08 نوفمبر 2024
الولايات المتحدة.. بَوْنٌ شاسع بين المثال والواقع
تقوم فلسفة نظم الحكم الغربية الديمقراطية، إطاريّاً، على الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. هذا هو النظام المعمول به في الولايات المتحدة، موضوع هذا المقال. أما ناظم علاقات السلطات الثلاث، أميركياً، فهو مبدأ معروف بنظام "الضوابط والتوازنات" (checks and balances)، حيث أن كل سلطة مستقلة، نسبياً، عن الأخريين، وتملك كل واحدة منها أوراق تأثير عليهما. طبعاً، الهدف منع تركّز القوة في يد فرع واحد من أفرع الحكومة الثلاثة على حساب الفرعين الآخرين، وهي أمور ينص عليها الدستور الأميركي وينظمها. هذا هو الإطار العام في السياق الأميركي من الناحية الفلسفية، غير أن التجربة التاريخية تنبئنا بغير ذلك، فالسلطة التنفيذية الفيدرالية تعاظمت سطوتها وتوسعت صلاحياتها مع مرور الزمن. وقد تنوعت الأسباب لتعزيز تلك الصلاحيات على حساب الفرعين الآخرين، وبموافقتهما، من التذرع بحماية "الاتحاد الفيدرالي" من خطر الغزو خارجياً، والتَفَتُّتِ داخلياً، وصولاً اليوم إلى التذرع بالحفاظ على الأمن القومي.
الذريعة الأخيرة هي التي عللت بها المحكمة العليا الأميركية، أخيراً، قرارها "المخزي"، كما وصفه فقهاء دستوريون أميركيون كثيرون، والقاضي بتشريع حظر دخول مواطني سبع دول إلى الولايات المتحدة، خمسة منها ذات أغلبية سكانية مسلمة، كان أصدره الرئيس، دونالد ترامب. محل الدعوى هنا كان النسخة الثالثة من قرار الحظر الصادر في سبتمبر/ أيلول
2017، ويشمل مواطني: إيران وليبيا والصومال وسورية واليمن. في حين يفرض قيوداً على دخول مواطني دولتين غير مسلمتين: فنزويلا وكوريا الشمالية. وكانت النسختان الأولى والثانية للقرار قد عُطِّلَتا عبر المحاكم الفيدرالية، على أساس أنهما تدخلان في سياق التمييز الديني، ذلك أنهما شملتا دولاً ذات أغلبية سكانية مسلمة فحسب، قبل أن يعدّل ترامب قراره، ويضيف فنزويلا وكوريا الشمالية إلى قائمته، لنفي صفة التمييز الديني عن القرار. رفضت المحاكم الفيدرالية تبريره، حينها، مرة أخرى، وأصرّت على أن القرار قائم على خلفية دينية، ذلك أن ترامب كان أعلن عام 2016، عندما كان مرشحاً، أنه يريد "منعاً تاماً وكاملاً للمسلمين من دخول الولايات المتحدة". وقد رفضت المحكمة العليا تأكيدات معارضي القرار اعتبار قرار ترامب تمييزاً دينياً غير دستوري، على الرغم من أن مستشاره ومحاميه، رودي جولياني، كان قد صرح، مطلع عام 2017، إن ترامب طلب منه تصميم قانون "حظر سفر على المسلمين". بمعنى أن شبهة التمييز الديني، غير الدستورية، موجودة ومؤكدة.
لا يهدف هذا المقال إلى تفكيك النظام الدستوري الأميركي وفلسفة الفصل بين السلطات والضوابط والتوازنات المتبادلة بينها، فهذا أمر له سياق مختلف. وإنما الهدف هو التنبيه إلى أن الولايات المتحدة، "منارة الحرية" في العالم، و"المدينة المشرقة على تَلٍّ"، كثيراً ما عرفت اندماجاً بين مواقف أفرع السلطة الثلاثة، عندما يتعلق الأمر بالتمييز العرقي أو الديني، وما جرى في الحكم أخيراً، من أعلى محكمة أميركية، هو تأكيد لمعطى البون الشاسع بين المثال والواقع. وهذا لا يعني أن أميركا لا تملك آليات إصلاح ذاتية، وهي كثيراً ما تراجعت عن سياسات داخلية محلية ظالمة ومعيبة، لكن الحقيقة تبقى هي الحقيقة، ومفادها بأن الحكومة الأميركية، بأفرعها الثلاثة، كثيراً ما تتواطأ عندما يتعلق الأمر بالتمييز العرقي والديني، الذي الأصل أنه محظور، دستورياً، حظراً باتاً.
ليس ما سبق اتهاماً يوجهه صاحب هذه السطور، ولا المعارضون لقرار المحكمة العليا المخزي، بل إن قضاة في المحكمة العليا الأميركية نفسها، وعبر أجيال متفاوتة، قالوه ونبهوا إليه، لكن أصواتهم، للأسف، كانت أصوات الأقلية. وحتى عندما أصلح جيلٌ تالٍ من قضاة المحكمة العليا موقفاً مخزياً، فإنهم، أو من جاء بعدهم، أسبغوا الشرعية الدستورية على سياسةٍ أخرى مخزية. وبشأن قرار المحكمة العليا الجديد، كتبت القاضية، سونيا سوتومايور، رأي الأقلية، أي القضاة الأربعة (من أصل تسعة) الذي صوتوا ضده. في الوثيقة التاريخية المعبرة، قارنت سوتومايور بين قرار ترامب حظر دخول مواطني خمس دول ذات غالبية مسلمة أميركا وقرار وضع ذوي الأصول اليابانية، بمن فيهم حاملو الجنسية الأميركية، في معتقلات جماعية خلال الحرب العالمية الثانية. كتبت سوتومايور: "كما حدث حينها، كان قرار الفصل متجذّراً في صور نمطية خطيرة حول عدم قدرة مجموعة معينة على الاندماج ورغبتها في إيذاء الولايات المتحدة". أثارت مقارنة سوتومايور هذه حنق رئيس المحكمة العليا، جون روبرتس، الذي كتب رأي الأغلبية الخمسة، رافضاً المقارنة بين قرار حظر السفر الذي أقرته محكمته والمعتقلات الجماعية لليابانيين الأميركيين، والذي كانت أقرته المحكمة العليا، عام 1944، في القضية المعروفة "كوريماتسو ضد الولايات المتحدة".
كان فريد كوريماتسو هذا مواطنا أميركيا من أصل ياباني، رفض الرضوخ لقرار عسكري بتسليم نفسه ليوضع في معتقل جماعي، ورفع دعوى قضائية بأن في ذلك تمييزا عرقيا ضده، إلا أن ستة من أصل تسعة من قضاة المحكمة العليا حينها رفضوا دفوعاته، وقرّروا أنه لم
يُستهدف بسبب عرقه، وإنما لأن الولايات المتحدة في حالة حربٍ مع اليابان، وبأن مقتضيات الأمن القومي الأميركي مقدّمة هنا. إلا أنه، وكما اليوم، فإن أحد قضاة المحكمة، حينها، لم يتردّد في وصف قرار الأغلبية بأنه: "يقع في هاوية العنصرية القبيحة"، ويشبه "المعاملة البغيضة والكريهة للأقليات من أنظمة استبدادية ديكتاتورية". روبرتس الذي أَمَّنَ على مزاعم ترامب إن إدارته "قدّمت تبريراً كافياً فيما يتعلق بالأمن القومي"، تماماً كما فعل أسلافه عام 1944، لم يتردّد في التشديد، من دون خجل، على أن قرار المحكمة حينها كان خاطئاً، وغير دستوري، وإن المحكمة العليا اليوم تنقضه. المفارقة هنا أنه نقض حكم تمييز عرقي تاريخي مخزٍ باسم الأمن القومي، في حين كان يصدر قرار تمييز ديني معاصر مخزٍ، باسم الأمن القومي كذلك. ذلك ما نبهت إليه سوتومايور في ردّها.
قضايا التمييز الدينية والعرقية، التي ساندها الكونغرس والمحكمة العليا، كثيرة في التاريخ الأميركي، البعيد والقريب، ولا يتسع المجال للإشارة إليها كلها هنا، وهو ما يدفع إلى القول إن ثمة خللاً حقيقياً في نظام "الضوابط والتوازنات" أميركياً. لفهم ذلك، يكفي أن تنظر إلى كيف أن قضاة المحكمة العليا انقسموا في تصويتهم حسب انتماءاتهم الإيديولوجية. صوّت المحافظون الخمسة في المحكمة لصالح القرار، وصوّت الليبراليون الأربعة ضده. من يرشّح القضاة؟ الرئيس. ومن يصوت عليهم؟ مجلس الشيوخ؟ بمعنى أنه عندما يكون الرئيس والأغلبية في مجلس الشيوخ من حزبٍ واحدٍ، فإنهم يؤثرون في الصبغة الإيديولوجية للمحكمة العليا، مع بقاء قراراتها مستقلةً عن الفرعين الآخرين للحكومة. الأخطر من ذلك كله أن "القيم الأميركية" دستورياً، ولا نتحدث عن الممارسة هنا، فكما سبق القول فإن ثمة بوناً شاسعاً بين الواقع والمثال.. هذه "القيم الأميركية"، التي تقوم على الحرية والمساواة والعدالة، لم تعد محلّ إجماعٍ في الولايات المتحدة، ولو حتى من باب الشعارات. انبعاث اليمين في الغرب عموماً يمثل تهديداً لديمقراطياته وقيمه المزعومة، ونحن على موعدٍ مع ما هو أسوأ للديمقراطيات الغربية، ولمسلميها، وللعالم ككل، لكن هذا موضوع آخر.
الذريعة الأخيرة هي التي عللت بها المحكمة العليا الأميركية، أخيراً، قرارها "المخزي"، كما وصفه فقهاء دستوريون أميركيون كثيرون، والقاضي بتشريع حظر دخول مواطني سبع دول إلى الولايات المتحدة، خمسة منها ذات أغلبية سكانية مسلمة، كان أصدره الرئيس، دونالد ترامب. محل الدعوى هنا كان النسخة الثالثة من قرار الحظر الصادر في سبتمبر/ أيلول
لا يهدف هذا المقال إلى تفكيك النظام الدستوري الأميركي وفلسفة الفصل بين السلطات والضوابط والتوازنات المتبادلة بينها، فهذا أمر له سياق مختلف. وإنما الهدف هو التنبيه إلى أن الولايات المتحدة، "منارة الحرية" في العالم، و"المدينة المشرقة على تَلٍّ"، كثيراً ما عرفت اندماجاً بين مواقف أفرع السلطة الثلاثة، عندما يتعلق الأمر بالتمييز العرقي أو الديني، وما جرى في الحكم أخيراً، من أعلى محكمة أميركية، هو تأكيد لمعطى البون الشاسع بين المثال والواقع. وهذا لا يعني أن أميركا لا تملك آليات إصلاح ذاتية، وهي كثيراً ما تراجعت عن سياسات داخلية محلية ظالمة ومعيبة، لكن الحقيقة تبقى هي الحقيقة، ومفادها بأن الحكومة الأميركية، بأفرعها الثلاثة، كثيراً ما تتواطأ عندما يتعلق الأمر بالتمييز العرقي والديني، الذي الأصل أنه محظور، دستورياً، حظراً باتاً.
ليس ما سبق اتهاماً يوجهه صاحب هذه السطور، ولا المعارضون لقرار المحكمة العليا المخزي، بل إن قضاة في المحكمة العليا الأميركية نفسها، وعبر أجيال متفاوتة، قالوه ونبهوا إليه، لكن أصواتهم، للأسف، كانت أصوات الأقلية. وحتى عندما أصلح جيلٌ تالٍ من قضاة المحكمة العليا موقفاً مخزياً، فإنهم، أو من جاء بعدهم، أسبغوا الشرعية الدستورية على سياسةٍ أخرى مخزية. وبشأن قرار المحكمة العليا الجديد، كتبت القاضية، سونيا سوتومايور، رأي الأقلية، أي القضاة الأربعة (من أصل تسعة) الذي صوتوا ضده. في الوثيقة التاريخية المعبرة، قارنت سوتومايور بين قرار ترامب حظر دخول مواطني خمس دول ذات غالبية مسلمة أميركا وقرار وضع ذوي الأصول اليابانية، بمن فيهم حاملو الجنسية الأميركية، في معتقلات جماعية خلال الحرب العالمية الثانية. كتبت سوتومايور: "كما حدث حينها، كان قرار الفصل متجذّراً في صور نمطية خطيرة حول عدم قدرة مجموعة معينة على الاندماج ورغبتها في إيذاء الولايات المتحدة". أثارت مقارنة سوتومايور هذه حنق رئيس المحكمة العليا، جون روبرتس، الذي كتب رأي الأغلبية الخمسة، رافضاً المقارنة بين قرار حظر السفر الذي أقرته محكمته والمعتقلات الجماعية لليابانيين الأميركيين، والذي كانت أقرته المحكمة العليا، عام 1944، في القضية المعروفة "كوريماتسو ضد الولايات المتحدة".
كان فريد كوريماتسو هذا مواطنا أميركيا من أصل ياباني، رفض الرضوخ لقرار عسكري بتسليم نفسه ليوضع في معتقل جماعي، ورفع دعوى قضائية بأن في ذلك تمييزا عرقيا ضده، إلا أن ستة من أصل تسعة من قضاة المحكمة العليا حينها رفضوا دفوعاته، وقرّروا أنه لم
قضايا التمييز الدينية والعرقية، التي ساندها الكونغرس والمحكمة العليا، كثيرة في التاريخ الأميركي، البعيد والقريب، ولا يتسع المجال للإشارة إليها كلها هنا، وهو ما يدفع إلى القول إن ثمة خللاً حقيقياً في نظام "الضوابط والتوازنات" أميركياً. لفهم ذلك، يكفي أن تنظر إلى كيف أن قضاة المحكمة العليا انقسموا في تصويتهم حسب انتماءاتهم الإيديولوجية. صوّت المحافظون الخمسة في المحكمة لصالح القرار، وصوّت الليبراليون الأربعة ضده. من يرشّح القضاة؟ الرئيس. ومن يصوت عليهم؟ مجلس الشيوخ؟ بمعنى أنه عندما يكون الرئيس والأغلبية في مجلس الشيوخ من حزبٍ واحدٍ، فإنهم يؤثرون في الصبغة الإيديولوجية للمحكمة العليا، مع بقاء قراراتها مستقلةً عن الفرعين الآخرين للحكومة. الأخطر من ذلك كله أن "القيم الأميركية" دستورياً، ولا نتحدث عن الممارسة هنا، فكما سبق القول فإن ثمة بوناً شاسعاً بين الواقع والمثال.. هذه "القيم الأميركية"، التي تقوم على الحرية والمساواة والعدالة، لم تعد محلّ إجماعٍ في الولايات المتحدة، ولو حتى من باب الشعارات. انبعاث اليمين في الغرب عموماً يمثل تهديداً لديمقراطياته وقيمه المزعومة، ونحن على موعدٍ مع ما هو أسوأ للديمقراطيات الغربية، ولمسلميها، وللعالم ككل، لكن هذا موضوع آخر.