طهران والعالم العربي.. الأمن امتداد للسياسة

24 مارس 2018
+ الخط -
اختار وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، عنوان "نحو نموذج أمني جديد" لمقاله في "العربي الجديد" (20 مارس/ آذار الجاري)، إلا أن المقال برمته يقفز عن الواقع الشاذ القائم، مع دعوة ضمنية إلى التطبيع مع هذا الواقع، ومنح صفة الديمومة لما هو "قديم". والواقع هو أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمنح نفسها الحق بالتدخل في شؤون دول أخرى، ويرتدي هذه التدخل طابعا عسكريا وتسليحيا لمليشيات محلية. كما يرتدي طابعا مذهبيا لتمزيق النسيج الاجتماعي وبث الفتن الطائفية، وينزع هذا التدخل نزعة إرهابية باستهداف المدنيين والمرافق المدنية، كما هو الحال في العراق وسورية.
لم تكن الأوضاع جيدة قبل ظهور "داعش"، وتمكّنها، في ظروف مريبة، في الموصل العراقية والرّقة السورية. وليست الأوضاع جيدة بعد هزيمة "داعش"، وحيث لم يكن لإيران دور في هذه الهزيمة، خصوصا في سورية. وعليه، فإن ظاهرة التطرّف والإرهاب إذ أخذت منحىً تصاعديا لها مع بروز "داعش"، إلا أنها لا تُختزل في هذا التنظيم الإرهابي فحسب، فكل استهداف للمدنيين وللمرافق المدنية ودور العبادة هو إرهاب، وذروة للتطرف المشين.
وبما أن كل مظاهر العلاقات بين الدول تبدأ بالتفاهمات السياسية، فإنه يتعذر الحديث عن تفاهماتٍ ذات طابع أمني، من غير بلوغ توافق على إقامة علاقات طبيعية وعادية. والحال أن سلوك طهران ينم عن رفض علاقاتٍ من هذا النوع، متذرعة بهيمنة أميركية ومطامع إسرائيلية، وكأن الرد الصالح على تلك الهيمنة والأطماع هو بابتداع هيمنة وأطماع من طرف آخر.. إسلامي.
يكتب ظريف عن تعاقدات يربح فيها الجميع في المنطقة، ويحاول بذلك اختراع البارود من 
جديد، فالجميع يربحون حين تنشأ علاقات طبيعية، لا محل فيها للطموحات غير المشروعة خارج الحدود. مثل هذه الطموحات المقترنة بتدخلات وبخطاب طائفي عابر للحدود يخترق سلامة المجتمعات، وبخطابات عسكرية قومية وإمبراطورية، لا يمكن أن ترسي علاقات طبيعية، وقد تسمح، في أقصى الحالات، بعلاقات دبلوماسية شكلية، كما هي الحال في علاقات طهران بعدد من العواصم العربية.
سبق أن اقترحت دول خليجية إجراء حوار مع طهران على مستوى ثنائي، وعلى مستوى إقليمي (خليجي)، ولم تبد طهران أي استعداد لمراجعة سياساتها التي أدت إلى تعطل الحوار. بمعنى أنها لم تُظهر أي اعتراف بالمشكلة، أو الرغبة في حلها، ورفضت من قبل أي حوار بشأن الجزر الثلاث التي تحتلها.
وإذا كان الأمر يتعلق بحوار شكلي، أو بحوار لمجرد الحوار، فذلك متيسر عبر الأقنية الدبلوماسية التي تربط طهران بعدد كبير من العواصم العربية. والحال أن طهران تتجاهل الأسباب التي أدت إلى جمود علاقاتها مع العالم العربي، مشرقه وخليجه ومغربه. وتنظر بنظرة متعالية إلى العالمين، العربي والإسلامي، وليست معنيةً سوى ببسط النفوذ وإثارة الاستقطاب الطائفي في مجتمعات المسلمين، واعتماده قنطرة للاختراق، وهذا هو حال سلوكها في اليمن والعراق ولبنان وسورية، وسبق أن احتجت دول أخرى، منها السودان والجزائر وموريتانيا، على تدخلات إيرانية ذات منزع مذهبي. وهي أمور لم يُقدم عليها الاستعمار الغربي للمنطقة.
تتحمل طهران جزءا كبيرا من مسؤولية اتشاح فضاء المنطقة بالسواد: بشر أبرياء يقتلون بلا سبب، مرافق مدنية ودور عبادة يجري تدميرها، بث الكراهية الشنيعة في صفوف المسلمين تجاه بعضهم بعضا، برفع رايات طائفية، وهو أمر لا سابق له في مجتمعاتنا، إهدار مليارات الدولارات في معارك عمياء بعيدا عن محاربة "داعش"، صرف الأنظار عن التحدي الإسرائيلي، استضعاف دول وشعوب ومجتمعات برمتها، عدم احترام الروابط التي تجمع العالم العربي، دولا وشعوبا، الحؤول دون إقامة علاقات طبيعية بين الشعوب العربية والإيرانية، في ظل الاختلالات السياسية القائمة. ذلك كله ينسف فرص الحوار، ويقوّض الثقة، ويثير مشاعر التوجس، وتجاهله يعني شيئا واحدا، وهو العزم على إبقاء الشذوذ السياسي القائم، أملا بأن يتحول العالم العربي إلى كيانات ممزقة مهيضة الجناح، خائرة القوى، لا تجد من "يحدب"عليها سوى المتسبب بتمزيقها، وهو ما يفسر تصريحاتٍ للوزير ظريف، سبقت نشر مقاله، أعرب فيها عن استعداد حكومة بلاده لدعم من يستنجد بها! وهي أفضل وصفةٍ لضمان انتقال الخراب من سورية والعراق ولبنان واليمن إلى دول عربية أخرى.
لقد سبق أن رحب العرب بقيام الثورة الإيرانية، أملا بإنقاذ شعوب إيران من عسف نظام الشاه، ولوضع حد للطموحات الإمبراطورية الشاهنشاهية خارج الحدود، فإذا بالعهد الجديد يعيد إنتاج 
نظام الشاه بلبوس إسلامي، فالعسف تجاه الأقليات العرقية والدينية اشتدت وتيرته، وباتت الثورة ليست أمرا خاصا بالدولة الإيرانية وشعوبها، بل شأناً للتصدير، ومن لم يشأ استيرادها، فإنه يتم تصديرها إليه عنوة، عبر عمليات الاستقطاب والتأليب وشراء الولاءات، وتم رفع راية القدس من أجل اختراق المجتمعات العربية، وفرض الأجندة الإيرانية على الأحزاب والقوى السياسية، وحتى موسم الحج تحول إلى مناسبةٍ لتسميم العلاقات بين المسلمين، ورفع شعارات سياسية خاصة بالحكم الإيراني.
على مثل هذا النحو، تم بناء "الثقة" بين طهران والمجتمعات العربية، عقودا، وقد جاءت مقالة رئيس الدبلوماسية الإيرانية لكي تقفز عن هذا الواقع الشائك، ولكي تصور المشكلة على أنها تتمحور حول غياب الحوار! وكأن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، يتجول بين سورية والعراق من أجل إشاعة ثقافة الحوار، وكأن تدمير كل فرصة لحل سياسي في سورية جنبا إلى جنب مع حملات الإبادة بحق المدنيين هو في سبيل تهيئة الأجواء لحوار، وكذا الحال في دعم الحوثيين للانقضاض على ثورة الشعب اليمني، وعلى الدولة اليمنية، هو بمنزلة خطوة نحو حوار مثمر.
من المؤسف أن مقالة الوزير ظريف لا تثير أي أمل بحل جدّي لمشكلات جدية، وأنها تفترض أن العرب فاقدو الإرادة السياسية، وقابلون لأن يساوموا على سيادة بلدانهم واستقلالها، أمام من يفاخرون بأنهم اجتاحوا أربعة بلدان حتى الآن. علما أن الحاجة تظل قائمة من أجل إقامة علاقات طبيعية مثمرة مع الجار الإيراني على قاعدة الاحترام المتبادل وتنمية المصالح المشتركة، وتعزيز أوجه التعاون، وذلك في حال نظرت إيران إلى "نفسها" باعتبارها دولة طبيعية، لا مطامع لها خارج حدودها، وتمتنع عن التدخل في شؤون الدول والمجتمعات الأخرى، وخصوصا العربية والإسلامية منها.
محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.