07 نوفمبر 2024
الشوق طائرٌ من لهَب
إلى زينب
تطفو رائحة اليود البحرية عند العصر، فيغيب العالم الذي أعيش فيه ليحضر عالم آخر: صيدا، مدينتي، أنزل إلى البحر المجاور، مع إخوتي وأبناء عمي وعمتي. كلنا مراهقون، نقفز بين الأمواج، نسخر من قوتها، نحاول مرة جديدة، نقتحم الموج، نعلو معه، نسايره، نعرف كيف نداريه، كيف نتخفّف منه ونغطس رؤوسنا فيه، منعاً لانجرارنا خلف سرعته. ثم نفرح ونضحك من قلوبنا، بأننا تمكّنا من الموج.
أحيانا، في الليل، يجود عليّ اليود بالمزيد، فتُقبِل دنيا أخرى، بعيدة هي أيضاً؛ الباخرة الأميركية التي تقلّنا، أنا وأمي وأخوتي، من الدار البيضاء إلى بيروت: ألوان الليل، نداءات البحارة، قرْصة البرد، فستاني من الجوخ الذي أكرهه، ثم مضيق شاهق، على جانبَيه تلال خضراء، "ها قد وصلنا إلى مضيق جبل طارق"، لا أعرف من ينبّهنا إلى ذلك.
البحر المتوسط نفسه، والرائحة نفسها، ولكن فجراً، هذه المرة: الباخرة تقترب من ميناء بيروت ببطء. الغيوم الوردية، الجبال المتراصّة، مرتفعة ومنخفضة، وفي أسفلها بيوتٌ من قرميد، تحيط بها أشجار وحقول خضراء؛ إنها بيروت التي ما زلت أحبها، حتى بعدما تشوّهت، كما يصرّ العاشق على الصورة الأولى لمحبوبته بعدما هَمَد عشقه: صورة بيروت الأولى تهرع إليّ من دون توسّل. لم تتغير.
وإذا اجتمع، لسببٍ ما، لون نيلي غامق للبحر، مع منتصف النهار، يطرق دواخلي بحر آخر،
كون آخر، المحيط الأطلنطي وشاطئ الدار البيضاء، وأنا وأخوتي على قارب صغير، مع مربيتنا، ووقوعي على مسمار فالِت للقارب، جرح ركبتي... أولى وقعاتي، والهلع بيننا، ورجوعنا السريع إلى الشاطئ، وأنا أستهول خروج لحم لونه أبيض من ركبتي، أبكي من الخوف.. وإسعافات أولية.
زهرة الياسمين. لرائحتها دنيا أخرى. منزل جدّي في صيدا. منزل عربي واسع. تطل على شرفة ليوانه الداخلي شجرة ياسمين عملاقة، مغروسة بالأرض. شجرة فيها البرَكة، تكرّمنا بطيّباتها. تشق طريقها إلى المنزل العتيق، العامر بالهفْهفة، ورائحة الصابون العربي الفائحة من كل مكان. وعيون جدتي الزرقاء، الحانية عليّ، تقول لي كلاماً لا أفهمه، ولكنني أحدس أنه ينطق بالحب، فأرتعش.
وفي المنزل نفسه، بعد سنوات، في غرفة الضيوف ذات الأثاث الدمشقي، عمّي يدقّ على العود، وخالتي بالقرب منه، تغني "أنا قلبي إليك ميّال". الدفء فائضٌ في هذا الاحتفال. عدد الحضور يتجاوز العشرين، بما فيهم نحن، الأولاد، والقلوب صافية والبراءة في العيون لا تقاوم سحر العود وصوت خالتي الشجي، وقامتها الممشوقة مثل ملكات الصَحارى. بعدها، ليلة رأس السنة، وقد أصبحتُ مراهقة. في هذا المنزل المعطّر بعبق الياسمين والهفْهفة، نمضي راقصين على أغنية "أنت عمري". والغزل هائم، والنظرات مسترسلة، وصبايا وشبابٌ يتواعدون سراً، تحت نظر أهلهم.
أستطيع أن أمضي طويلاً في هذا الذي أحاول وصفه: يرسله تبدّل الفصول، الرياح العاتية، روائح أخرى، أغاني أخرى.. فضلا عن لا شيء أيضاً: فهذه الصور المتقطّعة قد تحضر من دون أية رائحة، ولا صوت، ولا صورة، ولا وقت. مستقلة عن الخارج، تقطع السياق الخارجي الذي أنا فيه، فتدخلني في عالمها.. ولكنني لا أريد الإسترسال بالوصف. قبله، عليّ أن أحدّده، أن أجد لهذا الحضور، المباغت دوماً، اسما صالحاً.
هذه السطور الواردة أعلاه ليست "ذكريات". الذكريات مرتبطة بالذكرى. وهذه الأخيرة شبه متخصّصة بتغطية المناسبات: ذكرى زواج أو اغتيال أو وفاة، أو استقلال.. إلخ. وهي مرتّبة، تتبع الروزنامة غالباً. والذكريات ترتدي طبائع الذكرى، المنظّمة، المنسّقة، وربما المصحّحة. وهي غير صالحة عندي، لأن ما من نظام لهذا الذي أنا بصدده.. وهو أيضا لا أسمّيه "وحْشة"، الناجمة عن جفاء القلوب القريبة، وربما الفراغ أيضاً؛ فهذه مظلوميةٌ إنسانيةٌ لست واقعةً تحت إسارها. أما "الحنين"، فهو الأقل صلاحاً: فأنا لستُ خارج وطني، لأكون مصابةً بتذكّره عن بعيد. ولا أنا تائقةٌ إلى أزمان غابرة، لست حزينة، ولا مكتئبة، ولا تسود غيوم سوداء فوق رأسي. ولا أحلم بعودة هذه الأزمان البعيدة القريبة، وإن كنت شديدة الفضول لمجرياتها وتفاصيلها. بل أرى الحاضر يطول، أستعجل أحياناً فصوله القادمة.
إنه الشوق. الصعب، الوعر. ليس شوق المغروم الذي يغني لحبيبته لوعته على غيابها، وأمله بلقائها. ولا هو شوقي لأولادي البعيدين، ولأحفادي معهم، لأمي وأبي الراحلين. فهذا الشوق أعيه تماما، أنيّمه في أعماقي، لا أستطيع التعامل معه عن بُعد. وإذا فعلت، أتحول إلى كائن ليلي، يمشي وهو نائم.
الشوق الذي أتكلم عنه هو فعل ديناميكي خارج عن إرادتي. طائرٌ من لهبٍ يغزو قلبي عن
علو. التماعة لحظات، وبريق الصورة الهائل الذي يزيحني عن عالمي، ليحتل مكانه، ويتحول إلى الكون بنفسه، وأتحول فيه أنا إلى نقطة متناهية الصِغَر في فضائه السحيق. فعل ديناميكي يطيّرني عن الأرض، لبضع ثوان، فيكون شرودي غير المفهوم دائماً، لا بالنسبة لي ولا بالنسبة لرفاق دربي. "ماذا حصل لكِ هذه المرة لتقعي على الأرض؟!". أقع من دون أي سببٍ منطقي، سوى شرودي في هذا العالم الذي يوجع قلبي ويفرحه في آن؛ مزيج من الدمعة المحبوسة، والإلفة الصوفية. فقط بضع لحظاتٍ من الغياب يصعد فيها قلبي الملتهب إلى مخيلتي، فتسيطر بقعة الشهب هذه على إدراكي. ثم دهشة من حيوية هذا الشوق، من قوته، من ديمومة الصور ونداوتها وقابليتها الفذّة على إحيائه. وتوعدني بالمزيد. كأن ذاكرتي عمرها ألف سنة. شيء يشبه الميتافيزيقا، ما وارء المنظور من كوننا هذا.
هجمات الذاكرة هذه كثُرت في الأيام الأخيرة. هل هو العمر، صاحب مفاتيح السنوات البعيدة؟ هل هو التطهّر الروحي الذي أسعى إليه، حثيثاً، منذ زمن؟ والذي أخلى المكان للقابع في أعماقي وحرّر بواطنه؟ أم هي الأبواب التي فتحتها لنفسي، خلال الأعوام الأخيرة، عندما لجأتُ إلى ذاكراتي لرواية تجربتي الحزبية والحربية، وما عشته، شخصياً، في حزيران 1967؟ وهل يكون التذكّر بذلك فعلاً تشغيلياً، يوقظ ترسّباتٍ ماضية، حيّة، كانت نائمة، أيقظتها الروائح، أو أشياء أخرى، أم استفاقت بنفسها؟ مثل حديقة خلفية، لم يصبْها اليباس طوال سنوات غيابي عنها، أو نسياني لها؟.
تطفو رائحة اليود البحرية عند العصر، فيغيب العالم الذي أعيش فيه ليحضر عالم آخر: صيدا، مدينتي، أنزل إلى البحر المجاور، مع إخوتي وأبناء عمي وعمتي. كلنا مراهقون، نقفز بين الأمواج، نسخر من قوتها، نحاول مرة جديدة، نقتحم الموج، نعلو معه، نسايره، نعرف كيف نداريه، كيف نتخفّف منه ونغطس رؤوسنا فيه، منعاً لانجرارنا خلف سرعته. ثم نفرح ونضحك من قلوبنا، بأننا تمكّنا من الموج.
أحيانا، في الليل، يجود عليّ اليود بالمزيد، فتُقبِل دنيا أخرى، بعيدة هي أيضاً؛ الباخرة الأميركية التي تقلّنا، أنا وأمي وأخوتي، من الدار البيضاء إلى بيروت: ألوان الليل، نداءات البحارة، قرْصة البرد، فستاني من الجوخ الذي أكرهه، ثم مضيق شاهق، على جانبَيه تلال خضراء، "ها قد وصلنا إلى مضيق جبل طارق"، لا أعرف من ينبّهنا إلى ذلك.
البحر المتوسط نفسه، والرائحة نفسها، ولكن فجراً، هذه المرة: الباخرة تقترب من ميناء بيروت ببطء. الغيوم الوردية، الجبال المتراصّة، مرتفعة ومنخفضة، وفي أسفلها بيوتٌ من قرميد، تحيط بها أشجار وحقول خضراء؛ إنها بيروت التي ما زلت أحبها، حتى بعدما تشوّهت، كما يصرّ العاشق على الصورة الأولى لمحبوبته بعدما هَمَد عشقه: صورة بيروت الأولى تهرع إليّ من دون توسّل. لم تتغير.
وإذا اجتمع، لسببٍ ما، لون نيلي غامق للبحر، مع منتصف النهار، يطرق دواخلي بحر آخر،
زهرة الياسمين. لرائحتها دنيا أخرى. منزل جدّي في صيدا. منزل عربي واسع. تطل على شرفة ليوانه الداخلي شجرة ياسمين عملاقة، مغروسة بالأرض. شجرة فيها البرَكة، تكرّمنا بطيّباتها. تشق طريقها إلى المنزل العتيق، العامر بالهفْهفة، ورائحة الصابون العربي الفائحة من كل مكان. وعيون جدتي الزرقاء، الحانية عليّ، تقول لي كلاماً لا أفهمه، ولكنني أحدس أنه ينطق بالحب، فأرتعش.
وفي المنزل نفسه، بعد سنوات، في غرفة الضيوف ذات الأثاث الدمشقي، عمّي يدقّ على العود، وخالتي بالقرب منه، تغني "أنا قلبي إليك ميّال". الدفء فائضٌ في هذا الاحتفال. عدد الحضور يتجاوز العشرين، بما فيهم نحن، الأولاد، والقلوب صافية والبراءة في العيون لا تقاوم سحر العود وصوت خالتي الشجي، وقامتها الممشوقة مثل ملكات الصَحارى. بعدها، ليلة رأس السنة، وقد أصبحتُ مراهقة. في هذا المنزل المعطّر بعبق الياسمين والهفْهفة، نمضي راقصين على أغنية "أنت عمري". والغزل هائم، والنظرات مسترسلة، وصبايا وشبابٌ يتواعدون سراً، تحت نظر أهلهم.
أستطيع أن أمضي طويلاً في هذا الذي أحاول وصفه: يرسله تبدّل الفصول، الرياح العاتية، روائح أخرى، أغاني أخرى.. فضلا عن لا شيء أيضاً: فهذه الصور المتقطّعة قد تحضر من دون أية رائحة، ولا صوت، ولا صورة، ولا وقت. مستقلة عن الخارج، تقطع السياق الخارجي الذي أنا فيه، فتدخلني في عالمها.. ولكنني لا أريد الإسترسال بالوصف. قبله، عليّ أن أحدّده، أن أجد لهذا الحضور، المباغت دوماً، اسما صالحاً.
هذه السطور الواردة أعلاه ليست "ذكريات". الذكريات مرتبطة بالذكرى. وهذه الأخيرة شبه متخصّصة بتغطية المناسبات: ذكرى زواج أو اغتيال أو وفاة، أو استقلال.. إلخ. وهي مرتّبة، تتبع الروزنامة غالباً. والذكريات ترتدي طبائع الذكرى، المنظّمة، المنسّقة، وربما المصحّحة. وهي غير صالحة عندي، لأن ما من نظام لهذا الذي أنا بصدده.. وهو أيضا لا أسمّيه "وحْشة"، الناجمة عن جفاء القلوب القريبة، وربما الفراغ أيضاً؛ فهذه مظلوميةٌ إنسانيةٌ لست واقعةً تحت إسارها. أما "الحنين"، فهو الأقل صلاحاً: فأنا لستُ خارج وطني، لأكون مصابةً بتذكّره عن بعيد. ولا أنا تائقةٌ إلى أزمان غابرة، لست حزينة، ولا مكتئبة، ولا تسود غيوم سوداء فوق رأسي. ولا أحلم بعودة هذه الأزمان البعيدة القريبة، وإن كنت شديدة الفضول لمجرياتها وتفاصيلها. بل أرى الحاضر يطول، أستعجل أحياناً فصوله القادمة.
إنه الشوق. الصعب، الوعر. ليس شوق المغروم الذي يغني لحبيبته لوعته على غيابها، وأمله بلقائها. ولا هو شوقي لأولادي البعيدين، ولأحفادي معهم، لأمي وأبي الراحلين. فهذا الشوق أعيه تماما، أنيّمه في أعماقي، لا أستطيع التعامل معه عن بُعد. وإذا فعلت، أتحول إلى كائن ليلي، يمشي وهو نائم.
الشوق الذي أتكلم عنه هو فعل ديناميكي خارج عن إرادتي. طائرٌ من لهبٍ يغزو قلبي عن
هجمات الذاكرة هذه كثُرت في الأيام الأخيرة. هل هو العمر، صاحب مفاتيح السنوات البعيدة؟ هل هو التطهّر الروحي الذي أسعى إليه، حثيثاً، منذ زمن؟ والذي أخلى المكان للقابع في أعماقي وحرّر بواطنه؟ أم هي الأبواب التي فتحتها لنفسي، خلال الأعوام الأخيرة، عندما لجأتُ إلى ذاكراتي لرواية تجربتي الحزبية والحربية، وما عشته، شخصياً، في حزيران 1967؟ وهل يكون التذكّر بذلك فعلاً تشغيلياً، يوقظ ترسّباتٍ ماضية، حيّة، كانت نائمة، أيقظتها الروائح، أو أشياء أخرى، أم استفاقت بنفسها؟ مثل حديقة خلفية، لم يصبْها اليباس طوال سنوات غيابي عنها، أو نسياني لها؟.