07 نوفمبر 2024
ولماذا جبران باسيل بالذات؟
من يتابع مجريات الانتفاضة اللبنانية لا بد أنه لاحظ الكمْ الهائل من الشتائم والنُكَت والأهازيج والرسوم الكاريكاتورية والأغاني المركّبة، وأشهرها "هيلا هيلا هيلا هلا هو جبران باسيل... إمو". وقد انتشرت الأخيرة منذ اللحظات الأولى، ثم توسّعت وزاد الإقبال عليها بوتيرة سريعة، تلقائية، بلغ عَنانها اللغة الصينية وفن الأوبرا، وأغاني الأطفال، بل حتى القمصان المطبوع عليها "هيلا هيلا هيلا هلا هو.."؛ كأن كل هذا المخزون لم يكن ينتظر سوى لحظته المناسبة لينفجر ضحكاً وشتيمةً على واحد من "كبار" سياسيي لبنان، وزير الخارجية، صهر رئيس الجمهورية المستقْتل لوراثة عمّه حين تنقضي الساعة.
لماذا؟ لماذا جبران باسيل بالذات، مع أن المتظاهرين يرفعون شعاراتٍ جذرية، لا تطالب بأقل من إسقاط النظام السياسي اللبناني برمّته؟ وتردّد بلا انقطاع "كلن يعني كلن" (جميعهم يعني جميعهم) من دون أي استثناء، من دون تفضيل واحد من الزعماء على حساب آخر، كما كانت تفعل تظاهراتٌ سابقة؟
أجرت مجلة رصيف 22 استطلاعاً سريعاً للرأي مع المتظاهرين، بالسؤال نفسه، فكان جواب
غالبيتهم العظمى إنه "سئيل"، أي ثقيل الظل، ثقيل على القلب والروح. وهو فعلاً كذلك. لا يلبث أن يبدأ بالكلام حتى تتطاير من قَسَمات وجهه تعابير من اعتاد على أنه "سئيل"، ولكنه لا يأبه، بل يعتبر هذه "السآلة" وساما على صدره، دليل تفرّده عن بقية البشر الذين لن يتساوى أبدا مصيرُهم بمساره، ولا "ألْمعيته" برداءتهم؛ فالتمجيد بـ"ذكائه" لازمة مدّاحي العهد. ولكن، ثمّة سياسيون آخرون يتّسمون بـ"السآلة"، ولم تنل منهم نيران السخرية؛ فما بالنا نظلمه وحده على "سآلته"؟
أولاً: لا يملك جبران باسيل، بحد ذاته، القوة، إنما هو مستقوٍ بحزب الله، وبعمِّه رئيس الجمهورية، المستقوي بدوره بحزب الله. وهو في بلدته، البترون، سقطَ مرتين في الانتخابات النيابية، على الرغم من أن قانونها فُصِّل على قياسه. وإذا ما قارنته بـ"مستقوين" آخرين بسلاح حزب الله، سوف تلاحظ أنهم لم ينالوا غير القليل مقارنة بالثمن القياسي الذي قبَضَه. قوة مستعارة، لا تضاهي الوراثة "الأصلية"، الآتية من الصُلب؛ مثل التي يتمتع بها وليد جنبلاط أو سعد الحريري، أو منافسه على الرئاسة طوني فرنجية. والثلاثة دفعوا ثمناً لهذه الوراثة، هو دماء الوارث، والدهم، المسْفوك على أرض الصراعات السياسية. إنه طارئ، دخيل، ومصاهرته رئيس الجمهورية قائمة على قوانين زواج كهذا التي بالكاد يعترف بها اللبنانيون، بعدما ازدحمت ساحاتهم بالورثة "الأصليين". بل يشكّون في "انتهازية" هذا الزواج، وقد حصل بعدما تعرّف باسيل إلى ميشال عون في فرنسا، وعَرَض عليه "مواهبه"، فصعدَ بسرعة الصاروخ؛ وهناك تعرّف إلى الإبنة الصغرى، ففُتِحت له أبواب الجنّة.
ثانيا: الوجود اليومي لباسيل، وبتغطيةٍ إعلاميةٍ قسرية، على الخشبة السياسية في لبنان، قياسي، لم يبلغه ولا سياسي واحد في لبنان. كل يوم وعد وتصريح وموقف وخطاب وإعلان.. فيها من العنصرية والتلاعب الصريح بالعواطف الطائفية، والكذب البواح النافي لحقائق ميدانية على الأرض؛ ومن جملة هذه الحقائق فشله الذريع في إدارة شؤون الدولة؛ وتباهيه بهذا الفشل عن طريق تكرار القرارات نفسها، والوعود نفسها. وأشهر تصريحاته أنه سيجلب الكهرباء "24 على 24 ساعة".. يكرّرها منذ أكثر من عقد ونصف العقد. طاووس فاشل، واستفزازي فوق الدكّة، واستعراض تلفزيوني يومي.. كل هذا وضعه تحت مجهر اللبنانيين، فألفوا وجهه، وسهل بذلك ربط فشل العهد بهذا الوجه. الحضور "القوي" للرجل "القوي"، كانت النقطة الأساسية في أذهان غالبية المتظاهرين، فالتهموه، كوجبة ساخنة، شهية وسائغة.
ثالثاً: ليس لجبران باسيل "جمهور" يدافع عنه، أو يهجم على المتظاهرين بالقمصان السوداء
إياها، بالحجارة والعصي، يضرب بكل ما أوتي له من قوة، صارخاً "لبيكَ يا باسيل"، "لبيك يا باسيل"، كما فعل مهاجمو حزب الله قبل أيام مع متظاهري ساحة رياض الصلح في بيروت. ولا فرض باسيل، كما فرض هؤلاء المهاجمون، الاستماع إلى خطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بقوة العضَلات أيضاً، وهم صامتون ساعة ونصف ساعة؛ خطاب يصفهم فيه بالعمالة والرشوة والفتنة.. فجمهور باسيل المفترَض، في البترون، بلدته نفسها، مُجْمِع على التظاهر ضده، فيما جمهور صاحب النعمة عليه يقدّس زعيمه حسن نصر الله، ويفهم المتظاهرون جيداً أن النيْل منه، ولو بشعار وقور، سيخرّب انتفاضتهم، فالذين هجموا بالأمس على المتظاهرين من جماعة حزب الله كانوا فقط يعترضون على شعار "كلن يعني كلن" (الجميع يعني الجميع)، ويريدون أن يفرضوا بالقوة نفسها شعار استثناء حسن نصر الله منه.
رابعاً: الاستئثار. بينه وبين نفسه، يرفع جبران باسيل شعار كميل شمعون، رئيس الجمهورية، أيام عزّه، في ستينات القرن الماضي: "ما لي هو لي، وما لكُم هو لي ولكم". مثل مجرار الحصاد، يلهف كل شيء في طريقه. فيما سعد الحريري يقبع في إرث الفساد الذي يحمله عن أبيه، وهو مدعاة للشفقة.. وفيما وليد جنبلاط يحاول الحفاظ على زعامته مهما كان الثمن، ونبيه بري مطمئن إلى "الأرانب السحرية" التي سوف يُخرجها من تحت إبطه، كلما يشتدّ الخلاف على الحصص الواجب تقاسمها.. ينقضّ باسيل على الأخضر واليابس، وبشعار "محاربة الفساد"، و"برامج الإصلاح" وما إلى هنالك من كلماتٍ تغطّي فساداً من نوع جديد: فساد الذين حُرِموا طويلاً من أكل مال الدولة، وها هم يستلحقون أنفسهم، وبسرعة، قبل أن تفرغ الخزينة اللبنانية الحلوب من الخيرات المُستباحة.
خامساً، وربما الأهم: باسيل رجل مبتذل. صحيح أن الساحة اللبنانية لم تخلُ يوماً من الرجال أصحاب اللسان البذيء. أذكر يوماً أن صديقاً صحافياً أجرى أولى المقابلات مع إلياس الهراوي، بعيد انتخابه رئيساً للجمهورية. وكانت كل إجابات الرئيس على أسئلته تتخلّلها ثلاث نقاط، أو تنتهي بها... سألتُ صديقي عن سرّ هذه النقاط، فأجابني إنها كانت حذفاً لشتائم نطقَ بها الرئيس، ولم يرَ من الأعراف أو اللياقة أن ينقلها. ولكن الهراوي لم يكن "سئيلا"، بل كانت شتائمه
تُضحك الجميع، حتى خصومه. وفي العهد الجديد، كثيرون عُرفوا ببذاءتهم: الأشهر من بين هذا الصف الثاني من البذيئين، هو وئام وهاب، أشرف ريفي، نهاد المشنوق.. ولكن باسيل تفوّق على الجميع ببذاءته. مثلهم، تناول النساء، وحطّ من شأنهن. والجميع شاهد شريط الفيديو الذي رسم بيديه جسد القنصل كارولين زيادة، ليغري وزير الخارجية الإماراتي بالقدوم إلى لبنان، كطريقة لتحْميسه جنسياً. والأمر لا يتوقف على هذا. إنما البذاءة منتشرة بشدة على ألسنة نوابه وإعلامييه، حتى النساء منهم. وجديدهن، صحافية عونية، قالت قبل يومين للقناة العونية كلاماً مهيناً بحق المتظاهرات، بتلميحاتٍ جنسيةٍ تلازم تلك الدعاية الرائجة في الوسط العوني والحزب اللهي؛ بأن النساء هناك، "فالِتات" جنسياً، يتعاطين الخمر والحشيشة.. إلخ.
الآن، لِم الشتائم والردحيات، بدل الشعارت الوقورة؟ لأن باسيل مجرّد وجوده على رأس البلاد هو شتيمة بحد ذاتها بالنسبة إلى اللبنانيين؛ وبتقسيم واضح للعمل بينه وبين حزب الله: هو يشتم اللبنانيين، والحزب يخيفهم. ولا يُرَدّ على وظيفة الشتم هذه، بسوى الشتيمة الضاحكة، الشتيمة التي حوّلت الغضب إلى ضحكة، إلى لذّة ذهنية خالصة. ولماذا أمه تحديداً؟ لأن الاعتقاد يسود بأن الماما ربّته على طموحه الأول بأن يصبح بطريركاً "عندما يكبر". لم يجاره حظّه بترؤس المسيحيين دينيا، ولكنه منَحه ترؤسهم سياسياً، فكان العزّ والجاه و"الذرية" أو "التربية" الصالحة.
قبل اندلاع الانتفاضة بأكثر من أسبوع، اجتمع باسيل مع حسن نصر الله ثماني ساعات، رشَح عنها الكلام المعروف. ثم بعدها بيومين، صرّح باسيل بأنه "سوف يقلب الطاولة على الجميع"، وبنبْرة التحدّي والاستفزاز المعهودَين. كان يقصد شركاءه غير الطيّعين في الحكومة. ولكن الدنيا قامت، وانقلبت "الطاولة" عليه، ومن مكانٍ لم يمكّنه ذكاؤه منقطع النظير من تخْمينه... فصار "كبش محرقةٍ" لنظام يريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
أجرت مجلة رصيف 22 استطلاعاً سريعاً للرأي مع المتظاهرين، بالسؤال نفسه، فكان جواب
أولاً: لا يملك جبران باسيل، بحد ذاته، القوة، إنما هو مستقوٍ بحزب الله، وبعمِّه رئيس الجمهورية، المستقوي بدوره بحزب الله. وهو في بلدته، البترون، سقطَ مرتين في الانتخابات النيابية، على الرغم من أن قانونها فُصِّل على قياسه. وإذا ما قارنته بـ"مستقوين" آخرين بسلاح حزب الله، سوف تلاحظ أنهم لم ينالوا غير القليل مقارنة بالثمن القياسي الذي قبَضَه. قوة مستعارة، لا تضاهي الوراثة "الأصلية"، الآتية من الصُلب؛ مثل التي يتمتع بها وليد جنبلاط أو سعد الحريري، أو منافسه على الرئاسة طوني فرنجية. والثلاثة دفعوا ثمناً لهذه الوراثة، هو دماء الوارث، والدهم، المسْفوك على أرض الصراعات السياسية. إنه طارئ، دخيل، ومصاهرته رئيس الجمهورية قائمة على قوانين زواج كهذا التي بالكاد يعترف بها اللبنانيون، بعدما ازدحمت ساحاتهم بالورثة "الأصليين". بل يشكّون في "انتهازية" هذا الزواج، وقد حصل بعدما تعرّف باسيل إلى ميشال عون في فرنسا، وعَرَض عليه "مواهبه"، فصعدَ بسرعة الصاروخ؛ وهناك تعرّف إلى الإبنة الصغرى، ففُتِحت له أبواب الجنّة.
ثانيا: الوجود اليومي لباسيل، وبتغطيةٍ إعلاميةٍ قسرية، على الخشبة السياسية في لبنان، قياسي، لم يبلغه ولا سياسي واحد في لبنان. كل يوم وعد وتصريح وموقف وخطاب وإعلان.. فيها من العنصرية والتلاعب الصريح بالعواطف الطائفية، والكذب البواح النافي لحقائق ميدانية على الأرض؛ ومن جملة هذه الحقائق فشله الذريع في إدارة شؤون الدولة؛ وتباهيه بهذا الفشل عن طريق تكرار القرارات نفسها، والوعود نفسها. وأشهر تصريحاته أنه سيجلب الكهرباء "24 على 24 ساعة".. يكرّرها منذ أكثر من عقد ونصف العقد. طاووس فاشل، واستفزازي فوق الدكّة، واستعراض تلفزيوني يومي.. كل هذا وضعه تحت مجهر اللبنانيين، فألفوا وجهه، وسهل بذلك ربط فشل العهد بهذا الوجه. الحضور "القوي" للرجل "القوي"، كانت النقطة الأساسية في أذهان غالبية المتظاهرين، فالتهموه، كوجبة ساخنة، شهية وسائغة.
ثالثاً: ليس لجبران باسيل "جمهور" يدافع عنه، أو يهجم على المتظاهرين بالقمصان السوداء
رابعاً: الاستئثار. بينه وبين نفسه، يرفع جبران باسيل شعار كميل شمعون، رئيس الجمهورية، أيام عزّه، في ستينات القرن الماضي: "ما لي هو لي، وما لكُم هو لي ولكم". مثل مجرار الحصاد، يلهف كل شيء في طريقه. فيما سعد الحريري يقبع في إرث الفساد الذي يحمله عن أبيه، وهو مدعاة للشفقة.. وفيما وليد جنبلاط يحاول الحفاظ على زعامته مهما كان الثمن، ونبيه بري مطمئن إلى "الأرانب السحرية" التي سوف يُخرجها من تحت إبطه، كلما يشتدّ الخلاف على الحصص الواجب تقاسمها.. ينقضّ باسيل على الأخضر واليابس، وبشعار "محاربة الفساد"، و"برامج الإصلاح" وما إلى هنالك من كلماتٍ تغطّي فساداً من نوع جديد: فساد الذين حُرِموا طويلاً من أكل مال الدولة، وها هم يستلحقون أنفسهم، وبسرعة، قبل أن تفرغ الخزينة اللبنانية الحلوب من الخيرات المُستباحة.
خامساً، وربما الأهم: باسيل رجل مبتذل. صحيح أن الساحة اللبنانية لم تخلُ يوماً من الرجال أصحاب اللسان البذيء. أذكر يوماً أن صديقاً صحافياً أجرى أولى المقابلات مع إلياس الهراوي، بعيد انتخابه رئيساً للجمهورية. وكانت كل إجابات الرئيس على أسئلته تتخلّلها ثلاث نقاط، أو تنتهي بها... سألتُ صديقي عن سرّ هذه النقاط، فأجابني إنها كانت حذفاً لشتائم نطقَ بها الرئيس، ولم يرَ من الأعراف أو اللياقة أن ينقلها. ولكن الهراوي لم يكن "سئيلا"، بل كانت شتائمه
الآن، لِم الشتائم والردحيات، بدل الشعارت الوقورة؟ لأن باسيل مجرّد وجوده على رأس البلاد هو شتيمة بحد ذاتها بالنسبة إلى اللبنانيين؛ وبتقسيم واضح للعمل بينه وبين حزب الله: هو يشتم اللبنانيين، والحزب يخيفهم. ولا يُرَدّ على وظيفة الشتم هذه، بسوى الشتيمة الضاحكة، الشتيمة التي حوّلت الغضب إلى ضحكة، إلى لذّة ذهنية خالصة. ولماذا أمه تحديداً؟ لأن الاعتقاد يسود بأن الماما ربّته على طموحه الأول بأن يصبح بطريركاً "عندما يكبر". لم يجاره حظّه بترؤس المسيحيين دينيا، ولكنه منَحه ترؤسهم سياسياً، فكان العزّ والجاه و"الذرية" أو "التربية" الصالحة.
قبل اندلاع الانتفاضة بأكثر من أسبوع، اجتمع باسيل مع حسن نصر الله ثماني ساعات، رشَح عنها الكلام المعروف. ثم بعدها بيومين، صرّح باسيل بأنه "سوف يقلب الطاولة على الجميع"، وبنبْرة التحدّي والاستفزاز المعهودَين. كان يقصد شركاءه غير الطيّعين في الحكومة. ولكن الدنيا قامت، وانقلبت "الطاولة" عليه، ومن مكانٍ لم يمكّنه ذكاؤه منقطع النظير من تخْمينه... فصار "كبش محرقةٍ" لنظام يريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه.