05 نوفمبر 2018
إقالة تيلرسون.. بين الواقع والأوهام
طبقاً لرواية مقرّبين من وزير الخارجية الأميركية المقال، ريكس تيلرسون، اتصل به رئيس موظفي البيت الأبيض الجنرال جون كيلي، يوم الخميس قبل الماضي (8/3/2018)، ليخبره بضرورة قطع زيارته أفريقيا والعودة إلى واشنطن، وأبلغه أيضاً أنه قد يجد تغريدةً من الرئيس تتعلق به. وبالفعل، اختصر تيلرسون زيارته، ووصل إلى واشنطن فجر يوم الثلاثاء، وذهب إلى منزله لينام ساعتين، قبل بدء يوم عمل جديد، إلا أنه استيقظ على يد كبير مساعديه، ليخبره أن الرئيس دونالد ترامب غرّد قائلاً "إنه سيعين مايك بومبيو وزيراً جديداً للخارجية، وأنه يشكر تيلرسون على خدماته، ويتمنى له حظاً موفقاً". وبهذه الطريقة المهينة، عرف تيلرسون بقرار طرده من الإدارة الأميركية، وهو ما كان يتوقعه كثيرون من خبراء الشأن الأميركي، نظراً إلى الخلافات الجوهرية بين تيلرسون وترامب، والتي تشمل أبعاداً ثلاثة، شخصية، وأيديولوجية وسياسية داخلية.
من جانب آخر، وعلى بعد أكثر من ثمانية ألاف ميل، خرج علينا أحد مستشاري حكام دولة الإمارات العربية، مغرداً أن "التاريخ سيذكر أن دولة خليجية كان لها دور ما في طرد وزير خارجية دولة عظمى، وهذا قليل من كثير". ويثير هذا الموقف الشفقة، ويعكس جهلاً كبيراً بتفاصيل الحياة السياسية الأميركية، وتعقيدات واشنطن التي يصعب على كثيرين فهمها.
.. نعم مثلت إقالة تيلرسون صدمة في واشنطن، لكنها لم تكن مفاجأة في أي حال. ومنذ منتصف الصيف الماضي، تخرج تكهنات بقرب إقالة تيلرسون، وكان غريباً بقاؤه لأشهر طويلة، بعدما وصف الرئيس الأميركي بالأحمق أمام مسؤولين من وزارتي الدفاع والخارجية، اجتمع بهم ترامب في مبنى البنتاغون في شهر يوليو/ تموز الماضي. ولم ينفِ تيلرسون وصف الرئيس بالأحمق، وإنما تجنب الإجابة على السؤال، لكي لا يكذب.
على المستوى الشخصي، جاء تيلرسون لوزارة الخارجية واثقًا بالنفس، كونه قادماً من رئاسة
أكبر شركات العالم في مجال الطاقة. ولم يكن تيلرسون دمية في يد الرئيس، ولم يكن له أي طموح سياسي مستقبلي، كما أكد مراراً. من ناحية أخرى، يشعر ترامب، بعد بقائه أكثر من 15 شهراً في السلطة، بالثقة في النفس، وبضرورة إحاطة نفسه فقط بمن يدينون بولاء مطلق له، وبمن يملك كيمياء شخصية معه. وعلى العكس مما كان عليه الحال عند دخوله البيت الأبيض ومراعاته توازنات القوة داخل المعسكر الجمهوري المتنوع في تشكيل أركان إدارته. وعلى المستوى الشخصي أيضاً، اصطدم تيلرسون بسيطرة صهر الرئيس جاريد كوشنير على ملفات خارجية شديدة الأهمية، مثل ملفي القضية الفلسطينية، والعلاقات مع المكسيك. ولم ير تيلرسون ولا وزارة الخارجية في كوشنير، أي مهارات أو مواصفات خاصة، تمكّنه من إدارة ملفات بهذه الأهمية، خصوصاً بعدما فقد التصريح الأمني اللازم للاطلاع على ملفات الأمن القومي السرية. وجاءت خطوة قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، وهي القرارات التي هُمشت فيها بصورة غير مسبوقة وزارة الخارجية، لكي تعكس حجم نفوذ معسكر أنصار الولاء الشخصي لترامب في صنع قرارات مصيرية.
وعلى المستوى الأيديولوجي، مثل تيلرسون أحد أهم أضلاع معسكر أنصار العولمة (Globalist) في مقابل معسكر القوميين(Nationalist). ومنذ اليوم الأول لحكم ترامب، ظهر الانقسام واضحاً في تناول قضايا رئيسية مهمة، تعهد بها المرشح ترامب في أثناء حملته الانتخابية، وفي مقدمتها قضايا التجارة الحرة الدولية، ومنع دخول مواطني دول إسلامية للولايات المتحدة وقضية الاحتباس الحراري واتفاقية باريس للتغير المناخي.
مثل فريق أنصار العولمة إلى جانب تيلرسون الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع بالأساس، وشكلاً معاً جبهة واقعية في إدارة ملفات السياسة الخارجية المعقدة والشائكة. وظهر الاصطدام الإيديولوجي مع ترامب واضحاً في قضايا شديدة الأهمية للمصالح الأميركية، خصوصاً مع تصميم الرئيس ترامب على فرض رؤيته على هذه القضايا. وجاءت قضية الاتفاق النووي الإيراني وملف إدارة الأزمة مع كوريا الشمالية، لكي يصل الانقسام إلى نقطة اللاعودة مع
وزير الخارجية تيلرسون الذي نادى دوماً بضرورة الإبقاء على الاتفاق النووي الإيراني، مع ضرورة التشدد فيما يتعلق بفرض مزيد من العقوبات على طهران. وكثيراً ما عبر تيلرسون في لقاءاته مع قادة ووزراء غربيين عن التزام بلاده بالاتفاق النووي، وهو ما أغضب ترامب ومعسكر القوميين داخل الإدارة الأميركية ممن يريدون الانسحاب من الاتفاق النووي. ثم كانت تفاعلات الأزمة مع كوريا الشمالية وملفها النووي مثالاً واضحاً على عمق الفجوة بين الطرفين، ففي وقتٍ كان ترامب يطلق تغريدات شديدة العدائية تجاه كوريا الشمالية وقائدها كيم جونغ أون، كان تيلرسون يزور العواصم المعنية، مثل سول وطوكيو وموسكو وبكين مروجاً لضرورة الجلوس على مائدة التفاوض، هو ما دعا ترامب إلى السخرية من تيلرسون، قائلاً في تغريدة له "أخبرت ريكس تيلرسون، وزير خارجيتنا الرائع، بأنه يضيع وقته في محاولة التفاوض مع الرجل الصاروخي الصغير"، في إشارة إلى زعيم كوريا الشمالية. وأضاف "وفر وقتك، يا ريكس، سوف نفعل ما يجب أن نفعله". ولأن ترامب غريب الأطوار، ها هو يجنح إلى الحل الدبلوماسي، كما كان يريد تيلرسون!.
أما مستوى السياسة الداخلية وعلاقتها بإقالة ترامب تيلرسون، فيتعلق الأمر أساساً بانتخابات الكونغرس، والمقرر لها بداية نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وتشمل كل مقاعد مجلس النواب الـ 435، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ. ويريد ترامب العودة القوية إلى قواعده الانتخابية التي أوصلته إلى البيت الأبيض. ويخشى ترامب حصول الديمقراطيين على أغلبية في مجلس الشيوخ أو مجلس النواب، لما لذلك من تداعيات خطيرة على مستقبله السياسي، في ضوء استمرار التحقيقات بشأن التدخل الروسي في انتخابات 2016. من هنا، يطيح ترامب ممثلي تيار العولمة داخل إدارته، ويأتي بممثلي معسكر القومية الأميركية التي يمثل مايك بومبيو المرشح الجديد لوزارة الخارجية أحد رموزها، فهو ابن بار لحركة الشاي (Tea Party) ويعكس مواقف متشددة ويدين بولاء مطلق لترامب.
في النهاية، وبعد عرض ما سبق، ليست مستغربة صعوبة فهم مستشار الدولة الخليجية تفاصيل المشهد الواشنطوني وتعقيداته.
من جانب آخر، وعلى بعد أكثر من ثمانية ألاف ميل، خرج علينا أحد مستشاري حكام دولة الإمارات العربية، مغرداً أن "التاريخ سيذكر أن دولة خليجية كان لها دور ما في طرد وزير خارجية دولة عظمى، وهذا قليل من كثير". ويثير هذا الموقف الشفقة، ويعكس جهلاً كبيراً بتفاصيل الحياة السياسية الأميركية، وتعقيدات واشنطن التي يصعب على كثيرين فهمها.
.. نعم مثلت إقالة تيلرسون صدمة في واشنطن، لكنها لم تكن مفاجأة في أي حال. ومنذ منتصف الصيف الماضي، تخرج تكهنات بقرب إقالة تيلرسون، وكان غريباً بقاؤه لأشهر طويلة، بعدما وصف الرئيس الأميركي بالأحمق أمام مسؤولين من وزارتي الدفاع والخارجية، اجتمع بهم ترامب في مبنى البنتاغون في شهر يوليو/ تموز الماضي. ولم ينفِ تيلرسون وصف الرئيس بالأحمق، وإنما تجنب الإجابة على السؤال، لكي لا يكذب.
على المستوى الشخصي، جاء تيلرسون لوزارة الخارجية واثقًا بالنفس، كونه قادماً من رئاسة
وعلى المستوى الأيديولوجي، مثل تيلرسون أحد أهم أضلاع معسكر أنصار العولمة (Globalist) في مقابل معسكر القوميين(Nationalist). ومنذ اليوم الأول لحكم ترامب، ظهر الانقسام واضحاً في تناول قضايا رئيسية مهمة، تعهد بها المرشح ترامب في أثناء حملته الانتخابية، وفي مقدمتها قضايا التجارة الحرة الدولية، ومنع دخول مواطني دول إسلامية للولايات المتحدة وقضية الاحتباس الحراري واتفاقية باريس للتغير المناخي.
مثل فريق أنصار العولمة إلى جانب تيلرسون الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع بالأساس، وشكلاً معاً جبهة واقعية في إدارة ملفات السياسة الخارجية المعقدة والشائكة. وظهر الاصطدام الإيديولوجي مع ترامب واضحاً في قضايا شديدة الأهمية للمصالح الأميركية، خصوصاً مع تصميم الرئيس ترامب على فرض رؤيته على هذه القضايا. وجاءت قضية الاتفاق النووي الإيراني وملف إدارة الأزمة مع كوريا الشمالية، لكي يصل الانقسام إلى نقطة اللاعودة مع
أما مستوى السياسة الداخلية وعلاقتها بإقالة ترامب تيلرسون، فيتعلق الأمر أساساً بانتخابات الكونغرس، والمقرر لها بداية نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وتشمل كل مقاعد مجلس النواب الـ 435، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ. ويريد ترامب العودة القوية إلى قواعده الانتخابية التي أوصلته إلى البيت الأبيض. ويخشى ترامب حصول الديمقراطيين على أغلبية في مجلس الشيوخ أو مجلس النواب، لما لذلك من تداعيات خطيرة على مستقبله السياسي، في ضوء استمرار التحقيقات بشأن التدخل الروسي في انتخابات 2016. من هنا، يطيح ترامب ممثلي تيار العولمة داخل إدارته، ويأتي بممثلي معسكر القومية الأميركية التي يمثل مايك بومبيو المرشح الجديد لوزارة الخارجية أحد رموزها، فهو ابن بار لحركة الشاي (Tea Party) ويعكس مواقف متشددة ويدين بولاء مطلق لترامب.
في النهاية، وبعد عرض ما سبق، ليست مستغربة صعوبة فهم مستشار الدولة الخليجية تفاصيل المشهد الواشنطوني وتعقيداته.