01 أكتوبر 2022
هوامش على لقاء ماكرون
ليس غريباً أن تنطلق المدفعية الإعلامية الموالية للسلطة في مصر ضد الحقوقيين المصريين الذين استجابوا لدعوة وجهها إليهم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون. ولكن ما لم يكن متوقعاً هو انطلاق مدفعية اغتيال معنوي من بعض الشخصيات المعارضة. وعلى الرغم من أن من المؤكد أن تحفظاتٍ منطقية للغاية يمكن أن تُطرح، سواء بشأن مبدأ اللقاء، أو جدواه، أو بشأن شخص ماكرون تحديداً، وهو الذي يتعامل في بلاده كأنه وكيلٌ للبنوك ضد "السترات الصفراء"، ويتعامل في بلادنا كسمسار أسلحة، فالدول "لا تُبنى بالمدوّنين" بل بالرافال كما نعلم، لكن هذا يبرّر الاختلاف السياسي المُقدر، وليس اتهامات التخوين والعمالة والارتزاق التي تطابقت بها خطابات بعض المعارضين مع الإعلامي أحمد موسى!
ولافت هنا مدى تناقض هذا الخطاب، حيث ينتهي بأن تصبح "الخيانة" بجلالة قدرها أمراً هيناً ينطبق على مجرد لقاء علني. ما هي الأسرار الخطيرة التي يعرفها هؤلاء الحقوقيون ليكشفوها للأجانب؟ ولماذا لم يكشفوها سراً إذن؟
ونتذكّر هنا أن نشأة الحركة الوطنية المصرية ارتبطت بتعامل مباشر مع الاحتلال الإنكليزي نفسه، فالزعيمان مصطفى كامل، ومحمد فريد، أمضيا حياتهما يجولان في الدول الأوروبية. كتبا في الصحف البريطانية، وقابلا سياسيين بريطانيين، ولاحقاً استمرّ المسار نفسه مع سعد زغلول الذي كانت جوهر قصته، وقصة ثورة 1919، جمع توكيلات شعبية لوفد سعد زغلول، ليكون ممثلاً شعبياً في مؤتمر باريس للسلام، لأنه اعتبر الوفد الحكومي الرسمي حليفاً للإنكليز. ومن اللافت في قصة زغلول أنه بعد نفيه، ثم عودته، لم يمانع في لقاء "لجنة ميلنر" الممثلة للحكومة البريطانية، وما كان أسهل الشعارات التطهرية، لكنه في المقابل لم يتنازل عن مطالبه، وانتهت هذه الجولة بالفشل.
ليس المعنى هنا هو الإسقاط السياسي فالاختلافات كبيرة، لكن المعنى فقط أن التعامل مع المحتل الغاصب نفسه كان يخضع لتفاصيل السياق، وهو ما يجعل تعاملاً يُصنّف نضالاً وطنياً، وتعاملاً آخر معهم يصم من يفعله للأبد بالخيانة. إذن، ليس المعيار مجرد اللقاء بحد ذاته، سواء كان طرفه أجنبياً أو رسمياً محلياً، بل أسلوبه وسياقه، وما تم فيه وبعده، إلى غيرها من التفاصيل، علماً بأنه عالمياً لم تنجح حركة لمناهضة الاستعمار الأجنبي، أو الاستبداد المحلي، إلا وكان من أهدافها توصيل صوتها إلى الخارج، إقليمياً أو عالمياً.
تاريخياً، شهدت الحركة الحقوقية المصرية، قبل عقود، جدلاً كبيراً بشأن شروط قبول التمويل الأجنبي ومحاذيره، التفريق بين الحكومي وغير الحكومي منه، الحد الفاصل بين التعاون وفرض أجندة الممول، لكن من المهم هنا تأكيد أن مصر الرسمية وقعت، بكامل إرادتها، على معاهداتٍ دولية تسمح بذلك التعامل، والذي ما زال يتم بموجب بروتوكولاتٍ تشرف عليها الحكومة المصرية بنفسها.
ويمكن، في السياق نفسه، أن نتذكّر اختلاف التعامل الرسمي حسب الجهة، فيتفاخر سياسيون بصورهم مع مسؤولين إماراتيين، ويظهر النائب مصطفى بكري في مستندات السفارة السعودية في "ويكيليكس"، أو بتحقيقات فساد قناة نسمة الليبية، وتنافح منظمات حقوقية موالية دفاعاً عن الموقف الرسمي في مجلس حقوق الإنسان في جنيف.
ومن اللافت أيضاً مفارقة أن الخطاب الرسمي يؤكد أن هؤلاء أصدقاؤنا، أوروبا أكبر شريكٍ تجاري لمصر، نستورد السلاح منهم، أي أن لديهم أكثر الأسرار حساسيةً، ويرسل الجيش بعثاتٍ تدريبيةً إلى الولايات المتحدة. إذن، كيف يتحوّلون فجأة إلى أعداء متآمرين؟
يرجع الجوهر الحقيقي إلى تأسيس دولة يوليو الناصرية، حيث الدولة الرسمية هي المحتكر الوحيد للمجال العام، هي محتكر السياسة الداخلية، فتصبح مصطلحات "حزب" أو "تمويل" بحد ذاتها مشبوهة، وهي محتكر السياسة الخارجية، فيصبح أي تعاملٍ مع أجنبي مشبوهاً إلا بموافقة حكومية. ولا يهم هنا التساؤل عن تمثيل الحكومة مواطنيها في انتخابات نزيهة، فضلاً عن أحقية الأنظمة في المصادرة الكاملة للمجال العام.
ولعل كل هذا الجدل رفاهية في الظروف الحالية، فقبل أن يرحل ماكرون نفسه، شهدت مصر موجة جديدة من القبض على معارضين، أحدهم بأهمية المهندس يحيى حسين عبد الهادي. ولا يمكن، في هذا السياق، عقلنة من يطرق الباب صارخاً: "افتح بنموت"!
ونتذكّر هنا أن نشأة الحركة الوطنية المصرية ارتبطت بتعامل مباشر مع الاحتلال الإنكليزي نفسه، فالزعيمان مصطفى كامل، ومحمد فريد، أمضيا حياتهما يجولان في الدول الأوروبية. كتبا في الصحف البريطانية، وقابلا سياسيين بريطانيين، ولاحقاً استمرّ المسار نفسه مع سعد زغلول الذي كانت جوهر قصته، وقصة ثورة 1919، جمع توكيلات شعبية لوفد سعد زغلول، ليكون ممثلاً شعبياً في مؤتمر باريس للسلام، لأنه اعتبر الوفد الحكومي الرسمي حليفاً للإنكليز. ومن اللافت في قصة زغلول أنه بعد نفيه، ثم عودته، لم يمانع في لقاء "لجنة ميلنر" الممثلة للحكومة البريطانية، وما كان أسهل الشعارات التطهرية، لكنه في المقابل لم يتنازل عن مطالبه، وانتهت هذه الجولة بالفشل.
ليس المعنى هنا هو الإسقاط السياسي فالاختلافات كبيرة، لكن المعنى فقط أن التعامل مع المحتل الغاصب نفسه كان يخضع لتفاصيل السياق، وهو ما يجعل تعاملاً يُصنّف نضالاً وطنياً، وتعاملاً آخر معهم يصم من يفعله للأبد بالخيانة. إذن، ليس المعيار مجرد اللقاء بحد ذاته، سواء كان طرفه أجنبياً أو رسمياً محلياً، بل أسلوبه وسياقه، وما تم فيه وبعده، إلى غيرها من التفاصيل، علماً بأنه عالمياً لم تنجح حركة لمناهضة الاستعمار الأجنبي، أو الاستبداد المحلي، إلا وكان من أهدافها توصيل صوتها إلى الخارج، إقليمياً أو عالمياً.
تاريخياً، شهدت الحركة الحقوقية المصرية، قبل عقود، جدلاً كبيراً بشأن شروط قبول التمويل الأجنبي ومحاذيره، التفريق بين الحكومي وغير الحكومي منه، الحد الفاصل بين التعاون وفرض أجندة الممول، لكن من المهم هنا تأكيد أن مصر الرسمية وقعت، بكامل إرادتها، على معاهداتٍ دولية تسمح بذلك التعامل، والذي ما زال يتم بموجب بروتوكولاتٍ تشرف عليها الحكومة المصرية بنفسها.
ويمكن، في السياق نفسه، أن نتذكّر اختلاف التعامل الرسمي حسب الجهة، فيتفاخر سياسيون بصورهم مع مسؤولين إماراتيين، ويظهر النائب مصطفى بكري في مستندات السفارة السعودية في "ويكيليكس"، أو بتحقيقات فساد قناة نسمة الليبية، وتنافح منظمات حقوقية موالية دفاعاً عن الموقف الرسمي في مجلس حقوق الإنسان في جنيف.
ومن اللافت أيضاً مفارقة أن الخطاب الرسمي يؤكد أن هؤلاء أصدقاؤنا، أوروبا أكبر شريكٍ تجاري لمصر، نستورد السلاح منهم، أي أن لديهم أكثر الأسرار حساسيةً، ويرسل الجيش بعثاتٍ تدريبيةً إلى الولايات المتحدة. إذن، كيف يتحوّلون فجأة إلى أعداء متآمرين؟
يرجع الجوهر الحقيقي إلى تأسيس دولة يوليو الناصرية، حيث الدولة الرسمية هي المحتكر الوحيد للمجال العام، هي محتكر السياسة الداخلية، فتصبح مصطلحات "حزب" أو "تمويل" بحد ذاتها مشبوهة، وهي محتكر السياسة الخارجية، فيصبح أي تعاملٍ مع أجنبي مشبوهاً إلا بموافقة حكومية. ولا يهم هنا التساؤل عن تمثيل الحكومة مواطنيها في انتخابات نزيهة، فضلاً عن أحقية الأنظمة في المصادرة الكاملة للمجال العام.
ولعل كل هذا الجدل رفاهية في الظروف الحالية، فقبل أن يرحل ماكرون نفسه، شهدت مصر موجة جديدة من القبض على معارضين، أحدهم بأهمية المهندس يحيى حسين عبد الهادي. ولا يمكن، في هذا السياق، عقلنة من يطرق الباب صارخاً: "افتح بنموت"!