08 نوفمبر 2024
قطاع غزة في الصَّدْعِ الخليجي العربي
لا يبذل معسكر الارتكاس العربي الذي يوجه سهامه السامة نحو قطر هذه المرة جهداً، مهما قَلَّ، في محاولة إخفاء علائقه الإسرائيلية. المؤشرات على ذلك كثيرة، ولا تحتاج إلى براهين ساطعة، ويكفي أن فضيحة البريد الإلكتروني المُخْتَرَقِ للسفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، أثبتت أن الحملة ضد قطر، وضد روح التغيير العربية، وتركيا وإيران، والقوى العربية الفاعلة والمؤثرة، كالإخوان المسلمين، تَمَّتْ بتوافقٍ وتنسيقٍ مشترك مع منظمات أميركية صهيونية مرتبطة بإسرائيل مباشرة. أيضا، كثيرة هي المؤشرات التي تؤكد أن التغييرات في مؤسسة العرش وولاية العهد السعودية لها بُعْدٌ إسرائيلي، سواء لناحية الحديث عن تطبيع رسمي سعودي-إسرائيلي قادم تحت ولي العهد، محمد بن سلمان، أم لناحية ربط تنازل نظام عبد الفتاح السيسي المريب عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وتدويل المياه الإقليمية المصرية، أو قل العربية. ولا يمكن إغفال زيارات الجنرال السعودي المتقاعد، أنور عشقي، المتكرّرة إلى الدولة العبرية، بذريعة المشاركة في "مؤتمرات أكاديمية"، على الرغم من أن السعودية لا تعترف بحرية إعلام أو استقلال أكاديمي، دع عنك كفالة حرية السفر لمواطنيها لدولٍ الأصل أنها معادية، كإسرائيل، وما حظر سفر المواطنين السعوديين إلى قطر أخيراً إلا دليل على ذلك. كما لا يمكن إغفال الحديث الأميركي- الإسرائيلي- المصري، المدعوم سعوديا وإماراتياً تحديداً، عن "صفقة القرن"، حسب تعبير السيسي نفسه، والتي تَسْتَبْطِنُ تصفية إقليمية للقضية الفلسطينية مقابل حلف أميركي- إسرائيلي- بعض عربي ضد إيران، وما يوصف بـ"الإسلام السياسي"، وقوى المقاومة والتغيير الديمقراطي في المنطقة.
ما سبق تأطير عام لسياق الصَّدْعِ الخليجي العربي الذي هَنْدَسَهُ معسكر الثورات العربية المضادة بضوء أخضر من الرئيس الأميركي، نفسه، دونالد ترامب، كما تباهى هو بذلك، وبدعم من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي كشف، غَيَرَ مَرَّةٍ، عن اتصالاتٍ سِرِّيَةٍ بين دولته و"الدول العربية السُنِّيَةِ المعتدلة"، على أساس أنها تشاطر إسرائيل الرؤية بأن الخطر الحقيقي في الإقليم لا يتأتى من الأخيرة، وإنما من إيران و"الإسلام الأصولي المتطرّف". ولكن أين قطاع غزة من كل ذلك؟
في تقريرين متزامنين، نشرا قبل أيام، كشف الصحافي البريطاني المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، ورئيس تحرير موقع "ميدل إيست آي"، ديفيد هيرست، ومحلل الشؤون العربية في
صحيفة هآرتس، تسفي برئيل، عن جهود تبذلها مصر والسعودية والإمارات، بموافقة إسرائيلية، ولا شك بمباركة أميركية، لإعادة القيادي الفتحاوي المفصول، محمد دحلان، إلى الساحة الفلسطينية عبر بوابة قطاع غزة الذي يئن، للعام الحادي عشر على التوالي، تحت حصار وحشي تفرضه إسرائيل ومصر.
حسب تقرير برئيل: "خطة دحلان: بدون حماس وبدون عباس"، فإن ثمة "إجراءات معقدة" يتم "طبخها" بين الإمارات، مصر، غزة، والقدس، الهدف منها تنصيب دحلان، خصم الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، رئيساً لحكومة فلسطينية في قطاع غزة، في مقابل رفع جُلّ الحصار الإسرائيلي-المصري عن القطاع، وبناء محطة كهرباء جديدة في رفح المصرية بتمويل إماراتي، وإنشاء ميناء بحري لاحقاً. ويرى برئيل أنه في حال نجاح هذه الخطة، سيخرج عباس تدريجيا من المشهد الفلسطيني، ليحل دحلان محله، سواء عبر انتخاباتٍ أو من خلال اعتراف فعلي بقيادته، وهو الأمر الذي لن تتردّد مصر والإمارات بالدفع نحوه، على أساس قرب دحلان منهما. ويشير برئيل إلى أن بدء مصر تزويد قطاع غزة بالسولار بسعر السوق، بهدف تشغيل محطة الكهرباء الوحيدة في القطاع، من دون الضرائب التي تفرضها السلطة الفلسطينية، فضلا عن تخصيص الإمارات 150 مليون دولار، لإقامة محطة لتوليد الكهرباء في الجانب المصري من رفح، والفتح المصري المفترض تدريجيا، في الأسابيع والأشهر المقبلة، معبر رفح من أجل إدخال البضائع وسفر الفلسطينيين، كلها محفزات لحركة حماس للقبول بعودة دحلان إلى المشهد الفلسطيني عبر غزة. يجدر التذكير أن عباس كان قد أمر بتشديد الحصار على قطاع غزة بغرض الضغط على "حماس" شعبياً، ومن ذلك توقف السلطة عن دفع ثمن الكهرباء التي تزود بها إسرائيل القطاع، وهو ما أدى إلى تقليص ساعات توزيع الكهرباء فيه إلى ساعتين في اليوم فحسب، على الرغم من أن الأموال التي تدفع للكهرباء مصدرها غزة نفسها، ولكنها تدفع عبر السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وعلى الرغم من تأكيد برئيل أن الخطة المقترحة تبقي على سيطرة "حماس" على الأمن في القطاع، وتتغاضى عن سلاحها، فإن إسرائيل لن تعارضها، ذلك أنها ستوجد شريكا مقبولا، بل ومرغوبا لها: دحلان، داخل قطاع غزة، خصوصا أن ذلك سيكرّس الفصل العملي بين الضفة الغربية والقطاع، وبالتالي سيعفي إسرائيل من تقديم أي تنازلاتٍ في المفاوضات مع الجانب الفلسطيني المتشرذم. أما بالنسبة للإمارات ومصر، فبالإضافة إلى مصالح أخرى لهما من تحقيق مثل هذه المعادلة في القطاع، فإنه سيضمن لهما، حسب برئيل، تحييد التأثير القطري والتركي فيه.
وجاء في تقرير هيرست "لماذا لم تدرج السعودية حماس في قائمة مطالبها لقطر؟"، على الرغم من أن وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، سبق أن وصفها "إرهابية" في سياق تحريضه على قطر، إن دحلان قدم عرضاً "سامياً ومغرياً في الآن نفسه" في لقائه مع زعيم "حماس" في قطاع غزة، يحيى السنوار، مطلع يونيو/ حزيران الجاري في القاهرة. وحسب هيرست، قدّم دحلان خطة شاملة للسنوار، خلاصتها: "اسمحوا لي بالعودة إلى غزة، وأنا أتعهد بتخفيف الحصار المفروض عليكم من الجانب المصري من الحدود". ويورد هيرست أن السنوار قبل ضمنا الصفقة، وذلك عبر مصافحته دحلان، ولم تمض أيام حتى كانت شاحنات الوقود المصري تعبر معبر رفح باتجاه غزة. وأخطر ما في تقرير هيرست أن السنوار توافق ضمنا مع دحلان من دون العودة إلى مؤسسات حركة حماس، ولا إلى رئيس مكتبها السياسي الجديد المقيم في القطاع، إسماعيل هنية، والذي يؤكد التقرير أنه لم يكن على علم بلقاء السنوار- دحلان، ولا بالاتفاق المفترض بينهما. وينقل تقرير هيرست عن قياديين في "حماس" أن هنية، وقياديين آخرين في الحركة، استاءوا من ذلك، خصوصا أن مساعي دحلان هذه لا يمكن فصلها عن مساعٍ إماراتية لتقليص دور تركيا وقطر في قطاع غزة، وإحداث شرخٍ وانشقاقٍ داخل "حماس" نفسها. ولا شك أن التوافق الضمني المفترض بين السنوار- دحلان، سيشكل حرجا كبيرا لحركة حماس مع كل من قطر وتركيا، إن صَحَ، ويبدو أن ثمة شواهد تعضده، خصوصا مع إعادة تأكيد قادة كبار في الحركة على تقديرهم الدعم القطري لها، وتليين الخطاب نحو إيران، فيما يبدو وكأنها مساع من قيادة "حماس" العليا لتنويع خياراتها وإعادة التوازن إلى علاقاتها الإقليمية، والتي تدهورت بعد الثورة السورية عام 2011.
لا يمكن فصل كل ما سبق عن مساعي محور الثورات العربية المضادة، بدعم أميركي-إسرائيلي، لإعادة تشكيل المنطقة وترتيب أوراقها، ومحمد دحلان ليس أداة إماراتية- مصرية فحسب، بل ثمة شكوكٌ كثيرة تُثار عن ارتباطاته بأجهزة استخباراتية إقليمية ودولية، كما أن تواتر المعلومات حول تورطه في عدد من ساحات الحرائق الإقليمية، كما في ليبيا ومصر، بل وحتى المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، صيف العام الماضي، تؤكد أن وراء الأكمة ما وراءها في محاولة إعادة إنتاجه فلسطينيا. ولا ينبغي أن يُنسى أن محمد دحلان كان السبب الأساس لسيطرة حركة حماس على قطاع غزة، إذ كان هو أداة حركة فتح في محاولة الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، والتي فازت فيها "حماس"، وكان جهاز الأمن الوقائي الذي ترأسه في الماضي، وفرق الموت التي شكلها، رأسي حربة سفك
الدماء في القطاع، حتى تمكنت "حماس" وأجهزتها الأمنية والعسكرية من إخماد تمرّده عام 2007، ليبدأ الانقسام الفلسطيني مذ ذاك الحين جرّاء إدارة عباس الكارثية هذا الملف.
مفهوم أن غالبية سكان قطاع غزة، والذين يقاربون المليونين، يبحثون عن حياة أفضل بعد أكثر من إحدى عشرة سنة عجاف من الحصار والحروب والقتل والدمار. ومفهومٌ أن يبحث بعض قادة "حماس" في غزة عن مخرجٍ من ورطة إدارة القطاع وشؤونه، عبر صفقةٍ مع دحلان أو غيره، خصوصا أن عباس يتواطأ ضد نفسه، بتشديد الحصار على القطاع وفسح المجال لخصمه العنيد، دحلان، لتقديم نفسه منقذا. ولكن ما هو غير مفهوم أن تبلغ السذاجة بقياديين في الحركة في القطاع إلى الهيام مديحا بالرجل و"وطنيته"، متغاضين عن تاريخه، بل وحاضره الدموي والمؤامراتي. بل لم يتردد بعضهم في إسباغ بعض المشروعية على أفعاله التي كادوا يقولون إنها كانت اجتهادا وإنه أخطأ غير قاصد! محاولات الدفع بدحلان لا تهدف إلى رفع الوطأة عن قطاع غزة وأهله المنكوبين، بل إنها مقدّماتٌ لإيقاع كوارث في القطاع وفلسطين، بل وبالمنطقة ككل، وإعادة صياغتها ضمن حلفٍ جديد تكون إسرائيل رأس هرمه، في حين يكون محور الارتكاس العربي مجرّد قواعد إسناد له على جثة فلسطين، وجثثنا جميعاً. إن حدث ذلك، لا قدّر الله، فإنه لا يمكن حينها أن نعذر بعض المتوهمين بدحلان منقذا بالاجتهاد الخاطئ، بل إنها ستكون الحماقة والبلاهة فحسب، وهم قطعا، وبلا شك، سيجدون أنفسهم آجلا تحت مطرقة سحقه، إن تمكّن. نعم، خيارات غزة محدودة وصعبة، وحرب إسرائيلية مدمرة قادمة، ضمن معادلة إقليمية عربية، قد تكون مسألة وقت، ولكن ملفا بهذه الخطورة وهذا التعقيد لا يُقارَبُ بخفةٍ ورعونة كهذه، ولا يُنظر له فقط بعين داخلية مستغرقة بالأوضاع المعيشية، بل لابد من أخذه ضمن سياقيه، الإقليمي والدولي، فسفك الدماء، للأسف ثابتٌ في الحالتين، والخطورة الأكبر فيما سيلي من كوارث.
ما سبق تأطير عام لسياق الصَّدْعِ الخليجي العربي الذي هَنْدَسَهُ معسكر الثورات العربية المضادة بضوء أخضر من الرئيس الأميركي، نفسه، دونالد ترامب، كما تباهى هو بذلك، وبدعم من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي كشف، غَيَرَ مَرَّةٍ، عن اتصالاتٍ سِرِّيَةٍ بين دولته و"الدول العربية السُنِّيَةِ المعتدلة"، على أساس أنها تشاطر إسرائيل الرؤية بأن الخطر الحقيقي في الإقليم لا يتأتى من الأخيرة، وإنما من إيران و"الإسلام الأصولي المتطرّف". ولكن أين قطاع غزة من كل ذلك؟
في تقريرين متزامنين، نشرا قبل أيام، كشف الصحافي البريطاني المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، ورئيس تحرير موقع "ميدل إيست آي"، ديفيد هيرست، ومحلل الشؤون العربية في
حسب تقرير برئيل: "خطة دحلان: بدون حماس وبدون عباس"، فإن ثمة "إجراءات معقدة" يتم "طبخها" بين الإمارات، مصر، غزة، والقدس، الهدف منها تنصيب دحلان، خصم الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، رئيساً لحكومة فلسطينية في قطاع غزة، في مقابل رفع جُلّ الحصار الإسرائيلي-المصري عن القطاع، وبناء محطة كهرباء جديدة في رفح المصرية بتمويل إماراتي، وإنشاء ميناء بحري لاحقاً. ويرى برئيل أنه في حال نجاح هذه الخطة، سيخرج عباس تدريجيا من المشهد الفلسطيني، ليحل دحلان محله، سواء عبر انتخاباتٍ أو من خلال اعتراف فعلي بقيادته، وهو الأمر الذي لن تتردّد مصر والإمارات بالدفع نحوه، على أساس قرب دحلان منهما. ويشير برئيل إلى أن بدء مصر تزويد قطاع غزة بالسولار بسعر السوق، بهدف تشغيل محطة الكهرباء الوحيدة في القطاع، من دون الضرائب التي تفرضها السلطة الفلسطينية، فضلا عن تخصيص الإمارات 150 مليون دولار، لإقامة محطة لتوليد الكهرباء في الجانب المصري من رفح، والفتح المصري المفترض تدريجيا، في الأسابيع والأشهر المقبلة، معبر رفح من أجل إدخال البضائع وسفر الفلسطينيين، كلها محفزات لحركة حماس للقبول بعودة دحلان إلى المشهد الفلسطيني عبر غزة. يجدر التذكير أن عباس كان قد أمر بتشديد الحصار على قطاع غزة بغرض الضغط على "حماس" شعبياً، ومن ذلك توقف السلطة عن دفع ثمن الكهرباء التي تزود بها إسرائيل القطاع، وهو ما أدى إلى تقليص ساعات توزيع الكهرباء فيه إلى ساعتين في اليوم فحسب، على الرغم من أن الأموال التي تدفع للكهرباء مصدرها غزة نفسها، ولكنها تدفع عبر السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وعلى الرغم من تأكيد برئيل أن الخطة المقترحة تبقي على سيطرة "حماس" على الأمن في القطاع، وتتغاضى عن سلاحها، فإن إسرائيل لن تعارضها، ذلك أنها ستوجد شريكا مقبولا، بل ومرغوبا لها: دحلان، داخل قطاع غزة، خصوصا أن ذلك سيكرّس الفصل العملي بين الضفة الغربية والقطاع، وبالتالي سيعفي إسرائيل من تقديم أي تنازلاتٍ في المفاوضات مع الجانب الفلسطيني المتشرذم. أما بالنسبة للإمارات ومصر، فبالإضافة إلى مصالح أخرى لهما من تحقيق مثل هذه المعادلة في القطاع، فإنه سيضمن لهما، حسب برئيل، تحييد التأثير القطري والتركي فيه.
وجاء في تقرير هيرست "لماذا لم تدرج السعودية حماس في قائمة مطالبها لقطر؟"، على الرغم من أن وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، سبق أن وصفها "إرهابية" في سياق تحريضه على قطر، إن دحلان قدم عرضاً "سامياً ومغرياً في الآن نفسه" في لقائه مع زعيم "حماس" في قطاع غزة، يحيى السنوار، مطلع يونيو/ حزيران الجاري في القاهرة. وحسب هيرست، قدّم دحلان خطة شاملة للسنوار، خلاصتها: "اسمحوا لي بالعودة إلى غزة، وأنا أتعهد بتخفيف الحصار المفروض عليكم من الجانب المصري من الحدود". ويورد هيرست أن السنوار قبل ضمنا الصفقة، وذلك عبر مصافحته دحلان، ولم تمض أيام حتى كانت شاحنات الوقود المصري تعبر معبر رفح باتجاه غزة. وأخطر ما في تقرير هيرست أن السنوار توافق ضمنا مع دحلان من دون العودة إلى مؤسسات حركة حماس، ولا إلى رئيس مكتبها السياسي الجديد المقيم في القطاع، إسماعيل هنية، والذي يؤكد التقرير أنه لم يكن على علم بلقاء السنوار- دحلان، ولا بالاتفاق المفترض بينهما. وينقل تقرير هيرست عن قياديين في "حماس" أن هنية، وقياديين آخرين في الحركة، استاءوا من ذلك، خصوصا أن مساعي دحلان هذه لا يمكن فصلها عن مساعٍ إماراتية لتقليص دور تركيا وقطر في قطاع غزة، وإحداث شرخٍ وانشقاقٍ داخل "حماس" نفسها. ولا شك أن التوافق الضمني المفترض بين السنوار- دحلان، سيشكل حرجا كبيرا لحركة حماس مع كل من قطر وتركيا، إن صَحَ، ويبدو أن ثمة شواهد تعضده، خصوصا مع إعادة تأكيد قادة كبار في الحركة على تقديرهم الدعم القطري لها، وتليين الخطاب نحو إيران، فيما يبدو وكأنها مساع من قيادة "حماس" العليا لتنويع خياراتها وإعادة التوازن إلى علاقاتها الإقليمية، والتي تدهورت بعد الثورة السورية عام 2011.
لا يمكن فصل كل ما سبق عن مساعي محور الثورات العربية المضادة، بدعم أميركي-إسرائيلي، لإعادة تشكيل المنطقة وترتيب أوراقها، ومحمد دحلان ليس أداة إماراتية- مصرية فحسب، بل ثمة شكوكٌ كثيرة تُثار عن ارتباطاته بأجهزة استخباراتية إقليمية ودولية، كما أن تواتر المعلومات حول تورطه في عدد من ساحات الحرائق الإقليمية، كما في ليبيا ومصر، بل وحتى المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، صيف العام الماضي، تؤكد أن وراء الأكمة ما وراءها في محاولة إعادة إنتاجه فلسطينيا. ولا ينبغي أن يُنسى أن محمد دحلان كان السبب الأساس لسيطرة حركة حماس على قطاع غزة، إذ كان هو أداة حركة فتح في محاولة الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، والتي فازت فيها "حماس"، وكان جهاز الأمن الوقائي الذي ترأسه في الماضي، وفرق الموت التي شكلها، رأسي حربة سفك
مفهوم أن غالبية سكان قطاع غزة، والذين يقاربون المليونين، يبحثون عن حياة أفضل بعد أكثر من إحدى عشرة سنة عجاف من الحصار والحروب والقتل والدمار. ومفهومٌ أن يبحث بعض قادة "حماس" في غزة عن مخرجٍ من ورطة إدارة القطاع وشؤونه، عبر صفقةٍ مع دحلان أو غيره، خصوصا أن عباس يتواطأ ضد نفسه، بتشديد الحصار على القطاع وفسح المجال لخصمه العنيد، دحلان، لتقديم نفسه منقذا. ولكن ما هو غير مفهوم أن تبلغ السذاجة بقياديين في الحركة في القطاع إلى الهيام مديحا بالرجل و"وطنيته"، متغاضين عن تاريخه، بل وحاضره الدموي والمؤامراتي. بل لم يتردد بعضهم في إسباغ بعض المشروعية على أفعاله التي كادوا يقولون إنها كانت اجتهادا وإنه أخطأ غير قاصد! محاولات الدفع بدحلان لا تهدف إلى رفع الوطأة عن قطاع غزة وأهله المنكوبين، بل إنها مقدّماتٌ لإيقاع كوارث في القطاع وفلسطين، بل وبالمنطقة ككل، وإعادة صياغتها ضمن حلفٍ جديد تكون إسرائيل رأس هرمه، في حين يكون محور الارتكاس العربي مجرّد قواعد إسناد له على جثة فلسطين، وجثثنا جميعاً. إن حدث ذلك، لا قدّر الله، فإنه لا يمكن حينها أن نعذر بعض المتوهمين بدحلان منقذا بالاجتهاد الخاطئ، بل إنها ستكون الحماقة والبلاهة فحسب، وهم قطعا، وبلا شك، سيجدون أنفسهم آجلا تحت مطرقة سحقه، إن تمكّن. نعم، خيارات غزة محدودة وصعبة، وحرب إسرائيلية مدمرة قادمة، ضمن معادلة إقليمية عربية، قد تكون مسألة وقت، ولكن ملفا بهذه الخطورة وهذا التعقيد لا يُقارَبُ بخفةٍ ورعونة كهذه، ولا يُنظر له فقط بعين داخلية مستغرقة بالأوضاع المعيشية، بل لابد من أخذه ضمن سياقيه، الإقليمي والدولي، فسفك الدماء، للأسف ثابتٌ في الحالتين، والخطورة الأكبر فيما سيلي من كوارث.