07 نوفمبر 2024
إيران.. الحاجة إلى ثورة على الثورة
يتفق أغلبية المتابعين للاحتجاجات الشعبية في إيران أن لها جذراً مطلبياً واقتصادياً، وتسمى "انتفاضة الفقراء"، فهي انطلقت إثر إفلاس شركات مالية وبنوك في مدينة مشهد، وعدم تعويض الحكومة لهم، أو إجراء ملاحقات قضائية لاسترداد حقوقهم، وتضرّر أكثر من 160 ألف عائلة بسببها، وضياع نقودهم المودعة من أجل الحصول على مساكن. هناك عامل آخر، وهو أيضاً اقتصادي، ومتعلق بالميزانية الجديدة للعام 2018، والتي فيها تعزيز للسياسات الاقتصادية الليبرالية، وفيها بنود "ظالمة" تخصُّ رفع الأسعار وزيادة الضرائب وتخفيف الدعم للسلع الأساسية للمواطنين، والتخلي عن الدعم الحكومي للمعدمين والفقراء، ويقدَّرُ عدد هؤلاء بين 20 مليونا و30 مليون إيراني، وفق إحصائيات متضاربة. ولو أضفنا نسب الفساد الضّخمة، والتي لا توفر حتى مرشد الجمهورية ذاته، علي خامنئي، ومؤسسات الحرس الثوري، فإن هناك أسباباً اقتصادية حقيقية للاحتجاجات. وثانياً، ولأن للأمر هذه الحيثية، فقد تقدمت الشعارات المطلبية والسياسية المتعلقة بالأزمة الاقتصادية العامة في إيران، بينما لم تظهر لحظة راهنة شعارات متعلقة بالتظلمات القومية أو الدينية، أو حتى بين الإصلاحيين والمحافظين بشكل كبير؛ الجدال بين الإصلاحيين والمحافظين، وأن الأخيرين هم من دفع نحو التظاهر، ثم "فلتت" الأمور، ربما يكون صحيحاً؛ لكن الأمر أكثر جذرية، وشعارات الاحتجاجات لم توفر كلاً من روحاني وخامنئي، ويتكرّر شعار: فليسقط روحاني وليسقط الديكتاتور، ولترحلوا، وألا تخجلون.
انتفاضة الفقراء
تتفاوت الأوضاع الاقتصادية هذه، بين الأقاليم وبين القوميات، فتصل نسب البطالة لدى الكرد
والعرب إلى 60% مثلاً، والنسبة العامة للبطالة هي 13%، وهناك طبقة عاملة مفقرة أيضاً وتعدادها 27 مليون إيراني، والتضخم يتزايد بشكل كبير، ما يقلل من قيمة الدخل إزاء الأسعار في الأسواق. الأوضاع المتدهورة لأغلبية المواطنين هذه اضطرت الرئيس السابق، محمود أحمدي نجاد (2005-2013)، إلى وضع قانون لدعم الفقراء، بما يعادل 11 دولارا للشخص الواحد شهرياً. وطبعاً بسبب التضخم يصبح هذا الرقم عديم القيمة والأهمية، وبالتالي، تشكلت كتلة بشرية متضرّرة من النظام، بإصلاحييه ومحافظيه؛ وقبل حكم أحمدي نجاد، واستمرت معه ومع روحاني.
غازل الرئيس روحاني، ومن أجل التجديد لولايته، مؤسسات الحرس الثوري؛ ففي وقتٍ خفف من ميزانية البنية التحتية، والقوات المسلحة الرسمية، ورفع الدعم، وزاد أسعار المحروقات، فقد رفع من ميزانية الحرس الثوري، وهذا عامل مهم للاحتجاجات؛ فأغلبية الإيرانيين، ولا سيما فئات الشباب، والتي ولدت بعد "الثورة" 1979، وبعد الحرب مع العراق، وهي نسب كبيرة، ترفض سياسات الحرس الثوري الداخلية والإقليمية وهدر الأموال على مليشيات طائفية، تخرّب في العراق ولبنان وسورية واليمن، ولا تجد سبباً حقيقياً لذلك الدعم، بينما هم يموتون جوعاً. وبالتالي، شكل هذا، أي بند رفع ميزانية الحرس الثوري، سبباً مباشراً للاحتجاجات، وأن الإيراني أولاً وليس غزة أو سورية أو لبنان "لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران". ولا يغير في الأمر شيئاً إن كانت هذه الشعارات لأسباب عنصرية وعرقية ضد العرب عرقا، أو ضدهم بسبب مساعدة العرب "الممانعين"، ويُكذبُ فكرة العنصرية هذه أن المظاهرات امتدت إلى كل مناطق قوميات إيران، ولم تظهر تطلعات قومية بعد كأطروحات حكم ذاتي أو ما شابهها.
اختلاف واتفاق
يميل أغلبية المعلّقين إلى أن أسباب تحركات 2018 مختلفة عن الحركة الخضراء 2009، فالثانية تمثّل مطالب سياسية من الطبقة الوسطى، وهي من أوساطٍ ليست ضد النظام، لكنها مع إصلاحات كثيرة فيه، بينما الاحتجاجات الحالية هي من الطبقات المفقرة والمهشمة، ومن الشباب العاطل عن العمل، وليست متمركزةً في طهران، بل تعمّ كل الأقاليم والقوميات، ولم ترفع شعاراتٍ تخص حسين مير موسوي، أو مهدي كروبي، القابعين تحت الإقامة الجبرية للحظة الراهنة، وكذلك لم تستجِبْ جماهيرُ القياديين للاحتجاجات وتنضم إليها. وبالتالي، هناك روحٌ ثورية وتمرّدية جديدة، ولا ترتبط بأي حال بأوساط 2009. ربما تنتظر الأوساط الأخيرة اشتداد عود المظاهرات، وهو حال المعارضة الخارجية، لتندمج فيها بشكل كبير، على الرغم من أن المعارضة والأحزاب القديمة بدأت تتحرّك لنصرة الاحتجاجات.
إذا هناك فئات كثيرة متضرّرة من نظام الولي الفقيه، ومن نظام روحاني، علماً أن الأخير لا يعتبر من الإصلاحيين بشكل كامل، وربما هو بين المحافظين والإصلاحيين. وأوساط المحتجين حالياً كما حال أوساط محتجي 2009، لا يعادون أميركا، وهذا يناقض الأيديولوجيا السائدة، والتي تؤكد على موقفٍ رافض للولايات المتحدة. أي أنّها أوساط أقرب إلى الليبرالية واليسار، وتريد تغييرات كبيرة في مجال العمل والحريات والسياسة، وكذلك تريد إيقاف كل أشكال الدعم للمليشيات الخارجية المدعومة منها، وأيضاً تريد إنهاء الحرس الثوري وقوات التعبئة الشعبية (الباسيج)، وكل الظواهر الخارجة عن الدولة. وإذا أضيف إلى كل هذه الأوساط المثقفون الإيرانيون الراغبون بالفصل بين الدين والدولة، وهو أمر متأصل عند كثير من رجالات الدين والمثقفين الإيرانيين، وإنْ من زاوية الإسلام، وكذلك الرافضين فكرة الولي الفقيه، فإيران مقبلة على احتجاجات كبيرة وعنيفة؛ إذ هناك سقوط كامل للأيديولوجيا الحاكمة، ورغبة في تبني أيديولوجيا ورؤية جديدة للعصر، وتنطلق من علاقات طبيعية مع الجوار العربي ومع العالم، ووفق أسس المواطنة وحقوق الإنسان.
الحرس الثوري ومؤسساته والباسيج وقوات أخرى بقيادة الولي الفقيه وجماهيره، وربما قطاع
من الإصلاحيين، وليس فقط المحافظين، سيصطفون مع النظام بوجهيه، وهذا سيعقّد المشهد كثيراً؛ الجيش "الوطني" والشرطة "الوطنية"، ربما ستضطر للتدخل للحفاظ على الدولة، سيما أن ميزانيتها أقل من ميزانية الحرس ومتضرّرة من وجوده، ولكن هذا يتطلب وقتاً إضافياً، والخوف الآن من انشقاقاتٍ كبرى فيه، كما حدث في 1979 في إيران، وكانت سبباً في إنهاء حكم الشاه! وربما يكون للانشقاق طبيعة مختلفة كما حصل في سورية، وهذا سيشكل مشكلةً كبرى على مستقبل إيران.
مشكلة القوميات المتعددة، ولا سيما الأذريين والأكراد والعرب والبلوش وسواهم، أيضاً ستُطرح بقوة، وقد أصبحت قواهم التاريخية تتحرّك في إطار الحركة المطلبية، ولم تستخدم السلاح بعد، أو الأطروحات القومية، كالحكم الذاتي وسواه. لو أضفنا القوى السياسية التي هزمها نظام الولي الفقيه، وعلق مشانقها أيضاً وهي بالآلاف، وهي المعارضة التاريخية، وهناك الشاه وأنصاره؛ هذه كلها فئات متضرّرة، وستتحرّك على أكبر أزمة اجتماعية، أزمة تتفجر بشكل واسع، وفي إطار دولة يزيد سكانها عن 80 مليونا، وأكثر من نصفهم فقراء، والمتضرّرين من سياسات النظام الحالي، ويختلفون معه في كل شيء، في سياساته الطائفية والإقليمية والتسليحية والدولية؛ أزمة بكل هذه الضخامة تتطلب حلولاً سياسية وتنازلات ضخمة، وتغييرات في الاستراتيجية الكلية للنظام. ولم يتحسّس النظام أزمته الحقيقية بعد، وهو يطوّر يومياً من خياراته الأمنية.
أدوار إقليمية
ساهم النظام الإيراني بأدوار خطيرة في إخماد الثورة في اليمن وسورية، وكذلك في إخماد الاحتجاجات في العراق وخلق "داعش"، ولعب دور خطير، ومنذ السبعينيات، في اجتثاث المقاومة الوطنية في لبنان، واستفاد أيما استفادة من تدمير الاحتلال الأميركي للعراق، وفرض هيمنة عليه، ونهب كثيرا من ثرواته، لكن مشاريعه الجنونية في تسليح المليشيات والسلاح النووي والباليستي، والرغبة في تشكيل دولة إمبراطورية والسيطرة على العرب، دفعته إلى تخصيص المليارات، وبسبب العقوبات المفروضة عليه من أميركا وأوروبا، وبسبب عدم إفراج الرئيس الأميركي عن المليارات المحتجزة وفق الاتفاق النووي، وتراجع قيمة العملة المحلية، فإن هذا النظام دخل بأزمة عميقة، وبالتالي أصبحت "الثورة" ضرورة تاريخية.
وكان للنظام الإيراني الدور الأكبر في تقوية النظام في سورية، وفي تطييف الثورة وفصائلها، وهذا ساهم في إخماد الروح الثورية في كل الدول العربية. وبالتالي، يشكل اندلاع الاحتجاجات في إيران فرصة جديدة لتجدّد الثورات العربية. وباعتبار علماء اجتماع كثيرين يؤكدون أن انتصار الثورة الإيرانية في 1979، وبقاء نظام الملالي قائماً، ساهم في تقوية النزعة الأصولية السنية. وبحدوث ثورة ضد نظام الولي الفقيه، سيما أنه لعب دوراً طائفياً في العراق واليمن وسورية ولبنان وسواها، فإن تحجيم حكم الملالي، وربما تغييرات كبرى ستحدث فيه، سيكون لها أثرٌ كبيرٌ في تجدّد الثورات العربية، وتقليص الحضور الديني السياسي، وربما سيساهم الأمر في بروز حركاتٍ علمانيةٍ وليبرالية ويسارية كذلك؛ علماً أن هناك ميلاً علمانياً واسعاً لدى المحتجين الإيرانيين حالياً؛ دور المرأة فيها مؤشرٌ بارزٌ.
أربعون عاماً مضت على إسقاط الشاه في 1979، وتمّ ذلك لأسبابٍ شبيهةٍ بما يجري الآن في إيران، ربما باستثناء استمرار أيديولوجيا نظام الملالي برفض أميركا وإسرائيل، علماً أن هذا النظام تعاون مع أميركا في كل من باكستان وأفغانستان والعراق؛ ففي العراق منذ إسقاط نظام الأخير بيد الاحتلال الأميركي 2003 تم تسليمه لحكومة تسيطر عليها أحزاب طائفية تابعة للنظام الإيراني، وتحديداً للحرس الثوري وللولي الفقيه. يُضاف أيضاً أن النظام الإيراني وظّف أكثر من سبعمائة مليار دولار في البرنامج النووي، وهو ما فعله الشاه حينما كان شرطي الخليج، و"المقاوم" الأبرز في الخليج، ومناطق كثيرة ضد الحركات الشيوعية، وأكبر مستورد للسلاح من أميركا، ووصل إلى 15 مليار دولار، وهو ما فعله النظام الحالي ضمن برامج التسليح، ودعم المليشيات الطائفية التي تفتك بالدواخل العربية، ضمن مشروع تصدير الثورة. وهناك الفساد الكبير، ويشمل كل الطبقة السياسية الحاكمة في إيران، ويكرّر بذلك حالة الشاه نفسها. الأسوأ حالياً أن الجيش جيشان، وهناك رفض شعبي واسع للحرس الثوري، والذي وظيفته حماية نظام الولي الفقيه تحديدا، وقمع الناس حينما تتظاهر بشكل يهدّد مصير الحكم، كما يفعل حالياً في كل المدن الإيرانية.
بين 1979 وما بعده
قتل نظام الولي الفقيه آلاف المعارضين السياسيين، ولا سيما من حركة مجاهدي خلق وحزب
تودة الشيوعي، ومن بقية الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والاتحادات الطلابية، وهو ما فعله النظام السابق لما قبل 1979. إذا هناك عناصر متشابهة بين حالتي 1979 والاحتجاجات أخيرا. ويضاف إليها الآن، أنه إذا كان الشاه، باعتباره حاكما مطلقا ومستبدا يتحكم بإيران، وتنوعت المعارضة ضده من رجالات دين وطلاب وأحزاب سياسية، فإن رجال الدين سقطوا في امتحان السلطة، وأصبحوا من أبرز الفاسدين، ومارسوا حكماً مطلقاً، وأحكموا "أيديهم" في مؤسسات النظام "المدني" من خلال مؤسسات تابعة للولي الفقيه، وتشلّ مدنية الحكم، كما الحال مع مؤسسة تشخيص النظام والحرس الثوري نفسه. وبالتالي، هناك رغبة عارمة لتحقيق الفصل بين الدين والدولة، وإنهاء حكم "الديكتاتور آية الله خامنئي"، كما يردّد المتظاهرون، أي أن أغلبية الشعب الإيراني، وكما ظهر في أوساط "الحركة الخضراء 2009، والأوساط الحالية تريد حكماً مدنياً بالكامل، وإعادة الدين الشيعي الاثني عشري إلى ما قبل ولاية الفقيه التي أسس لها الخميني، وأن يتخصص بقضايا الدين حصرياً.
هناك نقطة جديدة وتشابه ثورة 1979، هي أن الطلاب بدأوا بمظاهرات 1977، والتي لم تتوقف إلى لحظة رحيل حكم الشاه. يتكرّر الآن أيضاً المشهد نفسه، ويتطور كما ذكرنا إلى كل المدن الإيرانية. محاولة النظام الالتجاء للشعب وإخراج مظاهرات مندّدة بالاحتجاجات، هي وسيلة استخدمتها كل الأنظمة العربية ضد ثوراتها، وهي دلالة ضعف كبيرة في النظام، وفقدانه للمشروعية الدستورية والشعبية.
.. إذا هناك مؤشرات عديدة تشكّل ملامح أوليّة للتغير، وهي وضعية ثورية بامتياز. تطور الوضع الإيراني يتوقف على دور النظام هناك، وقد ذُكرت الخيارات الممكنة أعلاه. ويضاف هنا إن النظام لو تمكّن من دحر الاحتجاجات، ماذا لديه من مشاريع لتفادي الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أوضحت السطور السابقة بعض أوجهها؟ وكذلك كيف سيتصالح مع "الحركة الخضراء" أيضاً؟ فقد النظام في عام 2009 الطبقة الوسطى، وربما تهاوت أغلبيتها إلى شباب الاحتجاجات الحالية. وبالتالي، هناك أزمة كبيرة في إيران، وتتطلب حلاً فوراً. تسكين الوضع بالقمع، كما تفعل الأنظمة العربية، كحال مصر والسعودية وتونس وسورية وسواها ليس حلا. وبالتالي، هناك ثورات واحتجاجات وتمرّدات متعدّدة، يصعب إخمادها بشكل كامل، قبل أن تنال الشعوب حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والقومية والدينية والسياسية وسواها.
انتفاضة الفقراء
تتفاوت الأوضاع الاقتصادية هذه، بين الأقاليم وبين القوميات، فتصل نسب البطالة لدى الكرد
غازل الرئيس روحاني، ومن أجل التجديد لولايته، مؤسسات الحرس الثوري؛ ففي وقتٍ خفف من ميزانية البنية التحتية، والقوات المسلحة الرسمية، ورفع الدعم، وزاد أسعار المحروقات، فقد رفع من ميزانية الحرس الثوري، وهذا عامل مهم للاحتجاجات؛ فأغلبية الإيرانيين، ولا سيما فئات الشباب، والتي ولدت بعد "الثورة" 1979، وبعد الحرب مع العراق، وهي نسب كبيرة، ترفض سياسات الحرس الثوري الداخلية والإقليمية وهدر الأموال على مليشيات طائفية، تخرّب في العراق ولبنان وسورية واليمن، ولا تجد سبباً حقيقياً لذلك الدعم، بينما هم يموتون جوعاً. وبالتالي، شكل هذا، أي بند رفع ميزانية الحرس الثوري، سبباً مباشراً للاحتجاجات، وأن الإيراني أولاً وليس غزة أو سورية أو لبنان "لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران". ولا يغير في الأمر شيئاً إن كانت هذه الشعارات لأسباب عنصرية وعرقية ضد العرب عرقا، أو ضدهم بسبب مساعدة العرب "الممانعين"، ويُكذبُ فكرة العنصرية هذه أن المظاهرات امتدت إلى كل مناطق قوميات إيران، ولم تظهر تطلعات قومية بعد كأطروحات حكم ذاتي أو ما شابهها.
اختلاف واتفاق
يميل أغلبية المعلّقين إلى أن أسباب تحركات 2018 مختلفة عن الحركة الخضراء 2009، فالثانية تمثّل مطالب سياسية من الطبقة الوسطى، وهي من أوساطٍ ليست ضد النظام، لكنها مع إصلاحات كثيرة فيه، بينما الاحتجاجات الحالية هي من الطبقات المفقرة والمهشمة، ومن الشباب العاطل عن العمل، وليست متمركزةً في طهران، بل تعمّ كل الأقاليم والقوميات، ولم ترفع شعاراتٍ تخص حسين مير موسوي، أو مهدي كروبي، القابعين تحت الإقامة الجبرية للحظة الراهنة، وكذلك لم تستجِبْ جماهيرُ القياديين للاحتجاجات وتنضم إليها. وبالتالي، هناك روحٌ ثورية وتمرّدية جديدة، ولا ترتبط بأي حال بأوساط 2009. ربما تنتظر الأوساط الأخيرة اشتداد عود المظاهرات، وهو حال المعارضة الخارجية، لتندمج فيها بشكل كبير، على الرغم من أن المعارضة والأحزاب القديمة بدأت تتحرّك لنصرة الاحتجاجات.
إذا هناك فئات كثيرة متضرّرة من نظام الولي الفقيه، ومن نظام روحاني، علماً أن الأخير لا يعتبر من الإصلاحيين بشكل كامل، وربما هو بين المحافظين والإصلاحيين. وأوساط المحتجين حالياً كما حال أوساط محتجي 2009، لا يعادون أميركا، وهذا يناقض الأيديولوجيا السائدة، والتي تؤكد على موقفٍ رافض للولايات المتحدة. أي أنّها أوساط أقرب إلى الليبرالية واليسار، وتريد تغييرات كبيرة في مجال العمل والحريات والسياسة، وكذلك تريد إيقاف كل أشكال الدعم للمليشيات الخارجية المدعومة منها، وأيضاً تريد إنهاء الحرس الثوري وقوات التعبئة الشعبية (الباسيج)، وكل الظواهر الخارجة عن الدولة. وإذا أضيف إلى كل هذه الأوساط المثقفون الإيرانيون الراغبون بالفصل بين الدين والدولة، وهو أمر متأصل عند كثير من رجالات الدين والمثقفين الإيرانيين، وإنْ من زاوية الإسلام، وكذلك الرافضين فكرة الولي الفقيه، فإيران مقبلة على احتجاجات كبيرة وعنيفة؛ إذ هناك سقوط كامل للأيديولوجيا الحاكمة، ورغبة في تبني أيديولوجيا ورؤية جديدة للعصر، وتنطلق من علاقات طبيعية مع الجوار العربي ومع العالم، ووفق أسس المواطنة وحقوق الإنسان.
الحرس الثوري ومؤسساته والباسيج وقوات أخرى بقيادة الولي الفقيه وجماهيره، وربما قطاع
مشكلة القوميات المتعددة، ولا سيما الأذريين والأكراد والعرب والبلوش وسواهم، أيضاً ستُطرح بقوة، وقد أصبحت قواهم التاريخية تتحرّك في إطار الحركة المطلبية، ولم تستخدم السلاح بعد، أو الأطروحات القومية، كالحكم الذاتي وسواه. لو أضفنا القوى السياسية التي هزمها نظام الولي الفقيه، وعلق مشانقها أيضاً وهي بالآلاف، وهي المعارضة التاريخية، وهناك الشاه وأنصاره؛ هذه كلها فئات متضرّرة، وستتحرّك على أكبر أزمة اجتماعية، أزمة تتفجر بشكل واسع، وفي إطار دولة يزيد سكانها عن 80 مليونا، وأكثر من نصفهم فقراء، والمتضرّرين من سياسات النظام الحالي، ويختلفون معه في كل شيء، في سياساته الطائفية والإقليمية والتسليحية والدولية؛ أزمة بكل هذه الضخامة تتطلب حلولاً سياسية وتنازلات ضخمة، وتغييرات في الاستراتيجية الكلية للنظام. ولم يتحسّس النظام أزمته الحقيقية بعد، وهو يطوّر يومياً من خياراته الأمنية.
أدوار إقليمية
ساهم النظام الإيراني بأدوار خطيرة في إخماد الثورة في اليمن وسورية، وكذلك في إخماد الاحتجاجات في العراق وخلق "داعش"، ولعب دور خطير، ومنذ السبعينيات، في اجتثاث المقاومة الوطنية في لبنان، واستفاد أيما استفادة من تدمير الاحتلال الأميركي للعراق، وفرض هيمنة عليه، ونهب كثيرا من ثرواته، لكن مشاريعه الجنونية في تسليح المليشيات والسلاح النووي والباليستي، والرغبة في تشكيل دولة إمبراطورية والسيطرة على العرب، دفعته إلى تخصيص المليارات، وبسبب العقوبات المفروضة عليه من أميركا وأوروبا، وبسبب عدم إفراج الرئيس الأميركي عن المليارات المحتجزة وفق الاتفاق النووي، وتراجع قيمة العملة المحلية، فإن هذا النظام دخل بأزمة عميقة، وبالتالي أصبحت "الثورة" ضرورة تاريخية.
وكان للنظام الإيراني الدور الأكبر في تقوية النظام في سورية، وفي تطييف الثورة وفصائلها، وهذا ساهم في إخماد الروح الثورية في كل الدول العربية. وبالتالي، يشكل اندلاع الاحتجاجات في إيران فرصة جديدة لتجدّد الثورات العربية. وباعتبار علماء اجتماع كثيرين يؤكدون أن انتصار الثورة الإيرانية في 1979، وبقاء نظام الملالي قائماً، ساهم في تقوية النزعة الأصولية السنية. وبحدوث ثورة ضد نظام الولي الفقيه، سيما أنه لعب دوراً طائفياً في العراق واليمن وسورية ولبنان وسواها، فإن تحجيم حكم الملالي، وربما تغييرات كبرى ستحدث فيه، سيكون لها أثرٌ كبيرٌ في تجدّد الثورات العربية، وتقليص الحضور الديني السياسي، وربما سيساهم الأمر في بروز حركاتٍ علمانيةٍ وليبرالية ويسارية كذلك؛ علماً أن هناك ميلاً علمانياً واسعاً لدى المحتجين الإيرانيين حالياً؛ دور المرأة فيها مؤشرٌ بارزٌ.
أربعون عاماً مضت على إسقاط الشاه في 1979، وتمّ ذلك لأسبابٍ شبيهةٍ بما يجري الآن في إيران، ربما باستثناء استمرار أيديولوجيا نظام الملالي برفض أميركا وإسرائيل، علماً أن هذا النظام تعاون مع أميركا في كل من باكستان وأفغانستان والعراق؛ ففي العراق منذ إسقاط نظام الأخير بيد الاحتلال الأميركي 2003 تم تسليمه لحكومة تسيطر عليها أحزاب طائفية تابعة للنظام الإيراني، وتحديداً للحرس الثوري وللولي الفقيه. يُضاف أيضاً أن النظام الإيراني وظّف أكثر من سبعمائة مليار دولار في البرنامج النووي، وهو ما فعله الشاه حينما كان شرطي الخليج، و"المقاوم" الأبرز في الخليج، ومناطق كثيرة ضد الحركات الشيوعية، وأكبر مستورد للسلاح من أميركا، ووصل إلى 15 مليار دولار، وهو ما فعله النظام الحالي ضمن برامج التسليح، ودعم المليشيات الطائفية التي تفتك بالدواخل العربية، ضمن مشروع تصدير الثورة. وهناك الفساد الكبير، ويشمل كل الطبقة السياسية الحاكمة في إيران، ويكرّر بذلك حالة الشاه نفسها. الأسوأ حالياً أن الجيش جيشان، وهناك رفض شعبي واسع للحرس الثوري، والذي وظيفته حماية نظام الولي الفقيه تحديدا، وقمع الناس حينما تتظاهر بشكل يهدّد مصير الحكم، كما يفعل حالياً في كل المدن الإيرانية.
بين 1979 وما بعده
قتل نظام الولي الفقيه آلاف المعارضين السياسيين، ولا سيما من حركة مجاهدي خلق وحزب
هناك نقطة جديدة وتشابه ثورة 1979، هي أن الطلاب بدأوا بمظاهرات 1977، والتي لم تتوقف إلى لحظة رحيل حكم الشاه. يتكرّر الآن أيضاً المشهد نفسه، ويتطور كما ذكرنا إلى كل المدن الإيرانية. محاولة النظام الالتجاء للشعب وإخراج مظاهرات مندّدة بالاحتجاجات، هي وسيلة استخدمتها كل الأنظمة العربية ضد ثوراتها، وهي دلالة ضعف كبيرة في النظام، وفقدانه للمشروعية الدستورية والشعبية.
.. إذا هناك مؤشرات عديدة تشكّل ملامح أوليّة للتغير، وهي وضعية ثورية بامتياز. تطور الوضع الإيراني يتوقف على دور النظام هناك، وقد ذُكرت الخيارات الممكنة أعلاه. ويضاف هنا إن النظام لو تمكّن من دحر الاحتجاجات، ماذا لديه من مشاريع لتفادي الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أوضحت السطور السابقة بعض أوجهها؟ وكذلك كيف سيتصالح مع "الحركة الخضراء" أيضاً؟ فقد النظام في عام 2009 الطبقة الوسطى، وربما تهاوت أغلبيتها إلى شباب الاحتجاجات الحالية. وبالتالي، هناك أزمة كبيرة في إيران، وتتطلب حلاً فوراً. تسكين الوضع بالقمع، كما تفعل الأنظمة العربية، كحال مصر والسعودية وتونس وسورية وسواها ليس حلا. وبالتالي، هناك ثورات واحتجاجات وتمرّدات متعدّدة، يصعب إخمادها بشكل كامل، قبل أن تنال الشعوب حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والقومية والدينية والسياسية وسواها.