27 أكتوبر 2024
بين العمارة والحضارة والحراك الاجتماعي
عرضت أخيرا إحدى قنوات الدراما المصرية مسلسل "الراية البيضا"، وهو يُعدّ من روائع الأعمال الدرامية المصرية، لمؤلّفه الراحل أسامة أنور عكاشة، الذي يُعدّ من أفضل وأشهر من كتب للدراما التليفزيونية في العالم العربي، فلم يكن مجرّد كاتب دراما تهدف أعماله إلى التسلية والإمتاع، بقدر ما كان عموداً رئيسياً وعلامة بارزة في صنعة الكتابة الدرامية، وكانت أعماله أقرب إلى "الرواية التليفزيونية"، كما جاءت أحياناً أشبه بسرديات تاريخية، عبر تفاعل الإنسان مع المكان والزمان، امتزج فيها التحليل السياسي والفكري بالنقد الاجتماعي لفصول تاريخ مصر الحديث، وحرص على تضمينها انحيازاته الفكرية، وتحيّزاته الاجتماعية.
جاءت أحداث "الراية البيضا" حاملة دلالات سياسية واجتماعية، مُكثَّفة ومتعددّة المستويات، فقد كانت أشبه بمعركة حربية ذات نزعة صفرية وصراع وجودي مرير، جرى في مدينة الإسكندرية ذات الطابع الثقافي الحضاري التنوّعي "الكوزموبوليتاني" الذي ميّزها طوال تاريخها. وكان بين فريقيْن، الأول فريق الدكتور مفيد أبو الغار (الدبلوماسي السابق الذي عاد إلى مسقط رأسه بعد تقاعده، للاستمتاع بحياة هادئة، يسعد فيها بممارسة هواياته القديمة بالقراءة، والاستماع للموسيقى الكلاسيكية، إلا أنه وجد نفسه غارقاً في لجّة أخطر معارك حياته، لما تحمله من صدام قيمي مروِّع بين التحضُّر والسوقيّة، حسبما جاء على لسانه في المسلسل)، ويمثّل هذا الفريق عصر الرقي والجمال والذوق والأصالة. وفريق فضّة المعداوي
الذي يمثّل عصر الانحطاط والقبح والجهل والسوقية، وتمركز الصراع بينها على القصر الأثري البديع المملوك لأبو الغار، بعدما طمعت المعداوي في شرائه بأي شكل، من أجل هدمه ليحلّ محلّه برج إسمنتي من تلك الأبراج القبيحة التي صارت تغصّ بها المدن المصرية في العقود الأخيرة.
على الرغم من مرور نحو ثلاثين عاماً على إنتاج هذا العمل، إلا أنّه ما زال صالحاً للمشاهدة مرّة بعد الأخرى، فمازالت أحداثه جارية بصورة متكررّة في الحاضر، فقد بدا وكأنّه نبوءة مُبكّرة وصيحة تحذير في آنٍ معاً، لما حاق بمظاهر الجمال الحضاري الأصيل في الإسكندرية وغيرها من مدن مصر في العقود الأخيرة، على يد القبح والعشوائية التي حرصت على ملاحقة معالم الجمال عبر هجوم كاسح، ودهسها بسنابكها، ودكّها دكّاً بكل قسوة وهمجية.
في جولات المعركة، وقف أبو الغار وفريقه أَعزَلَ، سوى ممّا يحمله من قوة ناعمة متمثّلة في منظومة القيم والمبادئ الأصيلة التي تنتمي إلى عصر مضى، تمتّعت فيه الطبقة الوسطى بقدر كبير من الأمان، مكنّها من الاحتفاظ بمكانتها الاجتماعية اللائقة، في مواجهة خشونة الطبقة الرأسمالية الطفيلية، وفظاظتها وتوحشها، وهي التي ظهرت فجأة في غفلة من الزمن، والتي أُثريَت من ممارسة أنشطة اقتصادية طفيلية كانت في أحيان كثيرة غير شرعية، في حقبة "الانفتاح" التي شهدتها مصر في سبعينيات القرن العشرين. وأعلنت هذه الطبقة عن نفسها بكلّ قوة، وبصورة زاعقة في مواجهة كل طبقات المجتمع، وسعت إلى تدارك نقصها وستر عوراتها المعنوية المتمثّلة في ما تتسم به من جهل وسوقيّة وانحطاط في لغة الخطاب وفساد في الذوق، عبر تضخيم ثرواتها، أيّاً كان مصدر تلك الثروات، ثمّ الاستيلاء في مرحلة لاحقة على ما لم يكن يخطر ببالها في أجمل أحلامها، ثمّ تزاوجت مع السلطة في حقبة لاحقة من أجل صياغة بنية سياسية وقانونية، تمكّنها من زيادة مكاسبها وامتيازاتها التي تحظى بها من دون أي مسوّغ منطقي.
كما جاء في عدد من أعماله، اختار عكاشة نهاية مفتوحة لـ"الراية البيضا"، بهدف استنفار المشاهدين، ودعوتهم صراحةً إلى التحرّر من السلبية، والتفاعل والمشاركة بإيجابية، والانتصار لمنظومة القيم والجمال، عبر نصرة الطرف المقهور الذي رفع "الراية البيضا" مُكرهاً مضطراً. وجاء المشهد الأخير من العمل حاملاً دلالات متعددّة، بالاعتصام الأسطوري لأبو الغار وفريقه جلوساً في صفٍّ واحدٍ بأيادٍ متشابكة أمام جرّافة فضّة المعداوي التي تتقدّم نحوهم، مستهدفة الشروع في هدم القصر، وكانت العبارة الختامية التي جاءت على لسان سيّد حنفي: "هتيجي لحظة يعرفوا تتار الزمن الأغبر إن الناس أقوى من كل بلدوزرات الدنيا" ثمّ النداء الصوتي الأخير للمشاهدين.
تتعيّن الإشارة إلى أنّ للنشاط الاقتصادي السائد في المجتمع تأثيراً مباشراً على الحراك الاجتماعي وآليات وروافع الصعود الطبقي، فالاقتصاد الطفيلي يؤدي إلى حراك اجتماعي
عشوائي، ويجعل من قيم الكسب السريع و"الفهلوة" وضربات الحظّ قيماً عليا للمجتمع. وفي المقابل، يؤدي الاقتصاد الإنتاجي إلى حراك اجتماعي منضبط، ويجعل من قيم العمل، والمثابرة، والكفاءة، قيماً عليا للمجتمع، وهو ما ينعكس مباشرة على التكوين القيمي والمعرفي لفئات المجتمع، ومنظومة القيم السائدة فيه، لا سيّما الطبقة الوسطى، رافعة أي نهضة حضارية. الأمر الذي يظهر جليّاً على السمت المعماري، والإنتاج الأدبي والفنّي، فهذه النواحي مرايا عاكسة لحالة المجتمع الحضارية، ومستوى الذائقة الجمالية في فترة ما، فالعمارة عنوان الحضارة في أي عصر، وهي التي تخلّد ذكراه لعصور تالية، كما أن عَبق العراقة، وعِطر التاريخ، وأريج التراث المعماري، كلّها أشياء لا تُشترى بالمال، فقد يخبو جمالها، أو يذبل وهجها، لكنها لا تنطفئ ولا تموت. وقد يستطيع المال تشييد أفخم وأجمل بنيان، لكن هذا الجمال يظل شمعياً بلاستيكياً، إذا خلا من الروح الحضارية التي لا تستطيع أعتى قوة مادية إيجادها من العَدَم.
جاءت أحداث "الراية البيضا" حاملة دلالات سياسية واجتماعية، مُكثَّفة ومتعددّة المستويات، فقد كانت أشبه بمعركة حربية ذات نزعة صفرية وصراع وجودي مرير، جرى في مدينة الإسكندرية ذات الطابع الثقافي الحضاري التنوّعي "الكوزموبوليتاني" الذي ميّزها طوال تاريخها. وكان بين فريقيْن، الأول فريق الدكتور مفيد أبو الغار (الدبلوماسي السابق الذي عاد إلى مسقط رأسه بعد تقاعده، للاستمتاع بحياة هادئة، يسعد فيها بممارسة هواياته القديمة بالقراءة، والاستماع للموسيقى الكلاسيكية، إلا أنه وجد نفسه غارقاً في لجّة أخطر معارك حياته، لما تحمله من صدام قيمي مروِّع بين التحضُّر والسوقيّة، حسبما جاء على لسانه في المسلسل)، ويمثّل هذا الفريق عصر الرقي والجمال والذوق والأصالة. وفريق فضّة المعداوي
على الرغم من مرور نحو ثلاثين عاماً على إنتاج هذا العمل، إلا أنّه ما زال صالحاً للمشاهدة مرّة بعد الأخرى، فمازالت أحداثه جارية بصورة متكررّة في الحاضر، فقد بدا وكأنّه نبوءة مُبكّرة وصيحة تحذير في آنٍ معاً، لما حاق بمظاهر الجمال الحضاري الأصيل في الإسكندرية وغيرها من مدن مصر في العقود الأخيرة، على يد القبح والعشوائية التي حرصت على ملاحقة معالم الجمال عبر هجوم كاسح، ودهسها بسنابكها، ودكّها دكّاً بكل قسوة وهمجية.
في جولات المعركة، وقف أبو الغار وفريقه أَعزَلَ، سوى ممّا يحمله من قوة ناعمة متمثّلة في منظومة القيم والمبادئ الأصيلة التي تنتمي إلى عصر مضى، تمتّعت فيه الطبقة الوسطى بقدر كبير من الأمان، مكنّها من الاحتفاظ بمكانتها الاجتماعية اللائقة، في مواجهة خشونة الطبقة الرأسمالية الطفيلية، وفظاظتها وتوحشها، وهي التي ظهرت فجأة في غفلة من الزمن، والتي أُثريَت من ممارسة أنشطة اقتصادية طفيلية كانت في أحيان كثيرة غير شرعية، في حقبة "الانفتاح" التي شهدتها مصر في سبعينيات القرن العشرين. وأعلنت هذه الطبقة عن نفسها بكلّ قوة، وبصورة زاعقة في مواجهة كل طبقات المجتمع، وسعت إلى تدارك نقصها وستر عوراتها المعنوية المتمثّلة في ما تتسم به من جهل وسوقيّة وانحطاط في لغة الخطاب وفساد في الذوق، عبر تضخيم ثرواتها، أيّاً كان مصدر تلك الثروات، ثمّ الاستيلاء في مرحلة لاحقة على ما لم يكن يخطر ببالها في أجمل أحلامها، ثمّ تزاوجت مع السلطة في حقبة لاحقة من أجل صياغة بنية سياسية وقانونية، تمكّنها من زيادة مكاسبها وامتيازاتها التي تحظى بها من دون أي مسوّغ منطقي.
كما جاء في عدد من أعماله، اختار عكاشة نهاية مفتوحة لـ"الراية البيضا"، بهدف استنفار المشاهدين، ودعوتهم صراحةً إلى التحرّر من السلبية، والتفاعل والمشاركة بإيجابية، والانتصار لمنظومة القيم والجمال، عبر نصرة الطرف المقهور الذي رفع "الراية البيضا" مُكرهاً مضطراً. وجاء المشهد الأخير من العمل حاملاً دلالات متعددّة، بالاعتصام الأسطوري لأبو الغار وفريقه جلوساً في صفٍّ واحدٍ بأيادٍ متشابكة أمام جرّافة فضّة المعداوي التي تتقدّم نحوهم، مستهدفة الشروع في هدم القصر، وكانت العبارة الختامية التي جاءت على لسان سيّد حنفي: "هتيجي لحظة يعرفوا تتار الزمن الأغبر إن الناس أقوى من كل بلدوزرات الدنيا" ثمّ النداء الصوتي الأخير للمشاهدين.
تتعيّن الإشارة إلى أنّ للنشاط الاقتصادي السائد في المجتمع تأثيراً مباشراً على الحراك الاجتماعي وآليات وروافع الصعود الطبقي، فالاقتصاد الطفيلي يؤدي إلى حراك اجتماعي