16 سبتمبر 2024
وحدة ليبيا على المحكّ
أبو القاسم علي الربو
اتفقت بريطانيا وإيطاليا، في 10 مارس/ آذار 1949، على مشروع "بيقن سيفورزا"، والذي ينص على فرض الوصاية الإيطالية على طرابلس، والبريطانية على برقة، والفرنسية على فزّان، إلا أن هذا المشروع لم يمر عند الاقتراع عليه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان ذلك للدور الذي قام به وفدٌ من أحرار ليبيا ومناضليها، والذي أثمر عن منحها استقلالها. وقد تم اختيار إدريس السنوسي ملكاً لليبيا، بنظام فيدرالي، يضم ثلاث ولايات (طرابلس وبرقة وفزان)، وقام ممثلو الشعب في تلك الفترة بدور كبير ومحوري بتعديل الدستور، وأسسوا دولة ليبيا الموحدة، تحت اسم المملكة المتحدة، وعاصمتها طرابلس.
واستطاع معمر القذافي، خلال 42 سنة، أن يحافظ على هذه الوحدة، وخفتت كل الأصوات التي كانت تبرّر دعواتها إلى الانفصال بتهميش المنطقة الشرقية، وعدم حصولها على حصةٍ عادلةٍ من مبيعات النفط، بل وأصبح مجرد التفكير في مثل هذه الأفكار جريمةً تصل إلى حد الخيانة. وقد كانت الاستراتيجية المتبعة تقضي بدمج مؤسسات الدولة بين الشرق والغرب، وتكليف من يقوم بإدارتها من الغرب، إذا كانت في الشرق، والعكس صحيح، في محاولةٍ لاجتثاث فكرة الأقاليم الثلاثة التي ظلت عالقة في الأفكار، خصوصاً لدى كبار السن الذين عاصروا تلك الفترة. وقد نجحت هذه الاستراتيجية إلى درجة كبيرة. ولكن كان لثورة فبراير في 2011، والتي بدأت شرارتها من بنغازي، وغيرها من المدن في الشرق الليبي، دور في إحياء هذه النظرة، خصوصاً أن هذا الشرق كان يعاني من التهميش نسبياً، مقارنة بالغرب الذي كان أحسن حالاً.
ومنذ الأيام الأولى للانتفاضة، أصبحت تُسمع الأصوات التي كانت، حتى وقت قصير، نشازاً يشد الانتباه إلى دفاع الفيدراليين عن أفكارهم، وتسويقها من خلال برامج مكثفة، انصبّ
تركيزها على إقناع الليبيين بأن الفيدرالية لا تعني التقسيم، عازفين كالعادة على تهميش المنطقة الشرقية التي تقع أغلب حقول النفط جغرافياً ضمن حدودها. وكان هذا الخطاب موجّهاً، بشكل مدروس، تجاه سكان المناطق الشرقية، لإقناعهم بأنه آن الأوان لتعويض سنوات الظلم والمعاناة التي عاشها هذا الإقليم. وعلى الرغم من كل هذه المحاولات والجهود التي تبنتها بعض النخب والشخصيات العامة في الشرق الليبي، فإن هذه الدعوات اصطدمت بثقافة ليبيا الواحدة التي تشرَّبها الليبيون، وترى في ليبيا واحدة لا تقبل القسمة تحت أي مسمى، وأن الاستقلال والاتحاد الذي جاء بكفاح الآباء والأجداد ونضالهم وتضحياتهم لا يمكن أن يتم التفريط فيه.
وعلى الرغم من رفض معظم الليبيين فكرة الفيدرالية، نتيجة تخوّفهم من أن يُساء فهمها وتطبيقها إلى درجةٍ قد تفضي إلى أي شكل من التقسيم. وعلى الرغم من إيمان معظم الليبيين بوحدة بلدهم، إلا أنهم يبدون مخاوفهم من حالة الفوضى التي تعم البلاد، وغياب الدولة بشكلها الرسمي، ما أحيا أطماع المستعمر القديم، فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، لتصبح ليبيا حلبة صراع هؤلاء من أجل المصالح، وتكريس النفوذ على الأرض التي أصبحت مستباحة من كل حدودها، وأصبح واضحاً للعيان أن كل دولة تدعم طرفاً وتقويه ضد الآخر، بل وصل الأمر إلى التدخل السافر وغير المبرّر من هذه الدول إلى الدرجة التي جعلتهم يجتمعون بعمداء البلديات الخدمية في الداخل والخارج، في سابقة فريدة وغريبة، من دون أن تحرّك الحكومات ساكناً.
وقد أدت هذه التدخلات، فيما أدت إليه، إلى وجود ثلاث حكومات، اثنتان منهما تمارسان صلاحيتهما من خلال وزارات وهيئات وموظفين، بل وسفراء معتمدين، وهما حكومة الوفاق في طرابلس، والحكومة المؤقتة في بنغازي، بالإضافة إلى حكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل، والتي لا تزال ترى نفسها الحكومة الشرعية، وإن تم طردها من العاصمة طرابلس، لكنها لا تزال تراقب الأحداث، وما يمكن أن تأتي به الرياح، غير فاقدة الأمل، قد يقودها من جديد إلى حكم ليبيا من خلال العاصمة، في ظل وجود حاضنة اجتماعية وسياسية لها في مصراتة، مدعومة من الإسلاميين.
أدّت هذه الأوضاع إلى انقسام معظم الوزارات والهيئات والمكاتب بين الشرق والغرب، بل وصل الأمر إلى انقسام المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط. وذلك بعد أن كانت قد تمت إنهاء سيطرة ما يعرف بحرس المنشآت النفطية، بقيادة إبراهيم الجضران، على الهلال
النفطي، الواقع ضمن الحدود الإدارية والجغرافية لبنغازي، مفسحاً الطريق أمام اتفاق سري بين حكومتي الشرق والغرب، يقضي بتكليف المؤسسة الليبية للنفط بالإشراف المباشر على إنتاج النفط وتصديره من خلال الموانئ النفطية الموجودة في هذا الهلال، في مقابل تخصيص نسب مالية لحكومة عبد الله الثني في الشرق، وخصوصاً للقيادة العامة للقوات المسلحة التابعة لها، والتي أشرفت على هذا الاتفاق ورعته.
واستمر الحال على ما هو عليه إلى بزوغ نجم الجضران من جديد، بعد أن ظن الجميع أنه أفل، مدججاً بأحدث الأسلحة والعربات والأفراد، قاطعاً الصحراء القاحلة على مرأى ومسمع الجميع من الداخل والخارج، إلى أن يصل إلى الهلال النفطي مجدداً، فارضاً سيطرته على منطقة هذا الهلال، ويحصّن قواته داخلها، وبين خزاناتها، في تحصيناتٍ لم يستغرق إنجازها، أمام زحف الجيش، سوى ساعات في عملية عسكرية، رسمت أسئلة عديدة ما زالت من دون إجابة.
ونتيجة لما حصل، وفي خطوة غير متوقعة، تعلن القيادة العامة للجيش تكليف المؤسسة الليبية للنفط في المنطقة الشرقية بالإشراف على بيع النفط، وتحصيل إيراداته، وسط استنكار حكومة طرابلس، وغموض في الموقف الدولي، وموقف عربي لم يتبلور بعد.
السؤال المطروح، بقوة الآن، هل تعتبر هذه الخطوة المسمار الأشد إيلاماً في نعش ليبيا الواحدة؟
واستطاع معمر القذافي، خلال 42 سنة، أن يحافظ على هذه الوحدة، وخفتت كل الأصوات التي كانت تبرّر دعواتها إلى الانفصال بتهميش المنطقة الشرقية، وعدم حصولها على حصةٍ عادلةٍ من مبيعات النفط، بل وأصبح مجرد التفكير في مثل هذه الأفكار جريمةً تصل إلى حد الخيانة. وقد كانت الاستراتيجية المتبعة تقضي بدمج مؤسسات الدولة بين الشرق والغرب، وتكليف من يقوم بإدارتها من الغرب، إذا كانت في الشرق، والعكس صحيح، في محاولةٍ لاجتثاث فكرة الأقاليم الثلاثة التي ظلت عالقة في الأفكار، خصوصاً لدى كبار السن الذين عاصروا تلك الفترة. وقد نجحت هذه الاستراتيجية إلى درجة كبيرة. ولكن كان لثورة فبراير في 2011، والتي بدأت شرارتها من بنغازي، وغيرها من المدن في الشرق الليبي، دور في إحياء هذه النظرة، خصوصاً أن هذا الشرق كان يعاني من التهميش نسبياً، مقارنة بالغرب الذي كان أحسن حالاً.
ومنذ الأيام الأولى للانتفاضة، أصبحت تُسمع الأصوات التي كانت، حتى وقت قصير، نشازاً يشد الانتباه إلى دفاع الفيدراليين عن أفكارهم، وتسويقها من خلال برامج مكثفة، انصبّ
وعلى الرغم من رفض معظم الليبيين فكرة الفيدرالية، نتيجة تخوّفهم من أن يُساء فهمها وتطبيقها إلى درجةٍ قد تفضي إلى أي شكل من التقسيم. وعلى الرغم من إيمان معظم الليبيين بوحدة بلدهم، إلا أنهم يبدون مخاوفهم من حالة الفوضى التي تعم البلاد، وغياب الدولة بشكلها الرسمي، ما أحيا أطماع المستعمر القديم، فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، لتصبح ليبيا حلبة صراع هؤلاء من أجل المصالح، وتكريس النفوذ على الأرض التي أصبحت مستباحة من كل حدودها، وأصبح واضحاً للعيان أن كل دولة تدعم طرفاً وتقويه ضد الآخر، بل وصل الأمر إلى التدخل السافر وغير المبرّر من هذه الدول إلى الدرجة التي جعلتهم يجتمعون بعمداء البلديات الخدمية في الداخل والخارج، في سابقة فريدة وغريبة، من دون أن تحرّك الحكومات ساكناً.
وقد أدت هذه التدخلات، فيما أدت إليه، إلى وجود ثلاث حكومات، اثنتان منهما تمارسان صلاحيتهما من خلال وزارات وهيئات وموظفين، بل وسفراء معتمدين، وهما حكومة الوفاق في طرابلس، والحكومة المؤقتة في بنغازي، بالإضافة إلى حكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل، والتي لا تزال ترى نفسها الحكومة الشرعية، وإن تم طردها من العاصمة طرابلس، لكنها لا تزال تراقب الأحداث، وما يمكن أن تأتي به الرياح، غير فاقدة الأمل، قد يقودها من جديد إلى حكم ليبيا من خلال العاصمة، في ظل وجود حاضنة اجتماعية وسياسية لها في مصراتة، مدعومة من الإسلاميين.
أدّت هذه الأوضاع إلى انقسام معظم الوزارات والهيئات والمكاتب بين الشرق والغرب، بل وصل الأمر إلى انقسام المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط. وذلك بعد أن كانت قد تمت إنهاء سيطرة ما يعرف بحرس المنشآت النفطية، بقيادة إبراهيم الجضران، على الهلال
واستمر الحال على ما هو عليه إلى بزوغ نجم الجضران من جديد، بعد أن ظن الجميع أنه أفل، مدججاً بأحدث الأسلحة والعربات والأفراد، قاطعاً الصحراء القاحلة على مرأى ومسمع الجميع من الداخل والخارج، إلى أن يصل إلى الهلال النفطي مجدداً، فارضاً سيطرته على منطقة هذا الهلال، ويحصّن قواته داخلها، وبين خزاناتها، في تحصيناتٍ لم يستغرق إنجازها، أمام زحف الجيش، سوى ساعات في عملية عسكرية، رسمت أسئلة عديدة ما زالت من دون إجابة.
ونتيجة لما حصل، وفي خطوة غير متوقعة، تعلن القيادة العامة للجيش تكليف المؤسسة الليبية للنفط في المنطقة الشرقية بالإشراف على بيع النفط، وتحصيل إيراداته، وسط استنكار حكومة طرابلس، وغموض في الموقف الدولي، وموقف عربي لم يتبلور بعد.
السؤال المطروح، بقوة الآن، هل تعتبر هذه الخطوة المسمار الأشد إيلاماً في نعش ليبيا الواحدة؟
دلالات
مقالات أخرى
13 اغسطس 2024
07 يوليو 2024
15 مارس 2024