إلى خبرته في اللغات اليمنية القديمة وفي اللغات، العربية والعبرية القديمة والحديثة، مساهمة في تصحيح تاريخ فلسطين. وقد اعتبر أن القدس ليست أورشليم، وبيّن أن فلسطين المتخيّلة هي أرض التوراة في اليمن، في كتابيه "فلسطين المتخيّلة: أرض التوراة في اليمن القديم"، وكتاب "القدس ليست أورشليم". وتأتي كتابات الربيعي في سياق كتابات كمال الصليبي نفسها، والذي كان قد أشار في كتابه الأول "التوراة جاءت من جزيرة العرب" (1985) إلى المواقع الجغرافية في غرب الجزيرة العربية التي تنسجم مع أسماء المدن، كما جاءت في التوراة وليس في فلسطين. وعمد الصليبي إلى تصحيح أسماء أماكن ومعطيات واردة في كتابه.
وعالج فرج الله صالح ديب بدقّة تفصيلية هذا الموضوع، وهو يرى أن مشكلة الفكر الغربي أنه الوالد الشرعي للفكر الصهيوني، وبالتالي، فإن أصحابه أمضوا ثلاثة عقود في محاولة إخضاع الأبحاث الأثرية لمصلحة التفسير التوراتي، لكي ينفوا وجود الشعب الفلسطيني. وأورد ديب في كتابه "اليمن وأنبياء التوراة" أن إسقاط التسميات التوراتيّة بدأت في منتصف القرن التاسع عشر مع الرحّالة الأوروبيّين، لتنتقل بعدها إلى الوثائق السياسية والجغرافيا المدرسية، وأن علماء الآثار عندما لم يجدوا في فلسطين أحداثاً تاريخية، تنسجم مع ما ورد في التوراة، اعتبروا ما ورد فيها من قصص مجرّد أساطير وخرافات والأنبياء تأليفاً شعبياً. وذلك لأنهم لم يبحثوا في المكان الصحيح، لافتاً إلى أن النصّ العبري في التوراة يشير إلى أن إبراهيم رحل من أور قاصديم، وهي منطقة يافع السفلى في جنوب اليمن، نحو مصر، ثمّ عاد من مصر إلى حبرون المعتبرة زوراً الخليل. ويلوم الباحث الفكر العربي الذي تجاهل إشارة الهمذاني والطبري إلى أنّ فراعنة مصر أيام يوسف وموسى هم اليمنيان الوليد بن ريان والوليد بن مصعب. وبالتالي، فإن اليهود هُم عشائر عربية يمنية نسبةً إلى النبي هود، الوارد ذكره في القرآن الكريم في عدّة سور، والذي كان من الأحقاف في شمالي حضرموت. كما أن قرية النبي هود وقبره يقعان في منطقة الحقف قرب حضرموت بين قرية هود وظفار، في حين أن منطقة اليهودية ما زالت موجودة عبر حصن اليهودية في مخلاف العرافة من بلاد خبان في جنوب ظفار في اليمن، وهي تسقط زوراً على جزء من الضفّة الغربية.
يهود اليمن
ويتساءل فرج الله صالح ديب كيف أصبحت الزجليات التي تتحدّث عن ترحال إبراهيم العبراني، وذرّيته وموسى الآرامي وشرائعه، كتاباً دينياً لليهود. وهو يرى أن هذه المسألة لا تحلّ إلّا بالجغرافيا اليمنية، وبالتالي، فإن قوم عاد في إرم ذات العماد هي مدينة في الحقاف، ومَن انتسب إليها أصبح آرامياً، ومَن انتسب إلى جماعة هود بات يهودياً، وفيما بطن يعقوب تكنّى بسارى، فان كلّ بدوي متنقّل سمي عبرانياً. كما لاحق الباحث أصل المفردات الواردة في التوراة، وأجرى مقارنةً اشتقاقية لأصولها اللغوية التي تمتدّ إلى أماكن وقبائل وجدت في اليمن، وليس في فلسطين المحتلة؛ اليمن الذي يعيش اليوم صراعاً أهليا واسع النطاق، وأحد مظاهره استهداف الحوثيين اليهود بعد الغزو الأمیركي للعراق عام 2003 بدءاً من محافظة صعدة، عبر شعارهم الشهیر الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على الیهود، النصر للإسلام، مع أن موقف أقلية اليهود في اليمن من الاحتلال الصهيوني يتعاطف مع فلسطين، ويؤمن بعضهم ببطلان قيام إسرائيل. وكان عدد اليهود المتبقين في اليمن لا يتجاوز أربعمائة شخص يقيمون في منطقتي ريدة في محافظة عمران، وبعض قرى محافظة صعدة، غير أن الحوثيين أقدموا على ترحيل يهود "آل سالم" من صعدة إلى صنعاء عام 2007. وفي عام 2014، تلقى يهود مديرية ريدة في عمران تحذيراتٍ بمغادرة المنطقة قبل اجتياح الحوثيين لها، لأنهم سيتعرضون لما تعرّض له اليهود في محافظة صعدة. وقد نتج عن ذلك فرار أكثريتهم نحو الكيان الصهيوني، فيما بقي عدد قليل جداً في مجمعٍ يخضع لحراسة مشددة في صنعاء.
وبالتالي، فإن سيطرة الحوثيين على صنعاء، وقبلها على صعدة، إضافة إلى سيطرة "القاعدة" على مناطق يمنية فيها آثار يهودية، والدمار الناجم عن تفاقم الحرب الأهلية في اليمن، وسياسة القاعدة التي تسعى، على الدوام، إلى محو الأماكن الأثرية التاريخية، سينجم عن هذا كله فقدان مقوم حيوي من المقومات التي تثبت وجود اليهود التاريخي في اليمن، كما أن دمار بنيتها الإنسانية والجغرافية سيعرقل عملية البحث العلمية الهادفة إلى تبيان الأصول الحقيقية للتوراة، خصوصاً مع فرار اليهود من وطنهم (اليمن)، وتوجههم إلى الإقامة في فلسطين التي لم يتم العثور على إثبات علمي تاريخي بأنها أرض الميعاد الحقيقية.
وصف غارودي أسطورة الأرض الموعودة بأنها ذريعة للاستعمار الذي مارسته إسرائيل تحت شعار ديني، وقال إن الأسطورة لا أساس دينيّاً لها، باعتراف الحاخام آلمر برغر، الرئيس السابق لرابطة من أجل اليهود. كما أكّد النتيجة ألبير دي بوري، أستاذ العهد القديم في كلّية اللاهوت البروتستانتية في جنيف في رسالته للدكتوراه حول الوعد الإلهي والخرافة الشعائرية في أدبيات يعقوب، وخلص فيها إلى أن تفسير الوعد الإلهي، بمعناه الكلاسيكي (تروّجه إسرائيل) جاء لإضفاء الشرعية على غزو فلسطين واحتلالها.
وإضافة إلى غارودي، ظهرت دراسات لعلماء موضوعيّين، مناقضة لما فسّر في الرواية التوراتية لتضاريس فلسطين المحتلّة وربطها بتاريخها ، واعتبار ذلك مجرّد صناعةٍ لاهوتية تخدم أغراضَ سياسة استعمار فلسطين، ومنهم عالم الآثار، كيث وايتلام، الذي عمل أستاذاً للدراسات الدينية في جامعة ستيرلينغ في اسكتلندا، وصاحب كتاب "اختلاق إسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني"، الذي صدر عام 1996. ويركّز وايتلام على البعد السياسي لمحاولات الطمس والتفسير المغلوط للتاريخ، حيث يذكر أن تاريخ إسرائيل المخترع في حقل الدراسات التوراتيّة كان وما زال صياغةً لغويةً وأيديولوجيةً لما كان ينبغي أن تكون عليه الممالك اليهودية. كما تمّ تناول الموضوع، في صحف أجنبية، منها مجلة التايم التي نشرت مقالاً بعنوان "هل التوراة حقيقة أم خيال" (5/12/95)، ومجلة لو نوفيل أوبسرفاتور الفرنسية، عندما نشرت في 24/7/2002 تحقيقاً: "الطوفان، إبراهيم، موسى، الخروج: التوراة، الحقيقة والأسطورة، الاكتشافات الجديدة لعلم الآثار"، كتبه فيكتور سيجيلمان، وجان لوك بوتيه، وصوفيا لوران. وأظهرت الاكتشافات الآثارية والتاريخية، على أيدي علماء آثار وتاريخ، منهم البروفيسور توماس طومسون في كتابه "السرد التوراتي وتاريخ فلسطين"، أن التاريخ المعروف لدى العالم المعاصر عن إسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم من صنع الخيال، وأن نتائج التنقيبات، في العقد الأخير، برهنت على أن التسلسل الزمني لتاريخ المنطقة يستند على مدّعياتٍ أدبيةٍ وسياسيةٍ وإيديولوجية، غرضها ترتيب العهد القديم وتأويله.
وكان علماء الآثار الإسرائيليون قد حاولوا عقودا أن يبرهنوا أن التوراة تبرّر عودة اليهود إلى أرضهم القديمة باستعمال الحفريات الأثرية، بغرض العثور على دليلٍ، يؤكّد حقّ اليهود في أرض الميعاد، كجزءٍ من عملية بناء الدولة. بيد أن نتائج الدراسات كانت عكسية، حيث بيّن علم الآثار ان "أرض الميعاد" أسطورة، وجرى إسقاط جغرافيّة التوراة على فلسطين. ومن بين باحثين ومؤرّخين شكّكوا في حكايات العهد القديم علماء آثار إسرائيليّون، منهم إسرائيل فنكلشتاين من جامعة تلّ أبيب، والمعروف "بأبي الآثار"، وقد نشر تقريراً في مجلة "جيروزاليم ريبورت" الإسرائيلية، أكّد فيه أن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية، تدعم بعض القصص الواردة في التوراة، ومنها قصص الخروج والتيه في سيناء، وانتصار يوشع بن نون على كنعان. كما شكّك في قصة داود التوراتية الأكثر ارتباطاً بالقدس بحسب معتقدات اليهود، وقال إنّه ليس من أساسٍ أو شاهد إثباتٍ تاريخي على وجود هذا الملك المحارب الذي اتخذ القدس عاصمة له، مؤكّداً أن شخصية داود زعيماً يحظى بتكريم كبير، لأنه وحّد مملكتَيْ يهودا وإسرائيل، مجرّد وهم وخيال لم يكن لها وجود حقيقي. وأكّد أن وجود باني الهيكل سليمان بن داود مشكوك فيه أيضاً.
وقال عالم الآثار في جامعة تل أبيب، البروفيسور زائيف هرتزوغ، الذي شارك في أعمال الحفر، إن كلّ الأحداث المذكورة في التوراة تتناقض تماماً مع ما توصّل إليه علماء الآثار. وتوصل أستاذ التاريخ في جامعة تلّ أبيب، شلومو ساند، في كتابه "متى وكيف تمّ اختراع الشعب اليهودي"، إلى أن الصهاينة الجدد، وليس اليهود، هم الذين اخترعوا "أرض إسرائيل" مصطلحا جيو - سياسيا عصريا. ونفى فيه وجود شعب يهودي، تمّ إرغامه على الخروج من البلاد إلى الشتات، وأكّد أن معظم يهود أوروبا الشرقية هُم من نسل مجتمعاتٍ وأفرادٍ تهوّدوا خلال مراحل تاريخية.
باحثون عرب
وعالج باحثون عرب موضوع ربط التوراة بأرض فلسطين، وعلاقة ذلك بالمشروع الصهيوني، ومنهم فاضل الربيعي الذي عمد إلى توضيح بعض المسائل التاريخية، مستنداً إلى خبرته في اللغات اليمنية القديمة وفي اللغات، العربية والعبرية القديمة والحديثة، مساهمة في تصحيح تاريخ فلسطين. وقد اعتبر أن القدس ليست أورشليم، وبيّن أن فلسطين المتخيّلة هي أرض التوراة في اليمن، في كتابيه "فلسطين المتخيّلة: أرض التوراة في اليمن القديم"، وكتاب "القدس ليست أورشليم". وتأتي كتابات الربيعي في سياق كتابات كمال الصليبي نفسها، والذي كان قد أشار في كتابه الأول "التوراة جاءت من جزيرة العرب" (1985) إلى المواقع الجغرافية في غرب الجزيرة العربية التي تنسجم مع أسماء المدن، كما جاءت في التوراة وليس في فلسطين. وعمد الصليبي إلى تصحيح أسماء أماكن ومعطيات واردة في كتابه.
وعالج فرج الله صالح ديب بدقّة تفصيلية هذا الموضوع، وهو يرى أن مشكلة الفكر الغربي أنه الوالد الشرعي للفكر الصهيوني، وبالتالي، فإن أصحابه أمضوا ثلاثة عقود في محاولة إخضاع الأبحاث الأثرية لمصلحة التفسير التوراتي، لكي ينفوا وجود الشعب الفلسطيني. وأورد ديب في كتابه "اليمن وأنبياء التوراة" أن إسقاط التسميات التوراتيّة بدأت في منتصف القرن التاسع عشر مع الرحّالة الأوروبيّين، لتنتقل بعدها إلى الوثائق السياسية والجغرافيا المدرسية، وأن علماء الآثار عندما لم يجدوا في فلسطين أحداثاً تاريخية، تنسجم مع ما ورد في التوراة، اعتبروا ما ورد فيها من قصص مجرّد أساطير وخرافات والأنبياء تأليفاً شعبياً. وذلك لأنهم لم يبحثوا في المكان الصحيح، لافتاً إلى أن النصّ العبري في التوراة يشير إلى أن إبراهيم رحل من أور قاصديم، وهي منطقة يافع السفلى في جنوب اليمن، نحو مصر، ثمّ عاد من مصر إلى حبرون المعتبرة زوراً الخليل. ويلوم الباحث الفكر العربي الذي تجاهل إشارة الهمذاني والطبري إلى أنّ فراعنة مصر أيام يوسف وموسى هم اليمنيان الوليد بن ريان والوليد بن مصعب. وبالتالي، فإن اليهود هُم عشائر عربية يمنية نسبةً إلى النبي هود، الوارد ذكره في القرآن الكريم في عدّة سور، والذي كان من الأحقاف في شمالي حضرموت. كما أن قرية النبي هود وقبره يقعان في منطقة الحقف قرب حضرموت بين قرية هود وظفار، في حين أن منطقة اليهودية ما زالت موجودة عبر حصن اليهودية في مخلاف العرافة من بلاد خبان في جنوب ظفار في اليمن، وهي تسقط زوراً على جزء من الضفّة الغربية.
يهود اليمن
ويتساءل فرج الله صالح ديب كيف أصبحت الزجليات التي تتحدّث عن ترحال إبراهيم العبراني، وذرّيته وموسى الآرامي وشرائعه، كتاباً دينياً لليهود. وهو يرى أن هذه المسألة لا تحلّ إلّا بالجغرافيا اليمنية، وبالتالي، فإن قوم عاد في إرم ذات العماد هي مدينة في الحقاف، ومَن انتسب إليها أصبح آرامياً، ومَن انتسب إلى جماعة هود بات يهودياً، وفيما بطن يعقوب تكنّى بسارى، فان كلّ بدوي متنقّل سمي عبرانياً. كما لاحق الباحث أصل المفردات الواردة في التوراة، وأجرى مقارنةً اشتقاقية لأصولها اللغوية التي تمتدّ إلى أماكن وقبائل وجدت في اليمن، وليس في فلسطين المحتلة؛ اليمن الذي يعيش اليوم صراعاً أهليا واسع النطاق، وأحد مظاهره استهداف الحوثيين اليهود بعد الغزو الأمیركي للعراق عام 2003 بدءاً من محافظة صعدة، عبر شعارهم الشهیر الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على الیهود، النصر للإسلام، مع أن موقف أقلية اليهود في اليمن من الاحتلال الصهيوني يتعاطف مع فلسطين، ويؤمن بعضهم ببطلان قيام إسرائيل. وكان عدد اليهود المتبقين في اليمن لا يتجاوز أربعمائة شخص يقيمون في منطقتي ريدة في محافظة عمران، وبعض قرى محافظة صعدة، غير أن الحوثيين أقدموا على ترحيل يهود "آل سالم" من صعدة إلى صنعاء عام 2007. وفي عام 2014، تلقى يهود مديرية ريدة في عمران تحذيراتٍ بمغادرة المنطقة قبل اجتياح الحوثيين لها، لأنهم سيتعرضون لما تعرّض له اليهود في محافظة صعدة. وقد نتج عن ذلك فرار أكثريتهم نحو الكيان الصهيوني، فيما بقي عدد قليل جداً في مجمعٍ يخضع لحراسة مشددة في صنعاء.
وبالتالي، فإن سيطرة الحوثيين على صنعاء، وقبلها على صعدة، إضافة إلى سيطرة "القاعدة" على مناطق يمنية فيها آثار يهودية، والدمار الناجم عن تفاقم الحرب الأهلية في اليمن، وسياسة القاعدة التي تسعى، على الدوام، إلى محو الأماكن الأثرية التاريخية، سينجم عن هذا كله فقدان مقوم حيوي من المقومات التي تثبت وجود اليهود التاريخي في اليمن، كما أن دمار بنيتها الإنسانية والجغرافية سيعرقل عملية البحث العلمية الهادفة إلى تبيان الأصول الحقيقية للتوراة، خصوصاً مع فرار اليهود من وطنهم (اليمن)، وتوجههم إلى الإقامة في فلسطين التي لم يتم العثور على إثبات علمي تاريخي بأنها أرض الميعاد الحقيقية.
محمود العلي
باحث فلسطيني، دكتوراه في علم الاجتماع. عمل استاذاً مساعداً في معهد العلوم الاجتماعية - الجامعة اللبنانية، وفي عدّة وظائف في "الأونروا"، باحث ومنسق مركز حقوق اللاجئين – عائدون.
محمود العلي
مقالات أخرى
03 يونيو 2019
01 مايو 2019
01 فبراير 2019