05 نوفمبر 2024
صفقة القرن.. إلى من لا يهمه الأمر
كانت المرة الوحيدة التي علّق فيها كاتب هذه السطور على ما بات يُعرف باسم "صفقة القرن" قد وقعت قبل نحو ستة أشهر، بعد أن تواترت الأنباء، في حينه، عن قرب طرح هذه الصفقة المثيرة للارتياب، وفاضت وسائل الإعلام، آنذاك، بمعلومات غير مترابطة عن مضمون ما بدا أنها خطة أميركية شاملة، تنهي الصراع الذي فشلت في حله سائر الإدارات الأميركية المتعاقبة، وتمهد، في الوقت نفسه، الأرضية المناسبة لإقامة تحالف عسكري أمني واسع، يضم عدداً من الدول العربية وإسرائيل، لمواجهة إيران، الموصوفة من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، دولة راعية للإرهاب في العالم، وذلك وفق ما بدا عليه الأمر في القمة العربية الإسلامية المنعقدة في الرياض في مايو/ أيار من العام الماضي.
ولعل عودة الفريق الأميركي، المكلف بتسويق هذه الخطة الغامضة، إلى الشرق الأوسط من جديد، وعلى رأسه جاريد كوشنير صهر دونالد ترامب، ما يبرّر تجديد الحديث، مرة ثانية، عن هذا المسعى الدبلوماسي الأميركي المتثاقل، أو قل عن هذه الخطة التي ليست هي مسودة اتفاق سلام نهائي، يمكن أن تقبل أو ترفض من جانبي الصراع، وإنما مجرد محاولة لإيجاد أرضية رخوة لمفاوضات مباشرة بين طرف فلسطيني يرى أنها ولدت ميتة، وليس مستعداً للتعاطي معها، وطرف إسرائيلي لا يريد رؤية أي خطة من أي نوع قد تؤدي إلى تغيير الواقع المناسب تماماً لتوسيع مشاريع التوسع الاستيطاني، واستكمال تهويد القدس، حتى وإن أتت من الصديق الأميركي الأكثر انحيازاً لوجهة النظر الإسرائيلية.
منذ تحدث رجل الصفقات العقارية السابق، رئيس الولايات المتحدة الأميركية الحالي، عن
عزمه عقد صفقة كبرى بشأن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، أسماها صفقة القرن، من دون أن يتطرق إلى مضمونها أو إلى خطوطها العامة، لم يصدر عن دونالد ترامب، أو فريق مفوضيه إلى المنطقة (وهم ثلاثة يهود أميركيين يعتمرون قبعات المتدينين)، أي توضيحات عن ماهية ما يعتزم سيد البيت الأبيض عرضه على الأطراف المعنية، ولا متى سيتم طرح هذه الصفقة، فيما لم تتوقف التسريبات الشحيحة عن نقل ما يدور في ذهن الرئيس المستغرق في سلسلةٍ طويلةٍ من التحديات الخارجية الملحة، ناهيك عن متاعبه الداخلية المتراكمة.
ومع أن وقتاً طويلاً مضى على أول طرح يتعلق بهذه الصفقة، يقارب العام على أقل تقدير، إلا أنه لا يوجد أحد داخل الإدارة الأميركية، أو خارجها، على يقين تام، إلى الآن، أنه سيتم وضع بنود الصفقة، قيد التداول، موضع التطبيق في نهاية المطاف، حتى إنه من المبالغة وصف ما يجري الحديث عنه في الإعلام من أفكار ساذجة ومفككة بأنه خطة عمل منهجية، أو مبادرة دبلوماسية أو غير ذلك، خصوصاً وأن ما تسرب منها يفتقر إلى مبادئ ناظمة، بل وإلى إطار إرشادي، ويعوزها التبني والاعتماد من الرئيس الأميركي، وهو صاحب الخطة، حيث ظلت مشتملاتها تُنسب إلى مصادر مجهولة، وتُنشر عبر وسائط إعلام تتسقط فكرة من هنا أو بندا من هناك، فيما بقيت وزارة الخارجية الأميركية، المنوط بها في العادة إعداد الخطة والدفاع عنها، في معزل كلي عن الرواية من أساسها.
وهكذا بقيت المعلومات الجزئية، المتفرقة المتاحة عن صفقة القرن هذه، حكراً على المصادر الإعلامية الإسرائيلية التي، على الرغم من حسن اطلاعها على المصادر الموثوقة، وصلاتها القوية بالدوائر المعنية والمراكز الإخبارية ذات الصلة، لم تتمكن من تقديم صورة متكاملة عن الأفكار التي تدور في عقل الرجل الذي يصعب التنبؤ بأفعاله وردود أفعاله، أو تخمين ما قد يفاجئ به الجميع من حوله، الأمر الذي زاد من صعوبة الموقف لدى الدبلوماسيين والصحافيين والفضوليين، وكل من يخاطبهم مضمون هذه الصفقة المثيرة لأسوأ التوقعات وأشدها تشاؤماً، خصوصاً لدى من يخشون جرة الحبل، بعد أن قرصتهم الأفعى الأميركية مراراً.
وقد يكون من بين أهم ما تم نشره تباعاً عن صفقة القرن هذه، قبل عدة أشهر، ما أوردته القناة التلفزيونية الإسرائيلية الثانية في حينه، وأعادت عرضه صحيفة مقربة من رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أخيراً (إسرائيل اليوم)، ومفاده بأن الرئيس الأميركي، المعجب بنفسه، لا يرغب الدخول في متاهة مفاوضات طويلة الأمد، وأن يعلق مجدّداً كسابقيه في أوحال الشرق الأوسط، بل يريد تسوية مختلفة عما طرحته كل الإدارات السابقة، في نطاق ترتيب إقليمي أشمل من حل نصف مرضيّ عنه من الفلسطينيين والإسرائيليين، بحيث يتضمن اعترافاً عربياً بالدولة العبرية، في مقابل وقف الاستيطان خارج الكتل الاستيطانية الكبرى، وتحسين الأوضاع الاقتصادية الفلسطينية بصورة جوهرية، لا سيما في قطاع غزة.
ومع ان هناك تفاصيل أقل أهمية، جرى تسريبها فيما بعد، إلا أن ما هو متاح عن هذه الصفقة لا يشفي غليل المتعطشين لرؤية الصورة الكلية لما جرى الحديث عنه قبل نحو عام مضى، وظل لغزاً من ألغاز إدارة أميركية تتكتم على خطتها، وتواصل عدم الإفصاح عما لديها من رؤيةٍ تقوم على مبدأ الاتفاق على كل شيء أو لا اتفاق على أي شيء، مستفيدة من حرص الجانب الفلسطيني على عدم الاصطدام مع رئيس أميركي حاد وسريع الانفعال، ومن خشية نتنياهو، بدوره، قول "لا" للمتهوّر دونالد ترامب، وفق ما قاله لوزرائه الذين ارتفعت توقعاتهم، وانتعشت آمالهم أكثر، إزاء وفاء المرشح الجمهوري بوعوده الانتخابية، وفي مقدمتها الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية، فيما تستمر الدول العربية المخاطبة بهذه الخطة الغامضة بعد، تتجنب الخوض في مياه بركة هذه الصفقة الآسنة.
وهكذا تبدو صفقة القرن، بعد مرور كل هذا الوقت، أقرب ما تكون إلى عنوان صحافي
عريض ممتد على ثمانية أعمدة في الصفحة الأولى، لمادة أولية مشوشة، تفتقر إلى قصة إخبارية متماسكة، يمكن قراءتها بسهولة، وفهمها بيسر، من المتلقين في هذه المنطقة المزدحمة بفيض هائل من الأنباء المتواترة تباعاً عن شتى الحروب والصراعات البينية، المتفاقمة في رقاعٍ كثيرة من هذه الأرض المستباحة، الأمر الذي يمكن معه طرح سؤال المليون عن ماهية هذه الصفقة، أو إحالة المسألة إلى المهتمين في العادة بحل الكلمات المتقاطعة، حتى لا نقول إننا أمام نص مفكك، على المرء أن يملأ فراغاته، وأن يستكمل من عنده الجمل الناقصة، حتى يتسنى له استنتاج ما تنطوي عليه صفقة القرن هذه من مضامين قابلة للفهم.
إزاء ذلك كله، يمكن القول إن صفقة القرن موجهة، في الواقع العملي، إلى من لا يهمهم الأمر، خصوصاً للفلسطينيين المصدومين بكل هذا التطابق الشديد بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، إلى حد التماثل التام، وللإسرائيليين الواثقين بحُسن تفهم إدارة ترامب موقفهم، في كل الأحوال تحت شتى الظروف، وهو موقف لا يبدي أي رغبة في تغيير الواقع القائم على الأرض، ناهيك عن العرب الأقربين المحرجين، وربما غير القادرين في هذه الآونة، على معاكسة اتجاه الريح، ومن ثمّة الدخول في تحالف مع إسرائيل، بذريعة التمدّد الإيراني، وذلك بعد كل هذا الحراك الفلسطيني الرافض للصفقة الملتبسة، بما في ذلك مسيرات يوم العودة التي شكلت سداً لا يمكن تجاوزه بسهولة، فضلاً عن الرفض الرسمي الفلسطيني المسبق التعامل مع هذه الصفقة المشؤومة.
ولعل عودة الفريق الأميركي، المكلف بتسويق هذه الخطة الغامضة، إلى الشرق الأوسط من جديد، وعلى رأسه جاريد كوشنير صهر دونالد ترامب، ما يبرّر تجديد الحديث، مرة ثانية، عن هذا المسعى الدبلوماسي الأميركي المتثاقل، أو قل عن هذه الخطة التي ليست هي مسودة اتفاق سلام نهائي، يمكن أن تقبل أو ترفض من جانبي الصراع، وإنما مجرد محاولة لإيجاد أرضية رخوة لمفاوضات مباشرة بين طرف فلسطيني يرى أنها ولدت ميتة، وليس مستعداً للتعاطي معها، وطرف إسرائيلي لا يريد رؤية أي خطة من أي نوع قد تؤدي إلى تغيير الواقع المناسب تماماً لتوسيع مشاريع التوسع الاستيطاني، واستكمال تهويد القدس، حتى وإن أتت من الصديق الأميركي الأكثر انحيازاً لوجهة النظر الإسرائيلية.
منذ تحدث رجل الصفقات العقارية السابق، رئيس الولايات المتحدة الأميركية الحالي، عن
ومع أن وقتاً طويلاً مضى على أول طرح يتعلق بهذه الصفقة، يقارب العام على أقل تقدير، إلا أنه لا يوجد أحد داخل الإدارة الأميركية، أو خارجها، على يقين تام، إلى الآن، أنه سيتم وضع بنود الصفقة، قيد التداول، موضع التطبيق في نهاية المطاف، حتى إنه من المبالغة وصف ما يجري الحديث عنه في الإعلام من أفكار ساذجة ومفككة بأنه خطة عمل منهجية، أو مبادرة دبلوماسية أو غير ذلك، خصوصاً وأن ما تسرب منها يفتقر إلى مبادئ ناظمة، بل وإلى إطار إرشادي، ويعوزها التبني والاعتماد من الرئيس الأميركي، وهو صاحب الخطة، حيث ظلت مشتملاتها تُنسب إلى مصادر مجهولة، وتُنشر عبر وسائط إعلام تتسقط فكرة من هنا أو بندا من هناك، فيما بقيت وزارة الخارجية الأميركية، المنوط بها في العادة إعداد الخطة والدفاع عنها، في معزل كلي عن الرواية من أساسها.
وهكذا بقيت المعلومات الجزئية، المتفرقة المتاحة عن صفقة القرن هذه، حكراً على المصادر الإعلامية الإسرائيلية التي، على الرغم من حسن اطلاعها على المصادر الموثوقة، وصلاتها القوية بالدوائر المعنية والمراكز الإخبارية ذات الصلة، لم تتمكن من تقديم صورة متكاملة عن الأفكار التي تدور في عقل الرجل الذي يصعب التنبؤ بأفعاله وردود أفعاله، أو تخمين ما قد يفاجئ به الجميع من حوله، الأمر الذي زاد من صعوبة الموقف لدى الدبلوماسيين والصحافيين والفضوليين، وكل من يخاطبهم مضمون هذه الصفقة المثيرة لأسوأ التوقعات وأشدها تشاؤماً، خصوصاً لدى من يخشون جرة الحبل، بعد أن قرصتهم الأفعى الأميركية مراراً.
وقد يكون من بين أهم ما تم نشره تباعاً عن صفقة القرن هذه، قبل عدة أشهر، ما أوردته القناة التلفزيونية الإسرائيلية الثانية في حينه، وأعادت عرضه صحيفة مقربة من رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أخيراً (إسرائيل اليوم)، ومفاده بأن الرئيس الأميركي، المعجب بنفسه، لا يرغب الدخول في متاهة مفاوضات طويلة الأمد، وأن يعلق مجدّداً كسابقيه في أوحال الشرق الأوسط، بل يريد تسوية مختلفة عما طرحته كل الإدارات السابقة، في نطاق ترتيب إقليمي أشمل من حل نصف مرضيّ عنه من الفلسطينيين والإسرائيليين، بحيث يتضمن اعترافاً عربياً بالدولة العبرية، في مقابل وقف الاستيطان خارج الكتل الاستيطانية الكبرى، وتحسين الأوضاع الاقتصادية الفلسطينية بصورة جوهرية، لا سيما في قطاع غزة.
ومع ان هناك تفاصيل أقل أهمية، جرى تسريبها فيما بعد، إلا أن ما هو متاح عن هذه الصفقة لا يشفي غليل المتعطشين لرؤية الصورة الكلية لما جرى الحديث عنه قبل نحو عام مضى، وظل لغزاً من ألغاز إدارة أميركية تتكتم على خطتها، وتواصل عدم الإفصاح عما لديها من رؤيةٍ تقوم على مبدأ الاتفاق على كل شيء أو لا اتفاق على أي شيء، مستفيدة من حرص الجانب الفلسطيني على عدم الاصطدام مع رئيس أميركي حاد وسريع الانفعال، ومن خشية نتنياهو، بدوره، قول "لا" للمتهوّر دونالد ترامب، وفق ما قاله لوزرائه الذين ارتفعت توقعاتهم، وانتعشت آمالهم أكثر، إزاء وفاء المرشح الجمهوري بوعوده الانتخابية، وفي مقدمتها الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية، فيما تستمر الدول العربية المخاطبة بهذه الخطة الغامضة بعد، تتجنب الخوض في مياه بركة هذه الصفقة الآسنة.
وهكذا تبدو صفقة القرن، بعد مرور كل هذا الوقت، أقرب ما تكون إلى عنوان صحافي
إزاء ذلك كله، يمكن القول إن صفقة القرن موجهة، في الواقع العملي، إلى من لا يهمهم الأمر، خصوصاً للفلسطينيين المصدومين بكل هذا التطابق الشديد بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، إلى حد التماثل التام، وللإسرائيليين الواثقين بحُسن تفهم إدارة ترامب موقفهم، في كل الأحوال تحت شتى الظروف، وهو موقف لا يبدي أي رغبة في تغيير الواقع القائم على الأرض، ناهيك عن العرب الأقربين المحرجين، وربما غير القادرين في هذه الآونة، على معاكسة اتجاه الريح، ومن ثمّة الدخول في تحالف مع إسرائيل، بذريعة التمدّد الإيراني، وذلك بعد كل هذا الحراك الفلسطيني الرافض للصفقة الملتبسة، بما في ذلك مسيرات يوم العودة التي شكلت سداً لا يمكن تجاوزه بسهولة، فضلاً عن الرفض الرسمي الفلسطيني المسبق التعامل مع هذه الصفقة المشؤومة.
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024