رئيس إلى الأبد

10 فبراير 2019
+ الخط -
يصر الرؤساء العرب، وبشكل تقليدي، على تسويغ وجودهم في السلطة بشكل قانوني، بحيث لا يتعارض احتلالهم الدائم سدة الحكم مع مادة دستورية هنا أو هناك.. والدستور، بما يحمله من قوةٍ دامغةٍ، هو المرجع القانوني الأعلى، ولا يمكن تجاوزه، ويعتبر الموجّه الأول لأي نشاط حقوقي. ويعتقد الرؤساء أن قوة هذه الوثيقة التي تؤسَّسُ الدولةُ على بنودها، وتمنحها وجهها السياسي، ستعطي القوة اللازمة لملازمتهم الأزلية الكرسي. لذلك يحرص الحكام العرب على تعديل الدستور كلما وجدوا فيه بنداً يمكن أن يعرقل استمرار رئاستهم.
أصر أول رئيس للولايات المتحدة، جورج واشنطن، على عدم السماح للرئيس بالترشّح أكثر من فترتين رئاسيتين، وقد كان قادراً على الجلوس على كرسي الرئاسة مدى الحياة، ليتحوّل هذا التصرّف السياسي إلى عرفٍ سار عليه كل رئيس أميركي لاحق، قبل أن يصبح مادةً دستوريةً أصيلةً في التعديل الثاني والعشرين للدستور الأميركي.
يفترض المشرع الأميركي بأن فترتين رئاسيتين تكفيان أي رئيسٍ ليطبق برنامجه الرئاسي. ويمكن خلال هذه الفترة الطويلة أن يظهر الفارق في الأوضاع السياسية والاجتماعية للدولة. وبعدها يجب إعطاء الفرصة لدماء مختلفة بأن تضخ في عروق السياسة، ويبدو أن المشرّع قد هضم قانون التطور بما يكفي ليعكسه، بشكلٍ ما، في الدستور، ويحرص على أن تتجدّد الوجوه السياسية دوريا.
ورثت دساتير المنطقة العربية هذه المادة، وتضمن كثير منها بنداً يعطي الرئيس فرصتين انتخابيتين لا أكثر، لينفذ برنامجه السياسي، ولكن هذه المادة الدستورية كانت من أكثر المواد التي تعرّضت للاعتداء على مدى تاريخ الدساتير ووجودها في الدول العربية. ويعود تاريخ أول تعديل إلى بعيد خروج الانتداب الفرنسي من سورية، فقد عدّل الرئيس شكري القوتلي الدستور السوري في العام 1948، ليتمكن من العودة ثانية إلى كرسي الرئاسة، ولكن من سوء حظه أنه خرج من القصر الرئاسي بانقلابٍ عسكري.
جديد ما يتم تداوله بشأن المادة الدستورية الشهيرة الخاصة بفترة الحكم الرئاسي مصدره مصر، حين تقدّمت مجموعة كبيرة من النواب بطلب تعديل الدستور، وأهم المواد التي طالبوا بتعديلها هي فترة الرئيس. يرغب هؤلاء بمط فترة حكم الرئيس من أربعة أعوام إلى ستة، مع الإبقاء على حدود فترتين للرئاسة، بما يعني أن الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي يمكنه إكمال فترته الرئاسية الثانية التي تنتهي في العام 2022، ويستطيع أن يتمتّع بالتعديل الجديد فيترشح لدورتين جديدتين، مدة كل منهما ست سنوات، ما يعني أن السيسي يستطيع أن يبقى دستورياً في سدة الحكم حتى بلوغه الثمانين من العمر.
ويبالغ النواب في الاجتهاد، من دون أن يخالفوا قانون جورج واشنطن. لذا أبقوا على ولايتين للرئيس، لكنهم استطاعوا تمديد وجوده، مع إتاحة الفرصة للرئيس الحالي بأن يستفيد من التعديل، بما يعني أنه تعديلٌ مفبركٌ على قياس الرئيس الحالي، وبما يناسب وصوله السعيد إلى الثمانين من العمر وهو رئيس.
يُلغي نواب "الأكثرية" الذين يطالبون بتمديد فترة رئاسة السيسي كل مكابدات الثورة المصرية، بإعادة التاريخ إلى الوراء، وبشكل قسري، مستخدمين سلطتهم في العبث بالدستور، ليعيدوا تفصيله على قياس الرئيس الحالي، مع إمكانية تعديل دستوري جديد يجعل الجلوس على كرسي الرئاسة مدة مفتوحة أمامه. وهناك مثال قريب جداً في الجزائر التي يتهيأ فيها رئيسٌ تجاوز الثمانين من عمره ويتحرك على كرسي بعجلاتٍ، ويتكلم، وربما ينام، بمساعدة آخرين، ليقدّم نفسه للترشح للمرة الخامسة. بهذه الطريقة، يزدري الرؤساء العرب أهم وثيقةٍ قانونيةٍ تقوم على أساسها الدولة، ليعيدوا، بطريقةٍ عمليةٍ مقولة ملك فرنسي، توفي في بداية القرن الثامن عشر، قبل أن يولد الدستور الأميركي حين قال: أنا الدولة.