30 أكتوبر 2024
غسّان سلامة والمعضلة اللّيبية.. التحدّيات وفرص النّجاح
دخل وزير الثقافة اللبناني السابق، غسّان سلامة، العمل الدبلوماسي الأممي مجدداً، غرة شهر أغسطس/ آب الحالي، من الباب اللّيبي الذي بلغ مصاف المعضلة، أي الاستعصاء على الحل والتسوية عسكرياً ودبلوماسياً، إذ تجاوزت الأزمة، الآن، عامها الخامس، معادلةً أمد الأزمة السورية، وإن بأضرار أقل، لكن بمستوى الانخراط الدولي والإقليمي فيها وبآفاق للاستمرار في التململ فترة أخرى، لا يعلم أمدها أحد.
تطرقت مقالة سابقة لصاحب هذه السطور للمعضلة الليبية، كان التحليل المشخّص فيها بعيداً عن المعطى الأممي الذي قد يتغير مع قدوم شخصية لها وزنها على المستوى الأكاديمي برصيد معرفي للحقل الدولي ولمدخلات الحركية التفاوضية ومخرجاتها، بما يكفل، هذه المرة، دورا فاعلا لحل المعضلة، ووضع أسس تسوية تنهي معاناة الليبيين من ناحية، وهواجس الأطراف الدولية منها والإقليمية وفي الجوار من تبعات انفجار الوضع أو بقائه من دون حل فترة تجعل من المعضلة صراعا مزمنا في المنطقة، من ناحية أخرى.
الوضع الراهن.. لا آفاق للحل
على الرّغم من التدخل الأجنبي، في الأشهر الأولى لاندلاع "الحراك" ضد معمر القذافي، ومقتل الأخير أشهرا بعد ذلك، لم تهدأ الأمور في ليبيا، بل ازدادت، يوما بعد يوم، تعقيدا. ويلخّص ذلك، فوق الميدان، تعدّد المليشيات، تعدّد المؤسسات (برلمانان وحكومتان)، وكذا تعدّد المبادرات التي حاولت التقريب بين وجهات نظر الفرقاء، وكل طرف منها موالٍ لجهة دولية أو إقليمية، من خلال أجندة محدّدة المصالح، ما أوصل الأمر إلى طريق مسدود. وظنّ كثيرون أن اتفاق الصخيرات، الموقع في ديسمبر/ كانون الثاني 2015، سينهيه، أو على أقل تقدير، سيعمل على تقريب المسافات بين الفرقاء... لكن هيهات.
وعلى مستوى الرعاية الدولية - الأممية لتلك المبادرات، وعلى الرغم من تدخّل الأمم المتحدة في المعضلة، إلا أن الضبابية ما زالت سيدة الموقف، لأن المنطلق، منذ قرار التدخل لمجلس الأمن، كان خاطئا بعد تحريف الأطراف الأطلسية، فرنسا وبريطانيا، على وجه الخصوص، القرار الأممي، سعيا إلى تحقيق ثلاثة أهداف: الاستحواذ على أموال الصندوق السيادي الليبي، الاستفادة من نفط ليبيا وغازها، وإيجاد أرضية لأفق استراتيجي، يتمثل في تحضير ملاذ جديد للجماعات الإرهابية، بعد دحرها في سورية والعراق.
كما تميّزت الرعاية الأممية بأخطاء في إدارة المعضلة الليبية، بسبب ولاءات غير واضحة للمبعوث برناردينو ليون، بداية، ثم لتداخل العوامل الدولية والإقليمية في انسداد الأفق الليبي مع مارتن كوبلر، لتكون النتيجة فشل كل عمليات بعث الاستقرار والتمكين لمشروع بناء الدولة والجيش الليبيين.
هذا هو الموقف الذي سيكون على غسّان سلامة التعامل معه، وقد انطلق فيه بلقاء، في فرنسا، بين أبرز الفرقاء، فايز السرّاج وخليفة حفتر، وبرعاية فرنسا التي كان لها الباع الأكبر في وصول ليبيا إلى مستنقع الحرب الأهلية، وتوسّع رقعة المنطقة الرمادية إلى الساحل الصحراوي مترامي الأطراف، بتدخلها في العام 2011.
خبرة تفاوضية
يعرف غسّان سلامة على المستوى الأكاديمي بكتاباته الغزيرة في العلاقات الدولية، كما يعرف بأنه صاحب باع طويل في الحقل التفاوضي المحلي (لبنان) والدولي. ويصنع الجانبان، التنظير الأكاديمي والممارسة التفاوضية، إدراكا خاصا لدى الرجل، يضاف إليه مرجعية الأصل اللبناني الذي سيمكّنه، حتما، من القدرة على رؤية جوانب كثيرة في المعضلة الليبية لم يرها غيره، خصوصا إذا توفرت له المظلات الدولية والإقليمية والمحلية، لإنجاح مهمته في تيسير سبل التّوفيق بين الفرقاء الليبيين جميعهم.
بداية، ومن الاطّلاع على الإسهام الأكاديمي الغزير للمثقف غسّان سلامة، يمكن التوصل إلى أنه يرى العولمة سبباً في تقسيم العالم، وليس في تيسير التواصل بين البشرية، بالنظر إلى هدف المشرفين عليها (العولمة) إدامة السيطرة على العالم، ولا يتم ذلك إلا بخطط إستراتيجية وبسيطرة تامة على الموارد التي تقف وراء إحكام تلك السيطرة. في هذا الإطار، يرى غسّان سلامة، أيضا، أن أميركا هي القوة المسيطرة على العالم وصاحبة مفاتيح السلام، الاستقرار والحروب في العالم، ما يعني أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن (المنتظم الدولي) أداتان طيّعتان في يد الأميركيين والغرب عموما (الغرب، هنا، بالمعنى الجيوسياسي وليس الجغرافي، شاملا: روسيا، الصين، اليابان والدول الناشئة).
وكان غسّان سلامة سبّاقا إلى وصف العالم العربي بأنه رقعة جغرافية تسعى إلى إقامة "ديمقراطية بلا ديمقراطيين"، أي بتوفّر معطيين: غياب ثقافة ديمقراطية وإحلال التّغيير لكن بجرعات بطيئة ومتحكّم فيها، بحيث إنها لا تؤدي، في نهاية الأمر، إلى تغيير في النخب، ولا في الأنظمة القائمة في منطقة الشرق الأوسط برمتها. من ناحية أخرى، يقرّ غسّان سلامة بأن الشرق الأوسط منطقة يسودها منطق التسلطية والانغلاق المجتمعي، ما يعني وجود استعصاء/ امتناع عن التّغيير، يتحمّل مسؤوليته كل من النّخب الحاكمة والشعوب، بسبب مرجعية الرؤية للحرية، الحكم الديمقراطي، التغيير ومكانة كل من الإنسان والمرأة، على وجه التحديد، في المجتمعات شرق الأوسطية.
انطلاقاً من هذا، منطلق إدراك غسّان سلامة المعضلة الليبية من خلال أن الحرب الأهلية إنما تعود إلى الطبيعة التسلطية للنخب الحاكمة من ناحية، وإلى طبيعة الانغلاق المجتمعي العربي عن التغيير والقدرة على استيعاب الديمقراطية ومقتضيات التحول إلى التعدّدية، من ناحية أخرى.
وتجعلنا جنسية غسّان سلامة اللبنانية نقف على إدراك إضافي للمعضلة الليبية، والتي قد تأخذه، مع توفّر الدعم الدولي، الإقليمي ومن دول الجوار (الجزائر وتونس ومصر)، إلى النجاح في مهمته، من خلال توفّره على رؤية للتعددية الطائفية في لبنان، وكيف أنها كانت بادية الاستعصاء عن الحسم، غداة الحرب الأهلية التي دامت نحو 15 سنة، وانخرط فيها لاعبون دوليون، إقليميون ومحليون، وانتهت بـمؤتمر الطائف الذي وضع حدّا للاقتتال، ورسخ لاتفاقية أعيد بها العمل بمبدأ الطائفية التوافقية.
المعضلة الليبية، في هذه الحالة، وبانخراط عمل غسّان سلامة فيها، مبعوثاً أممياً، ستعمل على الاستفادة من تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، بالاستعاضة عن "الطائفة" بعامل "القبيلة" اللاعب الرئيس والأساس في ليبيا، ما سيوفّر الأجواء لاقتراح حلول على الفرقاء عبر خطّة/ خريطة طريق عمل تنطلق من مكانة "القبيلة"، وكيفية الارتقاء بها في أجواء توافقية -توازنية- مناطقية، لإحلال مواطنية تعلو بالولاء تراتبيا، وصولا إلى إقرار ثقافة سياسية تنهي هواجس الحرب الأهلية، الانقسام المجتمعي والانفجار المنتظر أي التقسيم للبلاد إلى ثلاث مناطق.
حدود الفرص المتاحة لإنهاء الاحتقان
انتهى اجتماع باريس بين السرّاج وحفتر إلى سجال في الرؤية لمنهجية الحل للمعضلة الليبية، وكان أول لقاءات غسّان سلامة مع جزء من فرقاء المعضلة، وأيضا مع جزء من "الرعاية" الدولية (فرنسا هنا) لحل للمعضلة الليبية، ما فتح أمامه أفق الإدراك الجيد للمهمة، حدود دوره مبعوثا أمميا، وفرص النجاح المتاحة أمامه لإنهاء أمد المعضلة.
الإشكالية التي تطرح، هنا، هل تم تعيين غسّان سلامة، في هذا الوقت بالذات، لإدارة تفاوضية بعد ظهور استحالة الحسم العسكري لهذا الفصيل أو ذاك؟ هناك مؤشرات تؤيد هذا الاحتمال، لعل أبرزها خروج تصريحات للسرّاج، تدعو إلى التحضير للحسم السياسي من خلال الاقتراع وبروز إمكانية رضوخ (المشير) خليفة حفتر لهذا الحسم، من خلال طرح السرّاج إمكانية ترشّح حفتر للرئاسة، وذلك في حالة قبوله بشروط اللعبة التفاوضية، قصد إنهاء فصول المعضلة نهائيا.
كما برز إلى العلن أن الفصيلين الأقويين هما الممثل للمجلس الأعلى وبرلمان طرابلس (السرّاج) وممثل الجيش والحائز على مساندة برلمان طبرق (حفتر). ومن خلالهما مجموعة من القبائل القوية التي تساند هذا الفصيـل أو ذاك، ومع وجود قبائل لها وزنها، ولكنها، حتما، ستقبل بقواعد اللعبة التفاوضية، إذا علمت بمقدار المكاسب التي ستحصل عليها إذا توقف مسار الصراع وتم محلّه مسار سياسي، يعلو بعاملي الثقافة الديمقراطية والمواطنة الليبية على الولاء القبلي، ويرسي قواعد ليبيا الحديثة، خصوصا أن ذلك يتزامن مع خروج مسودة الدستور الليبي الجديد، ودعوة السرّاج إلى مسار استفتائي ليبي عام عليه، بادرة لإنهاء فصول صراع الإخوة منذ 2011.
وبرز، بعد انتهاء لقاء باريس بين حفتر والسرّاج أهمية الفاعلين في المعضلة، بعد تصريح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأنه لا يريد لعب دور أكبر في ليبيا، على إثر تصريحات إيطالية ممتعضة من التدخل الفرنسي في الأزمة، إضافة إلى رحلة السرّاج، أياما بعد لقاء باريس إلى روما والجزائر، لإضفاء أهمية دولية وإقليمية على التحرك الجديد في المسار التفاوضي لحل المعضلة الليبية نهائياً.
ينطلق غسّان سلامة، في هذه الأجواء، لأداء مهمته الأممية، مستعينا بتوفّر تلك المظلات الدولية والإقليمية وإرادة تسوية محلية، حقيقية، هذه المرة. وفي ذهنه ترتيبات لمؤتمر طائف استثنائي، يضع "القبيلة" الليبية أمام رهانات دخول معترك التسويات السياسية مع تراتبية تجعل من الولاء لليبيا، دولة وجيشا، الولاء الأكبر، وهو ما سيعيد ليبيا إلى مصاف الدول. من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال أن مهمّة غسّان سلامة موازية لأي عمل تفاوضي لإنهاء فصول الأزمة السورية، إذ تعلم الأطراف الدولية والإقليمية أن إنهاء فصول ما يجري في العراق وسورية (الموصل والرقة) مرتبط بخطوة أولى، تغلق على التنظيمات الإرهابية الملاذ المحتمل الذي يمتد من ليبيا إلى منطقة الساحل الشاسعة.
القراءة المتأنية لكل التغييرات التي تشهدها الساحة الليبية، وتوازي ذلك مع انطلاق عمل الوساطة لشخصية مرموقة، مثل غسّان سلامة، كفيل بتأييد سيناريو قرب انتهاء فصول المعضلة الليبية، وإحلال الاستقرار في المنطقة، ما سيوفر الأجواء لسلسلة من التسويات، تطاول المعضلة السورية، وكذلك في العراق واليمن. هذا هو رهان غسّان سلامة، وهذه هي مهمته، ولعل لقاء باريس المدخل الذي سيعمل على تدحرج كرة الثلج المتضمنة لمسار تفاوضي، ينهي أمد عدم الاستقرار في المنطقة الساحلية- الصحراوية بصفة نهائية.
تطرقت مقالة سابقة لصاحب هذه السطور للمعضلة الليبية، كان التحليل المشخّص فيها بعيداً عن المعطى الأممي الذي قد يتغير مع قدوم شخصية لها وزنها على المستوى الأكاديمي برصيد معرفي للحقل الدولي ولمدخلات الحركية التفاوضية ومخرجاتها، بما يكفل، هذه المرة، دورا فاعلا لحل المعضلة، ووضع أسس تسوية تنهي معاناة الليبيين من ناحية، وهواجس الأطراف الدولية منها والإقليمية وفي الجوار من تبعات انفجار الوضع أو بقائه من دون حل فترة تجعل من المعضلة صراعا مزمنا في المنطقة، من ناحية أخرى.
الوضع الراهن.. لا آفاق للحل
على الرّغم من التدخل الأجنبي، في الأشهر الأولى لاندلاع "الحراك" ضد معمر القذافي، ومقتل الأخير أشهرا بعد ذلك، لم تهدأ الأمور في ليبيا، بل ازدادت، يوما بعد يوم، تعقيدا. ويلخّص ذلك، فوق الميدان، تعدّد المليشيات، تعدّد المؤسسات (برلمانان وحكومتان)، وكذا تعدّد المبادرات التي حاولت التقريب بين وجهات نظر الفرقاء، وكل طرف منها موالٍ لجهة دولية أو إقليمية، من خلال أجندة محدّدة المصالح، ما أوصل الأمر إلى طريق مسدود. وظنّ كثيرون أن اتفاق الصخيرات، الموقع في ديسمبر/ كانون الثاني 2015، سينهيه، أو على أقل تقدير، سيعمل على تقريب المسافات بين الفرقاء... لكن هيهات.
وعلى مستوى الرعاية الدولية - الأممية لتلك المبادرات، وعلى الرغم من تدخّل الأمم المتحدة في المعضلة، إلا أن الضبابية ما زالت سيدة الموقف، لأن المنطلق، منذ قرار التدخل لمجلس الأمن، كان خاطئا بعد تحريف الأطراف الأطلسية، فرنسا وبريطانيا، على وجه الخصوص، القرار الأممي، سعيا إلى تحقيق ثلاثة أهداف: الاستحواذ على أموال الصندوق السيادي الليبي، الاستفادة من نفط ليبيا وغازها، وإيجاد أرضية لأفق استراتيجي، يتمثل في تحضير ملاذ جديد للجماعات الإرهابية، بعد دحرها في سورية والعراق.
كما تميّزت الرعاية الأممية بأخطاء في إدارة المعضلة الليبية، بسبب ولاءات غير واضحة للمبعوث برناردينو ليون، بداية، ثم لتداخل العوامل الدولية والإقليمية في انسداد الأفق الليبي مع مارتن كوبلر، لتكون النتيجة فشل كل عمليات بعث الاستقرار والتمكين لمشروع بناء الدولة والجيش الليبيين.
هذا هو الموقف الذي سيكون على غسّان سلامة التعامل معه، وقد انطلق فيه بلقاء، في فرنسا، بين أبرز الفرقاء، فايز السرّاج وخليفة حفتر، وبرعاية فرنسا التي كان لها الباع الأكبر في وصول ليبيا إلى مستنقع الحرب الأهلية، وتوسّع رقعة المنطقة الرمادية إلى الساحل الصحراوي مترامي الأطراف، بتدخلها في العام 2011.
خبرة تفاوضية
يعرف غسّان سلامة على المستوى الأكاديمي بكتاباته الغزيرة في العلاقات الدولية، كما يعرف بأنه صاحب باع طويل في الحقل التفاوضي المحلي (لبنان) والدولي. ويصنع الجانبان، التنظير الأكاديمي والممارسة التفاوضية، إدراكا خاصا لدى الرجل، يضاف إليه مرجعية الأصل اللبناني الذي سيمكّنه، حتما، من القدرة على رؤية جوانب كثيرة في المعضلة الليبية لم يرها غيره، خصوصا إذا توفرت له المظلات الدولية والإقليمية والمحلية، لإنجاح مهمته في تيسير سبل التّوفيق بين الفرقاء الليبيين جميعهم.
بداية، ومن الاطّلاع على الإسهام الأكاديمي الغزير للمثقف غسّان سلامة، يمكن التوصل إلى أنه يرى العولمة سبباً في تقسيم العالم، وليس في تيسير التواصل بين البشرية، بالنظر إلى هدف المشرفين عليها (العولمة) إدامة السيطرة على العالم، ولا يتم ذلك إلا بخطط إستراتيجية وبسيطرة تامة على الموارد التي تقف وراء إحكام تلك السيطرة. في هذا الإطار، يرى غسّان سلامة، أيضا، أن أميركا هي القوة المسيطرة على العالم وصاحبة مفاتيح السلام، الاستقرار والحروب في العالم، ما يعني أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن (المنتظم الدولي) أداتان طيّعتان في يد الأميركيين والغرب عموما (الغرب، هنا، بالمعنى الجيوسياسي وليس الجغرافي، شاملا: روسيا، الصين، اليابان والدول الناشئة).
وكان غسّان سلامة سبّاقا إلى وصف العالم العربي بأنه رقعة جغرافية تسعى إلى إقامة "ديمقراطية بلا ديمقراطيين"، أي بتوفّر معطيين: غياب ثقافة ديمقراطية وإحلال التّغيير لكن بجرعات بطيئة ومتحكّم فيها، بحيث إنها لا تؤدي، في نهاية الأمر، إلى تغيير في النخب، ولا في الأنظمة القائمة في منطقة الشرق الأوسط برمتها. من ناحية أخرى، يقرّ غسّان سلامة بأن الشرق الأوسط منطقة يسودها منطق التسلطية والانغلاق المجتمعي، ما يعني وجود استعصاء/ امتناع عن التّغيير، يتحمّل مسؤوليته كل من النّخب الحاكمة والشعوب، بسبب مرجعية الرؤية للحرية، الحكم الديمقراطي، التغيير ومكانة كل من الإنسان والمرأة، على وجه التحديد، في المجتمعات شرق الأوسطية.
انطلاقاً من هذا، منطلق إدراك غسّان سلامة المعضلة الليبية من خلال أن الحرب الأهلية إنما تعود إلى الطبيعة التسلطية للنخب الحاكمة من ناحية، وإلى طبيعة الانغلاق المجتمعي العربي عن التغيير والقدرة على استيعاب الديمقراطية ومقتضيات التحول إلى التعدّدية، من ناحية أخرى.
وتجعلنا جنسية غسّان سلامة اللبنانية نقف على إدراك إضافي للمعضلة الليبية، والتي قد تأخذه، مع توفّر الدعم الدولي، الإقليمي ومن دول الجوار (الجزائر وتونس ومصر)، إلى النجاح في مهمته، من خلال توفّره على رؤية للتعددية الطائفية في لبنان، وكيف أنها كانت بادية الاستعصاء عن الحسم، غداة الحرب الأهلية التي دامت نحو 15 سنة، وانخرط فيها لاعبون دوليون، إقليميون ومحليون، وانتهت بـمؤتمر الطائف الذي وضع حدّا للاقتتال، ورسخ لاتفاقية أعيد بها العمل بمبدأ الطائفية التوافقية.
المعضلة الليبية، في هذه الحالة، وبانخراط عمل غسّان سلامة فيها، مبعوثاً أممياً، ستعمل على الاستفادة من تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، بالاستعاضة عن "الطائفة" بعامل "القبيلة" اللاعب الرئيس والأساس في ليبيا، ما سيوفّر الأجواء لاقتراح حلول على الفرقاء عبر خطّة/ خريطة طريق عمل تنطلق من مكانة "القبيلة"، وكيفية الارتقاء بها في أجواء توافقية -توازنية- مناطقية، لإحلال مواطنية تعلو بالولاء تراتبيا، وصولا إلى إقرار ثقافة سياسية تنهي هواجس الحرب الأهلية، الانقسام المجتمعي والانفجار المنتظر أي التقسيم للبلاد إلى ثلاث مناطق.
حدود الفرص المتاحة لإنهاء الاحتقان
انتهى اجتماع باريس بين السرّاج وحفتر إلى سجال في الرؤية لمنهجية الحل للمعضلة الليبية، وكان أول لقاءات غسّان سلامة مع جزء من فرقاء المعضلة، وأيضا مع جزء من "الرعاية" الدولية (فرنسا هنا) لحل للمعضلة الليبية، ما فتح أمامه أفق الإدراك الجيد للمهمة، حدود دوره مبعوثا أمميا، وفرص النجاح المتاحة أمامه لإنهاء أمد المعضلة.
الإشكالية التي تطرح، هنا، هل تم تعيين غسّان سلامة، في هذا الوقت بالذات، لإدارة تفاوضية بعد ظهور استحالة الحسم العسكري لهذا الفصيل أو ذاك؟ هناك مؤشرات تؤيد هذا الاحتمال، لعل أبرزها خروج تصريحات للسرّاج، تدعو إلى التحضير للحسم السياسي من خلال الاقتراع وبروز إمكانية رضوخ (المشير) خليفة حفتر لهذا الحسم، من خلال طرح السرّاج إمكانية ترشّح حفتر للرئاسة، وذلك في حالة قبوله بشروط اللعبة التفاوضية، قصد إنهاء فصول المعضلة نهائيا.
كما برز إلى العلن أن الفصيلين الأقويين هما الممثل للمجلس الأعلى وبرلمان طرابلس (السرّاج) وممثل الجيش والحائز على مساندة برلمان طبرق (حفتر). ومن خلالهما مجموعة من القبائل القوية التي تساند هذا الفصيـل أو ذاك، ومع وجود قبائل لها وزنها، ولكنها، حتما، ستقبل بقواعد اللعبة التفاوضية، إذا علمت بمقدار المكاسب التي ستحصل عليها إذا توقف مسار الصراع وتم محلّه مسار سياسي، يعلو بعاملي الثقافة الديمقراطية والمواطنة الليبية على الولاء القبلي، ويرسي قواعد ليبيا الحديثة، خصوصا أن ذلك يتزامن مع خروج مسودة الدستور الليبي الجديد، ودعوة السرّاج إلى مسار استفتائي ليبي عام عليه، بادرة لإنهاء فصول صراع الإخوة منذ 2011.
وبرز، بعد انتهاء لقاء باريس بين حفتر والسرّاج أهمية الفاعلين في المعضلة، بعد تصريح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأنه لا يريد لعب دور أكبر في ليبيا، على إثر تصريحات إيطالية ممتعضة من التدخل الفرنسي في الأزمة، إضافة إلى رحلة السرّاج، أياما بعد لقاء باريس إلى روما والجزائر، لإضفاء أهمية دولية وإقليمية على التحرك الجديد في المسار التفاوضي لحل المعضلة الليبية نهائياً.
ينطلق غسّان سلامة، في هذه الأجواء، لأداء مهمته الأممية، مستعينا بتوفّر تلك المظلات الدولية والإقليمية وإرادة تسوية محلية، حقيقية، هذه المرة. وفي ذهنه ترتيبات لمؤتمر طائف استثنائي، يضع "القبيلة" الليبية أمام رهانات دخول معترك التسويات السياسية مع تراتبية تجعل من الولاء لليبيا، دولة وجيشا، الولاء الأكبر، وهو ما سيعيد ليبيا إلى مصاف الدول. من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال أن مهمّة غسّان سلامة موازية لأي عمل تفاوضي لإنهاء فصول الأزمة السورية، إذ تعلم الأطراف الدولية والإقليمية أن إنهاء فصول ما يجري في العراق وسورية (الموصل والرقة) مرتبط بخطوة أولى، تغلق على التنظيمات الإرهابية الملاذ المحتمل الذي يمتد من ليبيا إلى منطقة الساحل الشاسعة.
القراءة المتأنية لكل التغييرات التي تشهدها الساحة الليبية، وتوازي ذلك مع انطلاق عمل الوساطة لشخصية مرموقة، مثل غسّان سلامة، كفيل بتأييد سيناريو قرب انتهاء فصول المعضلة الليبية، وإحلال الاستقرار في المنطقة، ما سيوفر الأجواء لسلسلة من التسويات، تطاول المعضلة السورية، وكذلك في العراق واليمن. هذا هو رهان غسّان سلامة، وهذه هي مهمته، ولعل لقاء باريس المدخل الذي سيعمل على تدحرج كرة الثلج المتضمنة لمسار تفاوضي، ينهي أمد عدم الاستقرار في المنطقة الساحلية- الصحراوية بصفة نهائية.