09 يونيو 2023
هل الدولة العربية "دولة عميقة"؟
دار النقاش بين المتداخلين في إحدى ندوات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بشأن مصطلح "الدولة العميقة"، والذي ولد في الإعلام، ويسعى إلى الدخول ضمن مصطلحات العلوم الاجتماعية. أُنتج المصطلح صحافيًا في تركيا، ثم راج في الإعلام العربي بعد الانقلاب العسكري على حكومة الإخوان المسلمين المنتخبة في مصر.
بغض النظر عن أصالته العلمية، فقد استعمل مصطلح "الدولة العميقة" ليقول إن ثمّة مؤسسات في الدولة ذات نفوذ وسطوة (مؤسسات عسكرية وأمنية بخاصة) يقودها أشخاصٌ، لهم مطامح شخصية مغلفة بآراء سياسية، تتحكّم بالقرار، وتستطيع عرقلة تنفيذ إرادة الناخبين ونتائج صناديق الانتخاب إن وجدت، أو تمنع تحقق إرادة الناخبين، عبر قمع الحريات العامة، ومنع الانتخابات أو تزويرها. ففي تركيا، تدخل الجيش، وقام بأكثر من انقلاب، ومارس الضغط على أكثر من حكومةٍ كي تتنحّى، وكان ذلك قبل أن يتولى حزب العدالة والتنمية الإسلامي السلطة، ويتوجه إلى تقليم أظافر المؤسسة العسكرية الكمالية من جهة، ويقيم نظامًا رئاسيًا من جهة أخرى. وفي مصر، أزاح العسكر سلطة "الإخوان المسلمين" التي جاءت عبر صناديق الاقتراع في ظروف خاصة سهلت لهم ذلك، ونصّب العسكر عبد الفتاح السيسي رئيسًا في مكان محمد مرسي، وها هو يسعى إلى تعديل الدستور، كي يبقى رئيسًا مدى الحياة، وهو ديدن الانقلابات العسكرية.
في الدول المتقدمة، تكون مؤسسات الدولة قوية راسخة، لا تتأثر كثيرًا بتبدّل من يجلس على
كرسي السياسة. وتستمر تلك المؤسسات في ضبط عمل الدولة والاقتصاد والمجتمع، إذ جرى الفصل بين السلطة السياسية وجهاز الدولة نسبياً، بحيث لا يتأثر أداء البيروقراطية الحكومية بنتائج الانتخابات، ومن فاز ومن خسر، ولا يستطيع الرابح أن يحوّل اتجاه البلاد على نحو راديكالي، لأن مؤسسات الدولة تتصرّف وفقًا للقوانين، والفائز الجديد بالانتخابات لا يمكنه أن يخالف القانون، بل عليه أن يغيرّه، وتغيير القوانين ليس أمرا سهلا.
أما في بلداننا العربية، مع الفوارق الملموسة بينها، فيكاد كل وصفٍ ينطبق على معظمها، فهي دول عميقة، بمعنى أن مؤسساتها منفصلةٌ عن الشعب، وتعكس مصالح النخب الحاكمة، وهي دولٌ رخوةٌ وفاشلة، لأن مؤسساتها ضعيفة، تفشل في أن تقوم بأيٍّ من مهامها بكفاءة، سوى في وظيفتي القمع والفساد، مع تفاوت في الشدّة بينها، كما ينطبق عليها مصطلح الدولة البوليسية، لأن أجهزة الأمن هي أكثر الأجهزة نفوذًا، وهي تتجاوز القوانين، بل تصوغها على هواها، ولا يعد موظف الدولة خادمًا عامًا “Civil Servant”، فهو يكره هذا الوصف، فقد أصبح "سيدًا"، حتى لو جاء من أسفل الهرم الاجتماعي، لأنه صار "ابن حكومة".
كانت مصر تقدّم نموذجا للدولة الفاشلة. ويمكن وصف لبنان اليوم بأكثر من دولةٍ فاشلة، إذ يختطف حزب الله الدولة، ويقتطع جزءًا من سيادتها. أما ليبيا فلم تكن فيها دولة أصلا، كي يكون لها وصف، فقد كان اهتمام معمر القذافي منصبًا على مؤسستين فقط، مؤسسة النفط التي تنتج المال، ومؤسسة الجيش والأمن التي تضمن السلطة بيد القذافي وزمرته. وكانت دولة اليمن ملكًا إقطاعيًا لعلي عبدالله صالح وشركائه، أما اليوم فتغيب الدولة في هذا البلد. وفي سورية والعراق، أوجدت سلطة البعث دولة التهمت المجتمع ومؤسساته، والتهمت المواطنين وحقوقهم، وتدخل سورية اليوم في نفق مظلم بعد ثماني سنوات من حربٍ أهليةٍ لم تضع أوزارها بعد، بينما يصبح العراق نموذجًا للدولة، بنظام حكم طائفي متطرّف، تحكمه مليشيات طائفية متصارعة، تنهب ثروات البلد الطائلة، وتترك الشعب العراقي في فقر وعوز وخدمات متدنيّة واضطراب وعدم استقرار. أما الجزائر فتمثل حالةً فريدةً في العالم مع رئيس فاقد وعيه، بينما يحكم من خلفه زمرة من الضباط والسياسيين الفاسدين مشكّلين "سلطة الظل".
اللافت للنظر أن ثمّة بلدانا سادتها دول عميقة وقمعية، ولكنها لم تكن دولًا فاشلة، بل حققت
تقدّما علميا واقتصاديا واجتماعيا لافتا، مثل كوريا وسنغافورة والصين وفييتنام، بينما فشلت دولنا العربية في تحقيق مثل هذا التقدّم. ويمكن تمييز دول الخليج بتحقيق تقدم في بنيتها الإدارية والمؤسسية والخدمية، بفضل ثروتها النفطية التي مكّنتها من استقدام خبراتٍ من دول متقدمة، ساعدتها في بناء مؤسساتها الإدارية والخدمية.
في الدول المتقدمة، ثمّة "دولة عميقة" أيضًا تتكون من بيروقراطية ومؤسساتٍ تعكس مصالح رأس المال الذي يتحكّم بالموارد، وبفرص العمل وبالأحزاب والجمعيات والأندية ووسائل الإعلام. ويستطيع صناعة رأي عام، وتوجيه العمليات الانتخابية وفق مصالحه، ويمتلك بالتالي القدرة على صياغة القوانين والأنظمة، وتوجيه عمل مؤسسات الدولة وفق مصالح الطبقات المتحكّمة، فالدولة في كل مكان، وإن اختلفت الدرجات، حيوانٌ أسطوريٌّ يلتهم المجتمع وأفراده. وقد استطاعت الديمقراطية في العصر الحديث، وهي ابنة أوروبا، أن تلجم هذا الحيوان وتقيّده نسبيًا، لكنه باقٍ. ويبقى المواطن في تلك الدول كائنًا هشًا نسبيًا أمام مؤسسات الدولة، لكنه أقوى بكثير من مواطننا العربي، في مواجهة مؤسسات دولته العميقة والعقيمة في آن.
في الواقع، يحتاج تحقيق التقدم دولةً قويةً ومؤسساتٍ بيروقراطيةً قويةً تتصرّف وفقًا للقانون، وتفرض النظام العام على الجميع على نحو عادل. بدون ذلك، سيعم الفساد والفوضى وتضيع حقوق الناس، وتخرب التجارة، وتنمو المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. كما يحتاج، في المقابل، مجتمعًا قويًا وحياةً سياسيةً ناشطةً تفسح في المجال أمام إرادة الشعب أن تتحقّق عبر صناديق الاقتراع، كي توازن قوة الدولة وقوة المجتمع، وتمنع تعسّفها. وثمّة تشبيهٌ للعلاقة بين الدولة والمواطن بـ "القبض على العصفور"، فإن شدّت القبضة أكثر مما يجب خنقت العصفور، وإن ارتخت طار العصفور، ولكن يد الدولة ثقيلة دائمًا، وخصوصا يد دولتنا العربية إلى درجةٍ لا تحتمل.
أملاً بقلب هذا الواقع العربي البائس، خرجت انتفاضاتٌ شعبيةٌ عفويةٌ غير منظمة في تونس وليبيا ومصر وسورية واليمن، ثم الآن السودان، ضمن ما عرف بـ"الربيع العربي"، مطالبة بالتغيير وإفساح الطريق أمام إرادة الشعوب، لكنها لم تفلح في تحقيق أهدافها، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته، إذ تجمعت ضدها قوى الدولة العربية القمعية العميقة، وقوى إقليمية وعالمية، لتحوّل الربيع إلى صقيعٍ ملقنةً هذه الشعوب العربية الثائرة، وغير الثائرة، درسًا قاسيًا، ويصعب التنبؤ بمصير انتفاضة السودان الجارية.
ولكن، أيًا كانت نتيجة هذه الانتفاضات، فهي قد أحدثت حقائق جديدة ثابتة على الأرض، فقد كسرت حاجز الخوف والرهاب من السلطة، وأوجدت وعيًا جديدًا وحراكًا جديدًا يُفقِدان أنظمة الاستبداد الأسس التي قامت عليها، ما يجعل من هذه الثورات الفاشلة تدريبًا لتغيير قادم قد لا يطول زمنه.
بغض النظر عن أصالته العلمية، فقد استعمل مصطلح "الدولة العميقة" ليقول إن ثمّة مؤسسات في الدولة ذات نفوذ وسطوة (مؤسسات عسكرية وأمنية بخاصة) يقودها أشخاصٌ، لهم مطامح شخصية مغلفة بآراء سياسية، تتحكّم بالقرار، وتستطيع عرقلة تنفيذ إرادة الناخبين ونتائج صناديق الانتخاب إن وجدت، أو تمنع تحقق إرادة الناخبين، عبر قمع الحريات العامة، ومنع الانتخابات أو تزويرها. ففي تركيا، تدخل الجيش، وقام بأكثر من انقلاب، ومارس الضغط على أكثر من حكومةٍ كي تتنحّى، وكان ذلك قبل أن يتولى حزب العدالة والتنمية الإسلامي السلطة، ويتوجه إلى تقليم أظافر المؤسسة العسكرية الكمالية من جهة، ويقيم نظامًا رئاسيًا من جهة أخرى. وفي مصر، أزاح العسكر سلطة "الإخوان المسلمين" التي جاءت عبر صناديق الاقتراع في ظروف خاصة سهلت لهم ذلك، ونصّب العسكر عبد الفتاح السيسي رئيسًا في مكان محمد مرسي، وها هو يسعى إلى تعديل الدستور، كي يبقى رئيسًا مدى الحياة، وهو ديدن الانقلابات العسكرية.
في الدول المتقدمة، تكون مؤسسات الدولة قوية راسخة، لا تتأثر كثيرًا بتبدّل من يجلس على
أما في بلداننا العربية، مع الفوارق الملموسة بينها، فيكاد كل وصفٍ ينطبق على معظمها، فهي دول عميقة، بمعنى أن مؤسساتها منفصلةٌ عن الشعب، وتعكس مصالح النخب الحاكمة، وهي دولٌ رخوةٌ وفاشلة، لأن مؤسساتها ضعيفة، تفشل في أن تقوم بأيٍّ من مهامها بكفاءة، سوى في وظيفتي القمع والفساد، مع تفاوت في الشدّة بينها، كما ينطبق عليها مصطلح الدولة البوليسية، لأن أجهزة الأمن هي أكثر الأجهزة نفوذًا، وهي تتجاوز القوانين، بل تصوغها على هواها، ولا يعد موظف الدولة خادمًا عامًا “Civil Servant”، فهو يكره هذا الوصف، فقد أصبح "سيدًا"، حتى لو جاء من أسفل الهرم الاجتماعي، لأنه صار "ابن حكومة".
كانت مصر تقدّم نموذجا للدولة الفاشلة. ويمكن وصف لبنان اليوم بأكثر من دولةٍ فاشلة، إذ يختطف حزب الله الدولة، ويقتطع جزءًا من سيادتها. أما ليبيا فلم تكن فيها دولة أصلا، كي يكون لها وصف، فقد كان اهتمام معمر القذافي منصبًا على مؤسستين فقط، مؤسسة النفط التي تنتج المال، ومؤسسة الجيش والأمن التي تضمن السلطة بيد القذافي وزمرته. وكانت دولة اليمن ملكًا إقطاعيًا لعلي عبدالله صالح وشركائه، أما اليوم فتغيب الدولة في هذا البلد. وفي سورية والعراق، أوجدت سلطة البعث دولة التهمت المجتمع ومؤسساته، والتهمت المواطنين وحقوقهم، وتدخل سورية اليوم في نفق مظلم بعد ثماني سنوات من حربٍ أهليةٍ لم تضع أوزارها بعد، بينما يصبح العراق نموذجًا للدولة، بنظام حكم طائفي متطرّف، تحكمه مليشيات طائفية متصارعة، تنهب ثروات البلد الطائلة، وتترك الشعب العراقي في فقر وعوز وخدمات متدنيّة واضطراب وعدم استقرار. أما الجزائر فتمثل حالةً فريدةً في العالم مع رئيس فاقد وعيه، بينما يحكم من خلفه زمرة من الضباط والسياسيين الفاسدين مشكّلين "سلطة الظل".
اللافت للنظر أن ثمّة بلدانا سادتها دول عميقة وقمعية، ولكنها لم تكن دولًا فاشلة، بل حققت
في الدول المتقدمة، ثمّة "دولة عميقة" أيضًا تتكون من بيروقراطية ومؤسساتٍ تعكس مصالح رأس المال الذي يتحكّم بالموارد، وبفرص العمل وبالأحزاب والجمعيات والأندية ووسائل الإعلام. ويستطيع صناعة رأي عام، وتوجيه العمليات الانتخابية وفق مصالحه، ويمتلك بالتالي القدرة على صياغة القوانين والأنظمة، وتوجيه عمل مؤسسات الدولة وفق مصالح الطبقات المتحكّمة، فالدولة في كل مكان، وإن اختلفت الدرجات، حيوانٌ أسطوريٌّ يلتهم المجتمع وأفراده. وقد استطاعت الديمقراطية في العصر الحديث، وهي ابنة أوروبا، أن تلجم هذا الحيوان وتقيّده نسبيًا، لكنه باقٍ. ويبقى المواطن في تلك الدول كائنًا هشًا نسبيًا أمام مؤسسات الدولة، لكنه أقوى بكثير من مواطننا العربي، في مواجهة مؤسسات دولته العميقة والعقيمة في آن.
في الواقع، يحتاج تحقيق التقدم دولةً قويةً ومؤسساتٍ بيروقراطيةً قويةً تتصرّف وفقًا للقانون، وتفرض النظام العام على الجميع على نحو عادل. بدون ذلك، سيعم الفساد والفوضى وتضيع حقوق الناس، وتخرب التجارة، وتنمو المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. كما يحتاج، في المقابل، مجتمعًا قويًا وحياةً سياسيةً ناشطةً تفسح في المجال أمام إرادة الشعب أن تتحقّق عبر صناديق الاقتراع، كي توازن قوة الدولة وقوة المجتمع، وتمنع تعسّفها. وثمّة تشبيهٌ للعلاقة بين الدولة والمواطن بـ "القبض على العصفور"، فإن شدّت القبضة أكثر مما يجب خنقت العصفور، وإن ارتخت طار العصفور، ولكن يد الدولة ثقيلة دائمًا، وخصوصا يد دولتنا العربية إلى درجةٍ لا تحتمل.
أملاً بقلب هذا الواقع العربي البائس، خرجت انتفاضاتٌ شعبيةٌ عفويةٌ غير منظمة في تونس وليبيا ومصر وسورية واليمن، ثم الآن السودان، ضمن ما عرف بـ"الربيع العربي"، مطالبة بالتغيير وإفساح الطريق أمام إرادة الشعوب، لكنها لم تفلح في تحقيق أهدافها، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته، إذ تجمعت ضدها قوى الدولة العربية القمعية العميقة، وقوى إقليمية وعالمية، لتحوّل الربيع إلى صقيعٍ ملقنةً هذه الشعوب العربية الثائرة، وغير الثائرة، درسًا قاسيًا، ويصعب التنبؤ بمصير انتفاضة السودان الجارية.
ولكن، أيًا كانت نتيجة هذه الانتفاضات، فهي قد أحدثت حقائق جديدة ثابتة على الأرض، فقد كسرت حاجز الخوف والرهاب من السلطة، وأوجدت وعيًا جديدًا وحراكًا جديدًا يُفقِدان أنظمة الاستبداد الأسس التي قامت عليها، ما يجعل من هذه الثورات الفاشلة تدريبًا لتغيير قادم قد لا يطول زمنه.