15 أكتوبر 2024
"ناتو" عربي.. المهمة مستحيلة
محض مصادفةٍ بحتة، فقيرة الدلالة، وغير قابلةٍ لأي محمولات أو تأويلات سياسية، أن تتزامن إعادة الحديث عن إنشاء "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، بعد مرور نحو 14 شهراً على أول طرح لما سمّي في حينه "ناتو عربي"، وذلك مع بدء عرض نسخةٍ خامسة من فيلم "المهمة مستحيلة" الأميركي الشهير، تحت اسم "الدولة المارقة" هذه المرّة، حيث حقق عرضُه، في أول أسبوع له هذا الصيف، إيرادات فاقت التوقعات، حاصداً أكثر من ستين مليون دولار، وفي ذلك إشارة حاسمة على نجاح الفيلم الجديد.
في النشرة التعريفية الموجزة لفيلم الأكشن هذا، والذي وصفته صحيفة واشنطن بوست بأنه فيلم رائع، على الرغم من السخف في بعض جوانبه، يلعب الممثل الوسيم، ذائع الصيت، توم كروز، دور رئيس الوحدة الخاصة التي تكلفها الحكومة الأميركية بمهام خارجية صعبة، ترقى إلى درجة الاستحالة، من دون أن تعترف الدولة العظمى رسمياً بوجود تلك الوحدة السّرية التابعة لها، على الرغم من أن المهمة المثيرة تبدو نبيلة حقاً، كونها تتضمّن القضاء على منظمة دولية مارقة، تملك كميةً من اليورانيوم، وهدفها تدمير صندوق النقد الدولي (!).
بدا لي هذا التزامن بين بث شريط سينمائي مثير لخيالات الشباب الأميركيين، بتوقيع المخرج كريستوفر ماك كويري، والتبشير بقيام "ناتو عربي"، تلعب فيه واشنطن مكانتها القيادية نفسها في حلف شمالي الأطلسي (الناتو)، بمثابة مدخل ملائم لعرض وجهة نظر أولية، تستلهم اسم الفيلم الموحي، من جهة أولى، بالعظمة الأميركية الفائقة، والمنذر، من جهة مقابلة، بالاستحالة شبه المطلقة، مفادها (وجهة النظر هذه) بأن هذا التحالف، الملفق واللا موضوعي، دونه خرق القتاد، أي أنه غير قابل للتحقق في المدى المنظور، لجملةٍ طويلةٍ من العوامل التي يطول شرحها.
ذلك أن أول طرح لفكرة الحلف السياسي، الأمني الإقليمي هذا، كان قد جرى في القمة الخليجية العربية الإسلامية الأميركية في الرياض أواخر مايو/ أيار من العام الماضي، بحضور الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نفسه، حيث جرى التركيز، في البيان الختامي الصادر باسم ملوك وأمراء ورؤساء نحو 55 دولة، على إبراز مخاطر التوسع الإيراني في المنطقة، وعلى ضرورة التصدّي لهذا المشروع الذي كان بعض قادته يتفاخرون آنذاك، بالصوت والصورة، بالسيطرة على أربع عواصم عربية، ويقدّمون أنفسهم أسياد البحر والبر في الديار العربية المستباحة.
منذ ذلك الوقت الذي يبدو بعيداً جداً اليوم، جرت مياه كثيرة في أنهار الجغرافيا العربية وموانئها ومضائقها، لا سيما في الخليج واليمن والمشرق العربي، جرت على أديمها وقائع فارقة،
وتسارعت، في غضونها، أحداث وتطورات بينية لافتة، وانشغل الناس خلالها بموضوعاتٍ وعناوين صغيرة وكبيرة، الأمر الذي أخرج فكرة "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي" من قيد التداول الإعلامي والدبلوماسي طوال الفترة السابقة، خصوصاً وأن الإدارة الأميركية، وكانت جديدةً في حينه، كانت تشهد تقلبات واستقالات وإقالات لا حصر لها، أضاعت دليل واشنطن، وأفقدتها البوصلة السياسية في عموم الشرق الأوسط.
من دون تمهيد أو سابق إنذار، عاد الحديث الرسمي الأميركي مجدداً، بعد أيام من قمة هلسنكي بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، عن إقامة نسخةٍ عربيةٍ منقّحة من حلف شمالي الأطلسي، أطلق بعضهم عليها اسم "ناتو عربي"، تضم، في المقام الأول، دول مجلس التعاون الخليجي الست، على الرغم مما بينها من خلافاتٍ وتمايزاتٍ ظاهرة للعيان، إلى جانب كل من مصر والأردن، بوصفهما دولتين لديهما آخر جيشين عربيين متماسكين في المشرق العربي، وهو ما يمكن تسميته مجازاً تحالف (6+2) بقيادة الولايات المتحدة التي أعلمت الدول المعنية بأنه ستتم مناقشة الأمر في قمةٍ تعقد في واشنطن يومي 12 و13 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. ولعل السؤال الذي تأخرنا في طرحه هو؛ ما هي ماهية هذا الحلف؟ وما أهدافه المعلنة وغير المعلنة؟
بحسب ما يقوله الأميركيون، يضم تحالف الشرق الأوسط هذا شركاء الولايات المتحدة الإقليميين في الشرق الأوسط، وفي قول آخر متطابق، يتكوّن هذا الحلف من الدول ذات الأغلبية السنيِة في المنطقة، أي من حلفاء أميركا التقليديين، المشار إليهم في الفقرة السابقة، فيما ظل المتحدثون الرسميون، والذين لا يسمّون الأشياء بأسمائها الحقيقية، يتجنّبون مجرد الإشارة إلى مكانة الحليف الأميركي المدلل، في نطاق هذا التحالف، ونعني به إسرائيل التي تبدو أكثر الدول المعنية اغتباطاً بقيام تجمع سياسي أمني عسكري جديد، لا يضع القضية الفلسطينية في مركز اهتمامه، أو حتى بندا على جدول أعماله.
ومع أن البيت الأبيض اكتفى بالقول إنه يرغب، من هذا التحالف، في تعزيز التعاون مع الدول المشمولة به، لا سيما في مجالات الدفاع الصاروخي، التدريب العسكري، مكافحة الإرهاب، ودعم العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية معها، وكلها أهداف مقبولة، إلا أن مجلس الأمن القومي الأميركي كان أكثر صراحة ومهنية، حين أكد أن التحالف المزمع سيشكل حصناً في مواجهة إيران والإرهاب والتّطرّف الإيراني، ثم أضاف، في إشارةٍ لا يمكن إغفال مغزاها؛ أن هذا التحالف سوف يرسي أسس السلام في منطقة الشرق الأوسط، غير أن ذلك كله ليس كافياً لقيام مثل هذا الحلف الفضفاض، في بيئةٍ إقليمية متغيرة، لا يجمع بين دولها في هذا المقام سوى هذه الرغبة الأميركية الملتبسة، فيما قواسم الحد الأدنى المشترك بين وحداتها الكيانية المتنافسة حيناً، والمتخاصمة أغلب الاحيان، لا تشكل رافعةً قويةً قادرةً على حمل هذه البنية المعقّدة، والتي تعيد إلى أذهان بعض المخضرمين ذكرى حلف بغداد، الذي أقامته الولايات المتحدة في خمسينات القرن الماضي، من تركيا الأتاتوركية وإيران الشاهنشاهية وعدد من الدول العربية، لمواجهة المد القومي المتعاظم في مصر، بقيادة جمال عبد الناصر.
بكلام آخر، التحدّي الاساسي الذي يواجه قيام هذا الحلف، ثمّ نجاحه في التّصدّي للمشروع التوسعي الإيراني، كامن في مدى القدرة على تسوية الخلافات العربية البينية سلفاً، وفي مقدمتها الخلافات القائمة في نطاق ما باتت تعرف باسم "الأزمة الخليجية"، ناهيك عن حقيقة أن الدول الخليجية الست، ذات الأولويات المختلفة، ليست لديها وجهة نظر واحدة إزاء إيران، حيث تتوزّعها ثلاثة مواقف معلنة على الأقل، على الرغم من كل ما بين هذه الدول، مجتمعةً، من تحالفات تاريخية متينة مع الولايات المتحدة، صاحبة القواعد الدائمة والأساطيل الحربية العائمة في الخليج وبحر العرب.
ولا تعرف على وجه الدقة ما إذا كانت عملية إحياء فكرة تحالف الشرق الأوسط هذا، مرتبطة بازدياد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، على خلفية اقتراب موعد فرض حزمة العقوبات الأولى المقرّرة في شهر أغسطس/ آب الحالي، وما سبقها من تهديداتٍ إيرانيةٍ بإغلاق مضيق هرمز، إذا ما تم حرمان الجمهورية الإسلامية من تصدير نفطها، بحسب ما تُنذر به عقوبات الحزمة المقرّرة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، الأمر الذي يشي بأن توقيت بعث فكرة "الناتو العربي" من جديد له ارتباط ظرفي بالتّحسّبات الأميركية إزاء ردود فعل إيرانية محتملة، قد تلقي بقفاز التحدّي أمام الدولة العظمى الوحيدة.
إزاء ذلك كله، تبدو إمكانية الإعلان عن قيام هذا الحلف إمكانية واقعية، لدى انعقاد القمة
الأميركية العربية المقرّرة في أواسط أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، نظراً إلى ما تملكه واشنطن من نفوذ واسع على الدول المخاطبة بتحالف "الناتو العربي"، غير أن تفعيل هذا الحلف، وإكسابه قوة زخم ذاتي مرتجاة، وتصليب محتواه، أمر آخر، تقتضيه ثقة أعمق بقيادة الولايات المتحدة الحالية، المتخبّطة في قضايا داخلية، تهدد بعزلها عند أول تطور ذي مغزى في التحقيقات الجارية، ضد رئيسٍ متّهمٍ بالتّورّط في اتهاماتٍ ثقيلة، وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا يتورع عن تبديل مواقفه بين صبح وعشية، بما في ذلك انقلابه على نفسه، فيما يتعلق بسياساته الإيرانية.
في النشرة التعريفية الموجزة لفيلم الأكشن هذا، والذي وصفته صحيفة واشنطن بوست بأنه فيلم رائع، على الرغم من السخف في بعض جوانبه، يلعب الممثل الوسيم، ذائع الصيت، توم كروز، دور رئيس الوحدة الخاصة التي تكلفها الحكومة الأميركية بمهام خارجية صعبة، ترقى إلى درجة الاستحالة، من دون أن تعترف الدولة العظمى رسمياً بوجود تلك الوحدة السّرية التابعة لها، على الرغم من أن المهمة المثيرة تبدو نبيلة حقاً، كونها تتضمّن القضاء على منظمة دولية مارقة، تملك كميةً من اليورانيوم، وهدفها تدمير صندوق النقد الدولي (!).
بدا لي هذا التزامن بين بث شريط سينمائي مثير لخيالات الشباب الأميركيين، بتوقيع المخرج كريستوفر ماك كويري، والتبشير بقيام "ناتو عربي"، تلعب فيه واشنطن مكانتها القيادية نفسها في حلف شمالي الأطلسي (الناتو)، بمثابة مدخل ملائم لعرض وجهة نظر أولية، تستلهم اسم الفيلم الموحي، من جهة أولى، بالعظمة الأميركية الفائقة، والمنذر، من جهة مقابلة، بالاستحالة شبه المطلقة، مفادها (وجهة النظر هذه) بأن هذا التحالف، الملفق واللا موضوعي، دونه خرق القتاد، أي أنه غير قابل للتحقق في المدى المنظور، لجملةٍ طويلةٍ من العوامل التي يطول شرحها.
ذلك أن أول طرح لفكرة الحلف السياسي، الأمني الإقليمي هذا، كان قد جرى في القمة الخليجية العربية الإسلامية الأميركية في الرياض أواخر مايو/ أيار من العام الماضي، بحضور الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نفسه، حيث جرى التركيز، في البيان الختامي الصادر باسم ملوك وأمراء ورؤساء نحو 55 دولة، على إبراز مخاطر التوسع الإيراني في المنطقة، وعلى ضرورة التصدّي لهذا المشروع الذي كان بعض قادته يتفاخرون آنذاك، بالصوت والصورة، بالسيطرة على أربع عواصم عربية، ويقدّمون أنفسهم أسياد البحر والبر في الديار العربية المستباحة.
منذ ذلك الوقت الذي يبدو بعيداً جداً اليوم، جرت مياه كثيرة في أنهار الجغرافيا العربية وموانئها ومضائقها، لا سيما في الخليج واليمن والمشرق العربي، جرت على أديمها وقائع فارقة،
من دون تمهيد أو سابق إنذار، عاد الحديث الرسمي الأميركي مجدداً، بعد أيام من قمة هلسنكي بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، عن إقامة نسخةٍ عربيةٍ منقّحة من حلف شمالي الأطلسي، أطلق بعضهم عليها اسم "ناتو عربي"، تضم، في المقام الأول، دول مجلس التعاون الخليجي الست، على الرغم مما بينها من خلافاتٍ وتمايزاتٍ ظاهرة للعيان، إلى جانب كل من مصر والأردن، بوصفهما دولتين لديهما آخر جيشين عربيين متماسكين في المشرق العربي، وهو ما يمكن تسميته مجازاً تحالف (6+2) بقيادة الولايات المتحدة التي أعلمت الدول المعنية بأنه ستتم مناقشة الأمر في قمةٍ تعقد في واشنطن يومي 12 و13 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. ولعل السؤال الذي تأخرنا في طرحه هو؛ ما هي ماهية هذا الحلف؟ وما أهدافه المعلنة وغير المعلنة؟
بحسب ما يقوله الأميركيون، يضم تحالف الشرق الأوسط هذا شركاء الولايات المتحدة الإقليميين في الشرق الأوسط، وفي قول آخر متطابق، يتكوّن هذا الحلف من الدول ذات الأغلبية السنيِة في المنطقة، أي من حلفاء أميركا التقليديين، المشار إليهم في الفقرة السابقة، فيما ظل المتحدثون الرسميون، والذين لا يسمّون الأشياء بأسمائها الحقيقية، يتجنّبون مجرد الإشارة إلى مكانة الحليف الأميركي المدلل، في نطاق هذا التحالف، ونعني به إسرائيل التي تبدو أكثر الدول المعنية اغتباطاً بقيام تجمع سياسي أمني عسكري جديد، لا يضع القضية الفلسطينية في مركز اهتمامه، أو حتى بندا على جدول أعماله.
ومع أن البيت الأبيض اكتفى بالقول إنه يرغب، من هذا التحالف، في تعزيز التعاون مع الدول المشمولة به، لا سيما في مجالات الدفاع الصاروخي، التدريب العسكري، مكافحة الإرهاب، ودعم العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية معها، وكلها أهداف مقبولة، إلا أن مجلس الأمن القومي الأميركي كان أكثر صراحة ومهنية، حين أكد أن التحالف المزمع سيشكل حصناً في مواجهة إيران والإرهاب والتّطرّف الإيراني، ثم أضاف، في إشارةٍ لا يمكن إغفال مغزاها؛ أن هذا التحالف سوف يرسي أسس السلام في منطقة الشرق الأوسط، غير أن ذلك كله ليس كافياً لقيام مثل هذا الحلف الفضفاض، في بيئةٍ إقليمية متغيرة، لا يجمع بين دولها في هذا المقام سوى هذه الرغبة الأميركية الملتبسة، فيما قواسم الحد الأدنى المشترك بين وحداتها الكيانية المتنافسة حيناً، والمتخاصمة أغلب الاحيان، لا تشكل رافعةً قويةً قادرةً على حمل هذه البنية المعقّدة، والتي تعيد إلى أذهان بعض المخضرمين ذكرى حلف بغداد، الذي أقامته الولايات المتحدة في خمسينات القرن الماضي، من تركيا الأتاتوركية وإيران الشاهنشاهية وعدد من الدول العربية، لمواجهة المد القومي المتعاظم في مصر، بقيادة جمال عبد الناصر.
بكلام آخر، التحدّي الاساسي الذي يواجه قيام هذا الحلف، ثمّ نجاحه في التّصدّي للمشروع التوسعي الإيراني، كامن في مدى القدرة على تسوية الخلافات العربية البينية سلفاً، وفي مقدمتها الخلافات القائمة في نطاق ما باتت تعرف باسم "الأزمة الخليجية"، ناهيك عن حقيقة أن الدول الخليجية الست، ذات الأولويات المختلفة، ليست لديها وجهة نظر واحدة إزاء إيران، حيث تتوزّعها ثلاثة مواقف معلنة على الأقل، على الرغم من كل ما بين هذه الدول، مجتمعةً، من تحالفات تاريخية متينة مع الولايات المتحدة، صاحبة القواعد الدائمة والأساطيل الحربية العائمة في الخليج وبحر العرب.
ولا تعرف على وجه الدقة ما إذا كانت عملية إحياء فكرة تحالف الشرق الأوسط هذا، مرتبطة بازدياد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، على خلفية اقتراب موعد فرض حزمة العقوبات الأولى المقرّرة في شهر أغسطس/ آب الحالي، وما سبقها من تهديداتٍ إيرانيةٍ بإغلاق مضيق هرمز، إذا ما تم حرمان الجمهورية الإسلامية من تصدير نفطها، بحسب ما تُنذر به عقوبات الحزمة المقرّرة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، الأمر الذي يشي بأن توقيت بعث فكرة "الناتو العربي" من جديد له ارتباط ظرفي بالتّحسّبات الأميركية إزاء ردود فعل إيرانية محتملة، قد تلقي بقفاز التحدّي أمام الدولة العظمى الوحيدة.
إزاء ذلك كله، تبدو إمكانية الإعلان عن قيام هذا الحلف إمكانية واقعية، لدى انعقاد القمة
مقالات أخرى
08 أكتوبر 2024
01 أكتوبر 2024
24 سبتمبر 2024