08 نوفمبر 2024
رئيس أميركي مشكوكٌ بأنه "خائن"
ما زالت واشنطن تعيش وقع صدمة المؤتمر الصحافي الذي جمع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، يوم الاثنين الماضي. ترامب الذي ظهر، قبل ذلك بأيام قليلة، في مؤتمر قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في العاصمة البلجيكية، بروكسل، متجهما، موبخا، ومتوعدا حلفاء بلاده، بدا كقط أليف أمام بوتين الذي تحكّم، منذ البداية، في تفاصيل القمة التي جمعته مع ترامب في العاصمة الفنلندية، هلسنكي، بدءا من وصوله متأخرا حوالي خمس وأربعين دقيقة، مرورا بعقده اجتماعا خاصا (وهو رجل المخابرات المخضرم) مع ترامب (عديم الخبرة) مدة فاقت الساعتين، من دون حضور أي من مسؤولي البلدين، إلا مُتَرْجِمَيْنِ، وانتهاء بوقائع المؤتمر الصحافي الغريب الذي كان فيه ترامب كأنه رجع الصدى لبوتين، كما في اتهامه الولايات المتحدة بـ"الحماقة" والمسؤولية المشتركة مع روسيا عن تردي العلاقات بين البلدين. كانت المفارقة الصارخة التي استفزت واشنطن، بطبقتها السياسية، في الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، واستخباراتها، وإعلامها، عندما وقف ترامب إلى جانب بوتين في رفض النتائج التي خلصت إليها الاستخبارات الأميركية مجتمعةً بأن روسيا حاولت التأثير على الانتخابات الرئاسية عام 2016 لصالح ترامب، وهو ما عده كثيرون في النخبة السياسية الأميركية، وفي الإعلام، أمرا "غير وطني" من ترامب.
باتفاق رموز كبار في الحزبين الأميركيين الحاكمين، فإن الولايات المتحدة تواجه سابقة سياسية لم تعرفها من قبل. ثمّة رئيس منتخب في البيت الأبيض مشكوك في استقلاليته عن تأثير دولة أجنبية، هي روسيا هنا. بل إن بوتين لم يتردّد في القول، في المؤتمر الصحافي، إن بلاده تمنت نجاح ترامب، لكنها لم تحاول أن تدفع بهذا الاتجاه، وذلك على الرغم من أن الاستخبارات الأميركية تؤكد عكس ذلك، وعلى الرغم من أن المحقق الأميركي الخاص، روبرت مولر، وجه اتهاما قبل أيام من القمة إلى اثني عشر ضابط استخبارات روسيا بتهمة قرصنة البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي.
لا خلاف في مؤسسات الحكم الأميركية من أن سلوك ترامب مع حلفاء الولايات المتحدة، كما (الناتو) والاتحاد الأوروبي، يخدم روسيا. عندما يلمح ترامب إلى احتمال انسحابه من حلف
الناتو، فإن تلك هدية لروسيا، وتقويض لأحد أسس الأمن الغربي المشترك في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وعندما يضغط ترامب باتجاه تفكيك الاتحاد الأوروبي، ويصنفه "خصما" اقتصاديا لأميركا، تماما كما روسيا والصين، ففي ذلك خدمة لروسيا وأطماعها التوسعية، ومحاولاتها َمَدَّ نفوذها في القارة العجوز على خطى الاتحاد السوفييتي البائد. تتابع نخب الحكم في واشنطن، بقلق بالغ، تصعيد ترامب التوترات مع الحلفاء، حتى الجارة كندا، وإطلاقه حروبا تجارية مع شركاء الولايات المتحدة، في الوقت الذي يتقرب فيه من كوريا الشمالية، من دون ضمانات حقيقية لنزع سلاحها النووي. عندما التقى ترامب، في سنغافورة، الشهر الماضي، زعيم كوريا الشمالية، خصم الولايات المتحدة، كيم جونغ أون، بالغ في الثناء عليه، لكنه لم يتردد هذا الشهر في إهانة رئيس وزراء الحليفة كندا، أو مستشارة الحليفة ألمانيا، كما أنه لم يتردّد في إحراج مضيفته، رئيسة وزراء بريطانيا.
تبقى مسألة كوريا الشمالية هامشية أميركيا، فليس ثمّة من يثير شكوكا بشأن تأثير كوريا شماليا على ترامب، والقضية تناقش في سياق قدرات الرجل دبلوماسيا، وضحالة خبرته وغروره ونزقه الشخصي، لكن روسيا، موضوع مختلف. روسيا منافس أميركي تقليدي على النفوذ، وتحديدا عسكريا. تهدد روسيا شرق أوروبا، بل وغربها أيضا. وهي اجتاحت شرقي أوكرانيا، واحتلت شبه جزيرة القرم عام 2014، والتي على إثرها فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات عليها. ثمَ هناك تدخلها العسكري المباشر في سورية، منذ عام 2015، لصالح نظام بشار الأسد. دع عنك مزاعم محاولة تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، وانتخابات في دول غربية أخرى. ذلك غيض من فيض، فبالنسبة للغرب، تحاول روسيا إعادة بعث الحرب الباردة التي استمرت حتى مطلع التسعينيات وانهيار الاتحاد السوفييتي الذي ورثته روسيا.
الغريب أن أيا من ذلك لا يثير ترامب، وهو يرى أن ثمّة مبالغةً في ردود الفعل الأميركية "الحمقاء" على السياسات الروسية، ويعتقد أنه قادرٌ على العمل مع روسيا وبوتين، بل إنه قدّم تنازلات لها، كما في سورية. أبعد من ذلك، يرى ترامب أن تحقيق الاستخبارات الأميركية في تدخل روسي مزعوم في انتخابات 2016 محاولةٌ للصيد في الماء العكر، لتعطيل جهوده لتحسين العلاقات مع موسكو. وعلى الرغم من أن الاستخبارات الأميركية تؤكد أن التدخل الروسي المزعوم لم يؤثر على نتائج الانتخابات، إلا أن ترامب يرى في أي حديثٍ عن تدخل روسي مسّاً بشرعيته الانتخابية. ولذلك، فإنه يتبنى موقف روسيا ضد تأكيدات الأجهزة الاستخبارية الأميركية. كل ما سبق يبقي شكوك بعضهم حية حول أن ثمّة أوراقا تملكها روسيا ضد ترامب وتبتزّه بها. هذا ما يراه، مثلا، ديفيد فروم، كاتب خطابات الرئيس الأسبق، جورج دبليو بوش، والذي يتهم ترامب بأنه أخضع نفسه لبوتين، ونبّه إلى أن الأمن القومي الأميركي نفسه يواجه اليوم أزمة حقيقية، بل إن الرئيس السابق للاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، جون برينان، وصل به الأمر إلى اتهام ترامب بـ"الخيانة"، بعد المؤتمر الصحافي في هلسنكي.
وعلى الرغم من أن ترامب اُضْطُرَ، عند عودته إلى واشنطن، تحت وطأة الضغوط، إلى تراجع تكتيكي عن تبرئته ساحة روسيا من محاولة التدخل في الانتخابات الأميركية، وأعلن ثقته في خلاصات أجهزته الاستخباراتية، إلا أنه لم يتمكّن من الاكتفاء بالنص المكتوب أمامه الذي
وضعه له مساعدوه، ويقول فيه إنه أخطأ في التعبير في المؤتمر الصحافي مع بوتين. مباشرةً أضاف ترامب إلى ذلك أنه لم يكن هناك تواطؤ من حملته الانتخابية مع روسيا، وأن روسيا ليست وحدها التي قد تكون حاولت التدخل في الانتخابات الأميركية. قد تعجّل هذه الإضافة من ترامب التي تؤكد أنه غير مقتنع إلى الآن بتأكيدات تقارير الأجهزة الاستخبارية الأميركية في استقالات رؤسائها الذين عيّنهم هو نفسه، وهو ما قد يتسبب بأزمة سياسية كبيرة في الولايات المتحدة.
باختصار، تقف الولايات المتحدة اليوم أمام مفصل تاريخي لم تعرفه من قبل، فثمّة رئيسٌ مشكوك في أنه خاضع لتأثير دولة أجنبية، لكنه في الوقت نفسه يحظى بشعبية كبيرة في الحزب الذي يرأسه. حسب استطلاعات الرأي، فإن ترامب "يملك" اليوم الحزب الجمهوري، بنسبة تأييد تبلغ 87%، في حين يقول 71% منهم إنهم يؤيدون طريقة إدارته ملف العلاقات مع روسيا. هذا ما يَحُدُّ من قدرة الكونغرس، الخاضع لسيطرة الجمهوريين، بمجلسيه النواب والشيوخ، على وضع كوابح لرئيسٍ انفلتت عياراته. ومرحبا بالجميع في أميركا الشُعْبَوِّيَةِ الجديدة، وذلك حتى ينقشع غبار معركة المؤسسة الحاكمة مع رئيسٍ يريد قلبها رأسا على عقب.
باتفاق رموز كبار في الحزبين الأميركيين الحاكمين، فإن الولايات المتحدة تواجه سابقة سياسية لم تعرفها من قبل. ثمّة رئيس منتخب في البيت الأبيض مشكوك في استقلاليته عن تأثير دولة أجنبية، هي روسيا هنا. بل إن بوتين لم يتردّد في القول، في المؤتمر الصحافي، إن بلاده تمنت نجاح ترامب، لكنها لم تحاول أن تدفع بهذا الاتجاه، وذلك على الرغم من أن الاستخبارات الأميركية تؤكد عكس ذلك، وعلى الرغم من أن المحقق الأميركي الخاص، روبرت مولر، وجه اتهاما قبل أيام من القمة إلى اثني عشر ضابط استخبارات روسيا بتهمة قرصنة البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي.
لا خلاف في مؤسسات الحكم الأميركية من أن سلوك ترامب مع حلفاء الولايات المتحدة، كما (الناتو) والاتحاد الأوروبي، يخدم روسيا. عندما يلمح ترامب إلى احتمال انسحابه من حلف
تبقى مسألة كوريا الشمالية هامشية أميركيا، فليس ثمّة من يثير شكوكا بشأن تأثير كوريا شماليا على ترامب، والقضية تناقش في سياق قدرات الرجل دبلوماسيا، وضحالة خبرته وغروره ونزقه الشخصي، لكن روسيا، موضوع مختلف. روسيا منافس أميركي تقليدي على النفوذ، وتحديدا عسكريا. تهدد روسيا شرق أوروبا، بل وغربها أيضا. وهي اجتاحت شرقي أوكرانيا، واحتلت شبه جزيرة القرم عام 2014، والتي على إثرها فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات عليها. ثمَ هناك تدخلها العسكري المباشر في سورية، منذ عام 2015، لصالح نظام بشار الأسد. دع عنك مزاعم محاولة تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، وانتخابات في دول غربية أخرى. ذلك غيض من فيض، فبالنسبة للغرب، تحاول روسيا إعادة بعث الحرب الباردة التي استمرت حتى مطلع التسعينيات وانهيار الاتحاد السوفييتي الذي ورثته روسيا.
الغريب أن أيا من ذلك لا يثير ترامب، وهو يرى أن ثمّة مبالغةً في ردود الفعل الأميركية "الحمقاء" على السياسات الروسية، ويعتقد أنه قادرٌ على العمل مع روسيا وبوتين، بل إنه قدّم تنازلات لها، كما في سورية. أبعد من ذلك، يرى ترامب أن تحقيق الاستخبارات الأميركية في تدخل روسي مزعوم في انتخابات 2016 محاولةٌ للصيد في الماء العكر، لتعطيل جهوده لتحسين العلاقات مع موسكو. وعلى الرغم من أن الاستخبارات الأميركية تؤكد أن التدخل الروسي المزعوم لم يؤثر على نتائج الانتخابات، إلا أن ترامب يرى في أي حديثٍ عن تدخل روسي مسّاً بشرعيته الانتخابية. ولذلك، فإنه يتبنى موقف روسيا ضد تأكيدات الأجهزة الاستخبارية الأميركية. كل ما سبق يبقي شكوك بعضهم حية حول أن ثمّة أوراقا تملكها روسيا ضد ترامب وتبتزّه بها. هذا ما يراه، مثلا، ديفيد فروم، كاتب خطابات الرئيس الأسبق، جورج دبليو بوش، والذي يتهم ترامب بأنه أخضع نفسه لبوتين، ونبّه إلى أن الأمن القومي الأميركي نفسه يواجه اليوم أزمة حقيقية، بل إن الرئيس السابق للاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، جون برينان، وصل به الأمر إلى اتهام ترامب بـ"الخيانة"، بعد المؤتمر الصحافي في هلسنكي.
وعلى الرغم من أن ترامب اُضْطُرَ، عند عودته إلى واشنطن، تحت وطأة الضغوط، إلى تراجع تكتيكي عن تبرئته ساحة روسيا من محاولة التدخل في الانتخابات الأميركية، وأعلن ثقته في خلاصات أجهزته الاستخباراتية، إلا أنه لم يتمكّن من الاكتفاء بالنص المكتوب أمامه الذي
باختصار، تقف الولايات المتحدة اليوم أمام مفصل تاريخي لم تعرفه من قبل، فثمّة رئيسٌ مشكوك في أنه خاضع لتأثير دولة أجنبية، لكنه في الوقت نفسه يحظى بشعبية كبيرة في الحزب الذي يرأسه. حسب استطلاعات الرأي، فإن ترامب "يملك" اليوم الحزب الجمهوري، بنسبة تأييد تبلغ 87%، في حين يقول 71% منهم إنهم يؤيدون طريقة إدارته ملف العلاقات مع روسيا. هذا ما يَحُدُّ من قدرة الكونغرس، الخاضع لسيطرة الجمهوريين، بمجلسيه النواب والشيوخ، على وضع كوابح لرئيسٍ انفلتت عياراته. ومرحبا بالجميع في أميركا الشُعْبَوِّيَةِ الجديدة، وذلك حتى ينقشع غبار معركة المؤسسة الحاكمة مع رئيسٍ يريد قلبها رأسا على عقب.