09 يونيو 2023
عودة إلى تجربة النموذج الاشتراكي الروسي
أثار رغبتي، وشجوني في الوقت نفسه، ما كتبه صديقي محمد كامل خطيب عن تجربة الاشتراكية السوفييتية، وأعادني ذلك عقوداً عدة إلى الوراء. وأقول مازحًا، إنني سأدافع عن الماركسية في وجه تطبيقها السوفييتي على طريقة الإسلاميين بالقول "التجربة السوفييتية لا تمثل الشيوعية"، بل كانت رأسمالية دولةٍ من طراز خاص. وهنا، أتبنى رأي سمير أمين ومدرسة التبعية. ولن أدرس هنا التجربة بقدر ما هو تذكّر عاجل لبعض جوانبها.
لم يؤلف تراث ماركس الفكري، ومعه أنجلز وبقية المفكرين القدامى، بنية متكاملةً تنفيذيةً لنظام اشتراكي متخيّل، بل طرح ماركس مقولاتٍ وأفكاراً ونظريات عدة لم يشرحها شرحًا كافيًا، وترك أسئلةً كثيرة من دون أجوبة، وهذا منطقي، لكن التجربة الروسية المعروفة بالسوفييتية في بناء الاشتراكية هي التي قدمت أجوبة عملية تفصيلية لمقولات ماركس، التي كان لها أن تتخذ صوراً أخريات متباينات عند تطبيقها.
الابتلاء الذي وقعت به الماركسية أن الشيوعيين، وكنت في صفوفهم، حوّلوا الماركسية إلى دين مكتمل كامل الأوصاف، وكان الشيوعيون يتغنون بقول مأثور للينين إن منهج ماركس كلي الجبروت لأنه صحيح، ولم يتعاملوا مع الماركسية بوصفها منتجًا تاريخيًا كوّن فتحًا عظيمًا في تحليل الرأسمالية والتحليل المادي للتاريخ، وأنه قابل للتطور والاستكمال والتبدل والاغتناء بأعمال الحياة وتجاربها.
بدأت بذور الاستبداد مع أفكار ماركس التي تشكلت في عصر ثوري عاصف في منتصف القرن التاسع عشر، فقد نظّر ماركس، وبعده لينين، أن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية والشيوعية لا يجري على نحو تدريجي تطوري ضمن النظام القديم (Evolution)، بل بطريق الثورة (Revolution)، العنيفة، وانتزاع السلطة بقوة السلاح فحسب، لأن القوى الرأسمالية المسيطرة لن تسمح بالانتقال السلمي التدريجي إلى نظام بديل، يلغي علاقات الإنتاج الرأسمالية ذاتها. وقد بالغ ماوتسي تونغ بهذه المقولة، عندما افترض أن الصراع الطبقي يشتد كلما تقدم بناء النظام الاشتراكي، وكلفت هذه المقولة الشعب الصيني ملايين الضحايا، بينما عارضتها من قبل أحزاب الأممية الشيوعية الثانية التي أسسها ماركس، واتخذت في ما بعد شكل الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية في أوروبا. وحينئذٍ، أسس لينين الأممية الشيوعية الثالثة، بينما أسس تروتسكي، بعد أن طرده ستالين، الأممية الرابعة، وهي الأكثر راديكالية.
بدأ التنظير للاستبداد مع البيان الشيوعي ونظرية "دكتاتورية البروليتاريا"، أي أن قيادة عملية الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية تحصل بقيادة الطبقة الأكثر ثورية، "بقيادة الطبقة العاملة التي لا تخسر في الثورة إلا قيودها"، وكان يقصد بالطبقة العاملة عمال المصانع، أصحاب الياقات الزرقاوات، تحديدًا ليس غيرهم، أي لم تشمل العاملين بأجرٍ جميعهم، ونظّرت الأحزاب الشيوعية ضد البيرقراطية من أصحاب الياقات البيضاوات، وعدّتهم أُجَرَاء للطبقة الحاكمة، ثم اختزلت السلطة الشيوعية المنتصرة في روسيا الطبقة العاملة بالحزب الشيوعي، ثم اختزلت الحزب بالقيادة، واختزلت القيادة بالأمين العام، فنشأ نظام دكتاتوري مكتمل الأوصاف.
بنيت رؤية ماركس على أن الثورة الشيوعية يجب أن تقوم في أكثر بلدان العالم تقدمًا، أي في بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وأن تقوم الثورة في أغلبية هذه البلدان دفعة واحدة، لأن البلدان الرأسمالية الأخرى ستهجم على الثورة الوليدة في بلدٍ واحد للقضاء عليها. لكن، بسبب غياب الشرط الثوري واستعجال لينين، فقد "طوّر" لينين نظرية ماركس أن الثورة يمكن أن تقوم بأضعف حلقة في سلسلة النظام الرأسمالي العالمي، كي تقدح شرارة الثورة في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدمًا، لكن الثورة الروسية قامت، ولم تستطع قدح شرارة الثورة في بلدان رأسمالية متقدمة، فأصبحت الثورة اليتيمة، وما لبثت أن هاجمتها جيوش من 15 دولة من دول أوروبا العجوز، كي لا يتحول شبح الشيوعية الذي كان يحوم فوق أوروبا، بحسب البيان الشيوعي 1848، إلى حقيقةٍ على الأرض الروسية، بما يحمله من إمكان التمدّد في أراضيهم.
الأساس العلمي، الذي وضعته الماركسية للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وعدّته أمرًا حتميًا، هو أن علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة على التملك الخاص أصبحت تتناقض مع عملية الإنتاج، التي تتخذ طابعًا اجتماعيًا، أي أصبح التناقض بين الطابعين، الاجتماعي للإنتاج والفردي الرأسمالي لتملك وسائل الإنتاج، وهذا التناقض أخذ يحدّ من قدرة قوى الإنتاج ووسائله على التقدّم، وأصبح لا بد من تمزيق الثوب الرأسمالي الضيّق، واستبداله بثوب اشتراكيّ يقوم على الطابع الاجتماعي للملكية، كي يتوافق الطابع الاجتماعي للإنتاج مع الطابع الاجتماعي لتملك وسائل الإنتاج، فتزدهر قوى الإنتاج مقدمةً للبشر مزيدًا من الرفاهية المادية والروحية والاجتماعية. ولكن الشيوعية والأحزاب الشيوعية في ممارستها العملية ركزت على جانب العدالة في توزيع الدخل على حساب الاهتمام بالقدرة الإنتاجية، وأعطته صورة مساواة ظالمةٍ تساوي المجدّ بالكسول، فقتلت الحافز على الإنتاج، وأهملت الجوانب المادية والعلمية والتقنية لتقدّم قوى الإنتاج، بل شكلّت الإدارات الشيوعية فكرةً بائسة عن التكنولوجيا، ما أدى إلى تفوق الرأسمالية على الشيوعية، وهذا جعل الاشتراكية أشبه بمساواة وعدالة في توزيع الفقر.
الأمر الآخر أن فكرة ماركس كانت تقوم على اضمحلال الدولة، هذا الغول الذي يلتهم المجتمع، وأن تتحوّل البلاد إلى إدارة ذاتية شعبية، لم يشرحها ماركس كفايةً، ولم يشرح كفاية كثيرًا من جوانب بناء النظام الاشتراكي والشيوعي. ومن هنا، طرح لينين شعار "حكم السوفييتات"، أي حكم مجالس الشعب، ولكن تاريخ روسيا الاستبدادي وهجوم دول أوروبا العجوز على الثورة الوليدة لوأدها، وفشل قيام ثورات أخرى في أوروبا وفشل الثورة الألمانية، قد حوّل السلطة الشعبية إلى سلطة مستبدة، وضع بذورها لينين، واستكمل بناءها الجورجي ستالين، ولعب صعود الفاشية والنازية دورًا كبيرًا في ترسيخ الطابع الاستبدادي للسلطة الشيوعية الوليدة التي هاجمتها جيوش 15 دولة أوروبية للقضاء عليها (وهذا ما توقعه ماركس) من دون أن يتمكنوا من القضاء عليها، غير أنهم رسّخوا طابعها الأمني العسكري القمعي، فاتسمت السلطة الثورية الوليدة بالقمع ومصادرة الحريات العامة، إذ حل الحزب، كما ذكرنا، تحت مسمى (الطليعة الثورية) محل الطبقة العاملة والسوفييتات والشعب، وتحول الحزب إلى مرتعٍ للانتهازية، وحلت القيادة محل الحزب، وحل الزعيم الأكبر محل القيادة، وأدواته أجهزة السلطة السرية.
أي بدلًا من اضمحلال الدولة، تغوّلت الدولة والتهمت المجتمع والاقتصاد والناس والحريات وكل شيء، وكوّنت سلطةً مركزيةً بجهازٍ ضخمٍ جدًا، تصعب إدارته، استطاع في أوقات الحروب (الحرب الأهلية، حرب بناء الدولة، الحرب العالمية الثانية) أن ينجز الكثير، بل حقق معجزاتٍ، مثل بناء الصناعة والانتصار على النازية والصعود إلى الفضاء والتقدم العلمي الهائل الذي لم ينتقل إلى الإنتاج، ولم ينتفعوا به، وأصبحت الحكومة والسلطة، في ما بعد، جهازًا ثقيلًا بطيئًا متهالكًا رجعيًا، يقمع أي أفكار جديدةٍ لتنظيم البلاد والاقتصاد والحياة، في مقابل نظام رأسمالي دينامي، فربح الأخير وخسر الأول.
ببساطة، قتل النموذج الشيوعي الروسي المجتمع، ومنع العقول من التفكير، واستبدل بها عقول عدد محدود من البيروقراطية، عطّل التطور، فهدر طاقاتٍ عظيمة، والأهم أنه قدّم نموذجًا فاشلًا للتجربة الاشتراكية/ الشيوعية. لكن؛ لم يكن مآل النموذج الروسي للشيوعية هو الإمكان الوحيد، لكنه هو الذي تحقّق، ولم يكن الاستبداد الذي رافق التجربة نتيجة المنشأ الروسي، وهجوم دول أوروبا العجوز كافيًا للحكم على الاشتراكية والشيوعية، بوصفها أفقًا تاريخيًا، فقد بدأت الثورة الفرنسية عهدها دمويًا، وانتهت باستبداد، لكنها أطلقت المجتمع الحديث، وقيم المجتمع الحديث، وأسّست له، وأسّست للحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية. وإن كان لم يقدر للتجربة الروسية أن تستمر لتتحول بمثل ما حدث في الثورة الفرنسية، ولم يقدّم النموذج الصيني مثالًا أفضل من حيث الحريات العامة، لكنه تحوّل إلى استبداد رأسمالي بثوبٍ شيوعي، مع نجاحاتٍ اقتصادية هائلة. لكن، من جهة أخرى، أدّى قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية، وقيام الاتحاد السوفييتي، ومن ثم المعسكر الاشتراكي، دورًا كبيرًا في دفع الرأسمالية إلى أن تقدّم تنازلاتٍ كبيرة للمشتغلين، لمنع ذهابهم إلى الأحزاب الشيوعية، وكان الفضل لقيام النظام الاشتراكي السوفييتي والحركة الشيوعية العالمية، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، في توسّع نشوء شبكات الضمان الاجتماعي، ونمو النقابات، وتحسين شروط العمل، وفي مستوى العالم الثالث نالت هذه الدول حرياتها، وحصلت على معاملةٍ أفضل من الدول الغربية، بسبب وجود العدو الشيوعي الذي يطرح نفسه بديلًا من الرأسمالية. مثلا، لولا وجود المعسكر الاشتراكي، لما استطاعت الدول المصدّرة للنفط أن تؤمّم قطاع النفط وتستعيده من يد الشركات الرأسمالية الغربية، ولم يكن لأسعار النفط أن ترتفع، وتعود عوائده على بلدانه المنتجة بفوائد هائلة، ومنها دول الخليج العربي وإيران والعراق والجزائر وليبيا، وهذا مثال كبير فحسب.
في النهاية؛ تبقى قضية العدالة الاجتماعية مطروحةً على جدول أعمال البشرية، وقد وضعتها الثورة الروسية وما تلاها من كفاح بشري على طاولة وجدول أعمال البشرية بقوة غير مسبوقة، على الرغم من التطورات السلبية التي حصلت منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقد قضمت كثيرًا من حقوق الناس، ومن شبكة العدالة الاجتماعية، ومن قوة المجتمع في وجه رأس المال.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، سيبقى التناقض الرئيسي الذي يحكم المجتمعات، ويحكم صراعاتها على المدى الطويل هو الصراع بين الأجر، أي قوة العمل، والربح أي رأس المال، وبمعنى آخر: الأجر مقابل الربح، فالأجر حق، بينما الربح استيلاء على ما أنتجه آخرون، وستبقى الماركسية نظرية قوية لم يتم تخطيها بعد، وإن كانت أفكار منها كثيرة قد شاخت مثلما تشيخ أي أفكار، فما زالت أطياف ماركس تحوم فوق البلدان كلها.
لم يؤلف تراث ماركس الفكري، ومعه أنجلز وبقية المفكرين القدامى، بنية متكاملةً تنفيذيةً لنظام اشتراكي متخيّل، بل طرح ماركس مقولاتٍ وأفكاراً ونظريات عدة لم يشرحها شرحًا كافيًا، وترك أسئلةً كثيرة من دون أجوبة، وهذا منطقي، لكن التجربة الروسية المعروفة بالسوفييتية في بناء الاشتراكية هي التي قدمت أجوبة عملية تفصيلية لمقولات ماركس، التي كان لها أن تتخذ صوراً أخريات متباينات عند تطبيقها.
الابتلاء الذي وقعت به الماركسية أن الشيوعيين، وكنت في صفوفهم، حوّلوا الماركسية إلى دين مكتمل كامل الأوصاف، وكان الشيوعيون يتغنون بقول مأثور للينين إن منهج ماركس كلي الجبروت لأنه صحيح، ولم يتعاملوا مع الماركسية بوصفها منتجًا تاريخيًا كوّن فتحًا عظيمًا في تحليل الرأسمالية والتحليل المادي للتاريخ، وأنه قابل للتطور والاستكمال والتبدل والاغتناء بأعمال الحياة وتجاربها.
بدأت بذور الاستبداد مع أفكار ماركس التي تشكلت في عصر ثوري عاصف في منتصف القرن التاسع عشر، فقد نظّر ماركس، وبعده لينين، أن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية والشيوعية لا يجري على نحو تدريجي تطوري ضمن النظام القديم (Evolution)، بل بطريق الثورة (Revolution)، العنيفة، وانتزاع السلطة بقوة السلاح فحسب، لأن القوى الرأسمالية المسيطرة لن تسمح بالانتقال السلمي التدريجي إلى نظام بديل، يلغي علاقات الإنتاج الرأسمالية ذاتها. وقد بالغ ماوتسي تونغ بهذه المقولة، عندما افترض أن الصراع الطبقي يشتد كلما تقدم بناء النظام الاشتراكي، وكلفت هذه المقولة الشعب الصيني ملايين الضحايا، بينما عارضتها من قبل أحزاب الأممية الشيوعية الثانية التي أسسها ماركس، واتخذت في ما بعد شكل الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية في أوروبا. وحينئذٍ، أسس لينين الأممية الشيوعية الثالثة، بينما أسس تروتسكي، بعد أن طرده ستالين، الأممية الرابعة، وهي الأكثر راديكالية.
بدأ التنظير للاستبداد مع البيان الشيوعي ونظرية "دكتاتورية البروليتاريا"، أي أن قيادة عملية الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية تحصل بقيادة الطبقة الأكثر ثورية، "بقيادة الطبقة العاملة التي لا تخسر في الثورة إلا قيودها"، وكان يقصد بالطبقة العاملة عمال المصانع، أصحاب الياقات الزرقاوات، تحديدًا ليس غيرهم، أي لم تشمل العاملين بأجرٍ جميعهم، ونظّرت الأحزاب الشيوعية ضد البيرقراطية من أصحاب الياقات البيضاوات، وعدّتهم أُجَرَاء للطبقة الحاكمة، ثم اختزلت السلطة الشيوعية المنتصرة في روسيا الطبقة العاملة بالحزب الشيوعي، ثم اختزلت الحزب بالقيادة، واختزلت القيادة بالأمين العام، فنشأ نظام دكتاتوري مكتمل الأوصاف.
بنيت رؤية ماركس على أن الثورة الشيوعية يجب أن تقوم في أكثر بلدان العالم تقدمًا، أي في بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وأن تقوم الثورة في أغلبية هذه البلدان دفعة واحدة، لأن البلدان الرأسمالية الأخرى ستهجم على الثورة الوليدة في بلدٍ واحد للقضاء عليها. لكن، بسبب غياب الشرط الثوري واستعجال لينين، فقد "طوّر" لينين نظرية ماركس أن الثورة يمكن أن تقوم بأضعف حلقة في سلسلة النظام الرأسمالي العالمي، كي تقدح شرارة الثورة في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدمًا، لكن الثورة الروسية قامت، ولم تستطع قدح شرارة الثورة في بلدان رأسمالية متقدمة، فأصبحت الثورة اليتيمة، وما لبثت أن هاجمتها جيوش من 15 دولة من دول أوروبا العجوز، كي لا يتحول شبح الشيوعية الذي كان يحوم فوق أوروبا، بحسب البيان الشيوعي 1848، إلى حقيقةٍ على الأرض الروسية، بما يحمله من إمكان التمدّد في أراضيهم.
الأساس العلمي، الذي وضعته الماركسية للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وعدّته أمرًا حتميًا، هو أن علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة على التملك الخاص أصبحت تتناقض مع عملية الإنتاج، التي تتخذ طابعًا اجتماعيًا، أي أصبح التناقض بين الطابعين، الاجتماعي للإنتاج والفردي الرأسمالي لتملك وسائل الإنتاج، وهذا التناقض أخذ يحدّ من قدرة قوى الإنتاج ووسائله على التقدّم، وأصبح لا بد من تمزيق الثوب الرأسمالي الضيّق، واستبداله بثوب اشتراكيّ يقوم على الطابع الاجتماعي للملكية، كي يتوافق الطابع الاجتماعي للإنتاج مع الطابع الاجتماعي لتملك وسائل الإنتاج، فتزدهر قوى الإنتاج مقدمةً للبشر مزيدًا من الرفاهية المادية والروحية والاجتماعية. ولكن الشيوعية والأحزاب الشيوعية في ممارستها العملية ركزت على جانب العدالة في توزيع الدخل على حساب الاهتمام بالقدرة الإنتاجية، وأعطته صورة مساواة ظالمةٍ تساوي المجدّ بالكسول، فقتلت الحافز على الإنتاج، وأهملت الجوانب المادية والعلمية والتقنية لتقدّم قوى الإنتاج، بل شكلّت الإدارات الشيوعية فكرةً بائسة عن التكنولوجيا، ما أدى إلى تفوق الرأسمالية على الشيوعية، وهذا جعل الاشتراكية أشبه بمساواة وعدالة في توزيع الفقر.
الأمر الآخر أن فكرة ماركس كانت تقوم على اضمحلال الدولة، هذا الغول الذي يلتهم المجتمع، وأن تتحوّل البلاد إلى إدارة ذاتية شعبية، لم يشرحها ماركس كفايةً، ولم يشرح كفاية كثيرًا من جوانب بناء النظام الاشتراكي والشيوعي. ومن هنا، طرح لينين شعار "حكم السوفييتات"، أي حكم مجالس الشعب، ولكن تاريخ روسيا الاستبدادي وهجوم دول أوروبا العجوز على الثورة الوليدة لوأدها، وفشل قيام ثورات أخرى في أوروبا وفشل الثورة الألمانية، قد حوّل السلطة الشعبية إلى سلطة مستبدة، وضع بذورها لينين، واستكمل بناءها الجورجي ستالين، ولعب صعود الفاشية والنازية دورًا كبيرًا في ترسيخ الطابع الاستبدادي للسلطة الشيوعية الوليدة التي هاجمتها جيوش 15 دولة أوروبية للقضاء عليها (وهذا ما توقعه ماركس) من دون أن يتمكنوا من القضاء عليها، غير أنهم رسّخوا طابعها الأمني العسكري القمعي، فاتسمت السلطة الثورية الوليدة بالقمع ومصادرة الحريات العامة، إذ حل الحزب، كما ذكرنا، تحت مسمى (الطليعة الثورية) محل الطبقة العاملة والسوفييتات والشعب، وتحول الحزب إلى مرتعٍ للانتهازية، وحلت القيادة محل الحزب، وحل الزعيم الأكبر محل القيادة، وأدواته أجهزة السلطة السرية.
أي بدلًا من اضمحلال الدولة، تغوّلت الدولة والتهمت المجتمع والاقتصاد والناس والحريات وكل شيء، وكوّنت سلطةً مركزيةً بجهازٍ ضخمٍ جدًا، تصعب إدارته، استطاع في أوقات الحروب (الحرب الأهلية، حرب بناء الدولة، الحرب العالمية الثانية) أن ينجز الكثير، بل حقق معجزاتٍ، مثل بناء الصناعة والانتصار على النازية والصعود إلى الفضاء والتقدم العلمي الهائل الذي لم ينتقل إلى الإنتاج، ولم ينتفعوا به، وأصبحت الحكومة والسلطة، في ما بعد، جهازًا ثقيلًا بطيئًا متهالكًا رجعيًا، يقمع أي أفكار جديدةٍ لتنظيم البلاد والاقتصاد والحياة، في مقابل نظام رأسمالي دينامي، فربح الأخير وخسر الأول.
ببساطة، قتل النموذج الشيوعي الروسي المجتمع، ومنع العقول من التفكير، واستبدل بها عقول عدد محدود من البيروقراطية، عطّل التطور، فهدر طاقاتٍ عظيمة، والأهم أنه قدّم نموذجًا فاشلًا للتجربة الاشتراكية/ الشيوعية. لكن؛ لم يكن مآل النموذج الروسي للشيوعية هو الإمكان الوحيد، لكنه هو الذي تحقّق، ولم يكن الاستبداد الذي رافق التجربة نتيجة المنشأ الروسي، وهجوم دول أوروبا العجوز كافيًا للحكم على الاشتراكية والشيوعية، بوصفها أفقًا تاريخيًا، فقد بدأت الثورة الفرنسية عهدها دمويًا، وانتهت باستبداد، لكنها أطلقت المجتمع الحديث، وقيم المجتمع الحديث، وأسّست له، وأسّست للحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية. وإن كان لم يقدر للتجربة الروسية أن تستمر لتتحول بمثل ما حدث في الثورة الفرنسية، ولم يقدّم النموذج الصيني مثالًا أفضل من حيث الحريات العامة، لكنه تحوّل إلى استبداد رأسمالي بثوبٍ شيوعي، مع نجاحاتٍ اقتصادية هائلة. لكن، من جهة أخرى، أدّى قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية، وقيام الاتحاد السوفييتي، ومن ثم المعسكر الاشتراكي، دورًا كبيرًا في دفع الرأسمالية إلى أن تقدّم تنازلاتٍ كبيرة للمشتغلين، لمنع ذهابهم إلى الأحزاب الشيوعية، وكان الفضل لقيام النظام الاشتراكي السوفييتي والحركة الشيوعية العالمية، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، في توسّع نشوء شبكات الضمان الاجتماعي، ونمو النقابات، وتحسين شروط العمل، وفي مستوى العالم الثالث نالت هذه الدول حرياتها، وحصلت على معاملةٍ أفضل من الدول الغربية، بسبب وجود العدو الشيوعي الذي يطرح نفسه بديلًا من الرأسمالية. مثلا، لولا وجود المعسكر الاشتراكي، لما استطاعت الدول المصدّرة للنفط أن تؤمّم قطاع النفط وتستعيده من يد الشركات الرأسمالية الغربية، ولم يكن لأسعار النفط أن ترتفع، وتعود عوائده على بلدانه المنتجة بفوائد هائلة، ومنها دول الخليج العربي وإيران والعراق والجزائر وليبيا، وهذا مثال كبير فحسب.
في النهاية؛ تبقى قضية العدالة الاجتماعية مطروحةً على جدول أعمال البشرية، وقد وضعتها الثورة الروسية وما تلاها من كفاح بشري على طاولة وجدول أعمال البشرية بقوة غير مسبوقة، على الرغم من التطورات السلبية التي حصلت منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقد قضمت كثيرًا من حقوق الناس، ومن شبكة العدالة الاجتماعية، ومن قوة المجتمع في وجه رأس المال.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، سيبقى التناقض الرئيسي الذي يحكم المجتمعات، ويحكم صراعاتها على المدى الطويل هو الصراع بين الأجر، أي قوة العمل، والربح أي رأس المال، وبمعنى آخر: الأجر مقابل الربح، فالأجر حق، بينما الربح استيلاء على ما أنتجه آخرون، وستبقى الماركسية نظرية قوية لم يتم تخطيها بعد، وإن كانت أفكار منها كثيرة قد شاخت مثلما تشيخ أي أفكار، فما زالت أطياف ماركس تحوم فوق البلدان كلها.