سورية والانتخابات التركية

03 يوليو 2018
+ الخط -
حازت الانتخابات التركية أخيرا متابعة سوريّة كبيرة؛ لأهمية الدور التركي في حل المسألة السورية من عدة نواح؛ سياسياً نتيجة علاقاتها المميزة مع روسيا وأميركا والدول الإقليمية المعنية بالموضوع، وعسكريا استنادا إلى احتلالها بلدات سورية (عفرين مثلا)، وهيمنتها المطلقة على بعض التشكيلات العسكرية السورية المعارضة، وإنسانيا واجتماعيا نتيجة احتضانها نحو 3.5 ملايين سوري داخل أراضيها، ممن قد يتعرّضون لتبعات الانتخابات، الإيجابية أو السلبية، وفقاً لتوجهات الأطراف الرابحة في هذه الانتخابات. ولكن المواقف السياسية والإعلامية السورية إجمالاً من هذه الانتخابات ونتائجها يعكس انفعالية غالبيتها وتخبّطها، إذ لم تنطلق من تحليل الواقع السوري وتحديد طبيعة الدور التركي فيه، قبل الإعلان عن أي انحياز سياسي أو إعلامي في الانتخابات. كما غابت أي محاولات للتأثير في مواقف مجمل القوى السياسية التركية، بهدف التوافق على ما يحقق مصالح كلا الشعبين، التركي والسوري معاً، لتكتفي القوى السورية، المعارضة خصوصا، إما بالاحتفال بالعملية الانتخابية، لأنها أسفرت عن انتصار رجب طيب أردوغان برئاسة تركيا، أو بالتشكيك في هذه العملية، والإشارة إلى أنها خطوة نحو الحكم الديكتاتوري الفردي.

ويعبّر هذا عن الاستمرار في الاكتفاء بتلقي تبعات التغيرات الدولية والإقليمية، في غياب شبه كامل لأي محاولة سياسية أو ثقافية من أجل التأثير في مجرى الأمور دولياً، أو في تبعات هذه التغييرات الخارجية على الملف السوري إجمالاً. حيث تعاملت القوى السياسية السورية مع الانتخابات التركية انطلاقا من طبيعة علاقتها وموقفها من شخص الرئيس التركي أردوغان الذي ما زل جزء كبير من قوى المعارضة السورية يعتبره نصيراً حقيقياً للثورة السورية، في مقابل اعتبارهم باقي الأطياف السياسية التركية من مناصري الأسد، وكأنهم يختصرون المجتمع المدني والسياسي التركي بشخص أردوغان، ما يختصر تباينات (ومواقف) الأحزاب والمجتمع التركي عموماً في ثنائية مع أردوغان أو ضده.
ويقود هذا التحليل العشوائي والاعتباطي لمجريات الأمور، محلياً وتركياً ودولياً، نحو الوقوع في أخطاء جديدة، قد ندفع، نحن العرب، ثمنها غالياً، من قبيل التراجع عن واحدةٍ من أهم القيم التي جسّدتها موجات الثورات العربية الأولى، وهي هدم المنظومة الثقافية للحكم الأبوي والمطلق والشمولي، والتي تنطلق من تأليه الحاكم وتخليده، حتى يتحول الوطن والمجتمع، بأحزابه ومكوناته، إلى جزء صغير من شخص القائد المعصوم عن الأخطاء، والمحصّن من النقد، فهو صانع الإنجازات والانتصارات الوحيد رياضياً وسياسياً واجتماعياً (غالبيتها انتصارات وهمية)، في حين يتحمل المجتمع أو المؤامرة الدولية مسؤولية الانكسارات والهزائم المتلاحقة، وفي أي من المجالات.
أي أن الإصرار، سوريا وعربيا، على حصر العلاقة مع الدولة والمجتمع التركي عبر الموقف الشخصي والسياسي من أردوغان، يعيد شعوب المنطقة إلى حظيرة عبادة الفرد، كان حاكما عربيا أم تركيا أم أي شخصية كارزماتية أخرى فاعلة ومؤثرة في قضايانا المصيرية. في حين يحافظ الشعب التركي على قيمه الحضارية والديمقراطية، باختيار الطريق المتوافقة مع مصالحهم الفردية والوطنية، من دون أي اعتبار لأسلوب تعاطينا مع شخص أردوغان. وعليه يمكن القول إن تخوف بعضهم من تحول أردوغان إلى ديكتاتور جديد، يفرض سلطته الاستبدادية على مجمل الأتراك، محكوم عمليا بطبيعة رد فعل الأتراك وشكله على هذه المحاولات إن تمت، فقد عبّر الشعب التركي، في مواقف مختلفة، عن حيويته ووعيه وفاعليته، وتجلى ذلك في دوره في إفشال المحاولة الانقلابية، وفي حجم مشاركتهم وطبيعتها اليوم في الانتخابات، حيث وصلت نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات إلى أرقام غير مسبوقة عالميا، كما أسفرت عن دعم شعبي مشروط لأردوغان، نتيجة افتقاده الغالبية البرلمانية.
كما يفتقد الموقف السياسي السوري من الانتخابات التركية الحد الأدنى من الموضوعية، فمثلا في ما يتعلق بقضية اللاجئين السوريين في تركيا، تم الربط بين أهمية انتصار أردوغان في المعركة الانتخابية وأوضاعهم، وكأنه حامي هؤلاء اللاجئين وراعي مصالحهم الأول والأخير، وهو ما يوحي بعداء باقي مكونات المجتمع التركي سياسيا واجتماعيا، الأمر الذي يتجاهل مجمل السياسات الأردوغانية التي حولت قضية اللاجئين السوريين، في بعض المحطات، إلى مجرد ورقة ضغط، يتم عبرها ابتزاز دول الاتحاد الأوروبي ماليا وسياسيا، وقد عادت بالفعل على الحكومة التركية بملايين الدولارات، كمساعدات أوروبية، نظير استيعابها السوريين، ومنعهم من مواصلة مسيرتهم نحو أوروبا، وهي الورقة التي تلوح بها تركيا بشكل دائم عند كل أزمة بينها وبين إحدى دول الاتحاد الأوروبي. ويتجاهل هذا الرأي تبعات إغلاق الحدود التركية أمام موجات اللجوء الأخرى بين ليلة وضحاها، إذ أغلقت المنافذ بوجه مجمل الشعب السوري، خصوصا القابعين تحت رحمة الإجرام الأسدي والروسي والإيراني، الأمر الذي يهدم فكرة
الموقف المبدئي التركي، أو الأردوغاني، تجاه الشعب والثورة السوريين، ما قد يؤشر إلى إمكانية تعديل التوجهات الأردوغانية الحالية تجاه اللاجئين عند أي تغيير في مصالحه، أو في مصالح تركيا عموماً.
ثم إن الانطلاق من اعتبار أردوغان نصير الثورة السورية الوحيد في تركيا، أو في المناخ السياسي التركي، يغفل ما يمكن اعتبارها كوارث حملتها سياساته على سورية وثورتها وشعبها، من فتح الحدود أمام القوى الجهادية، إلى دعم القوى الأصولية والمتطرّفة بشكل غير محدود سياسيا وعسكريا وماليا، إلى فرض الإقامة الجبرية على غالبية الضباط السوريين المنشقين عن جيش النظام، لا سيما أصحاب الخبرات والقدرات المميزة، ما حيّدهم وحيّد خبراتهم وقدراتهم عن دعم الثورة والشعب السوري في معركته مع نظام الأسد، ومع القوى الجهادية والأصولية الدخيلة عليهم. فضلا عن احتلال جزء من الأراضي السورية، وتسهيل عمليات نهب الثروات السورية العامة والخاصة، وأخيرا التعاون الأردوغاني - البوتيني من أجل حل المسألة السورية على حساب الشعب السوري، ولصالح نظام الأسد، وهو الحل الذي يعملون على تسويقه دوليا من جديد، من أجل استعادة الأسد شرعيته الدولية، ولو نسبيا.
هذه هي القضايا التي يُحتاج العمل عليها في الداخل التركي، وفي أي مكان يوجد فيه السوريون، أو له تأثير فيهم وفي قضيتهم العادلة، من أجل قيام مجتمع مدني وسياسي عالمي وإقليمي، متضامن وداعم حقيقي للسوريين، ولسورية الحرة المستقلة التي نطمح إليها، بدلاً من التعلق بأوهام التعويل على توجهات هذه الشخصية أو تلك، وهذه الدولة أو تلك، والتي تم اختبارها كثيراً في السنوات السبع الماضية بالحد الأدنى.
75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.