01 يناير 2024
عندما تنبأ الترابي بالجاري في السودان
المرحوم حسن الترابي هو أحد أبرز مفكري القرن العشرين ومجتهديه. ظُلم حيّاً بتجاهل مساهماته الفقهية والفكرية أو إنكارها، كما ظُلم ميتاً بتحميله مسؤولية استبداد نظام عمر البشير وفساده وترهله، باعتباره (الترابي) العراب المحرّك وراء انقلاب يونيو 1989. ظلم الترابي، الحركي والمجدد والفقيه القانوني، خريج جامعة السوربون الذي يتحدث الإنكليزية والفرنسية، والضليع بقضايا الفقه الإسلامي وشؤونه، عن عمد ومنهجية، نتيجة سيطرة اليساريين عقوداً على المشهد الإعلامي الثقافي الفكري، وتجاهلهم، بل عدائهم كل ما هو إسلامي، كما لإنكار جماعة الإخوان المسلمين وتجاهلهم، المتعمد، له، وهم من كان لهم فضاءهم الإعلامي الثقافي الفكري الخاص.
أسس الترابي، شاباً، في بداية الستينيات جبهة الميثاق الإسلامي التي تحولت إلى الجبهة الإسلامية القومية، ثم المؤتمر الوطني، والشعبي فيما بعد. انخرط في العمل السياسي الحزبي الديمقراطي مبكراً جداً. شارك أول مرة في الانتخابات البرلمانية، بعد إسقاط حكم الفريق إبراهيم عبود العسكري مباشرة. وأكثر من ذلك كان أول حزب يرشح امرأة، وهي سعاد الفاتح، للانتخابات البرلمانية، في منتصف الستينيات، وكان هذا غريباً وقتها على العمل الحزبي العام والإسلامي خصوصاً.
فكرياً؛ رأى الترابي ما رآه آخرون بعده بنصف قرن. انفصل عن الإخوان المسلمين، بداية
الستينيات، مع احترامه جذوره وعدم إنكاره لها، إلا أنه فهم أن الواقع السوداني مختلفٌ، وبحاجة إلى اجتهادات، وقراءات من أهل البلد من دون تلقي الأوامر عن بعد، وقرّر المشاركة في الانتخابات والعمل السياسي البرلماني والنقابي. كان سابقا في هذا المضمار بعقود لكل الحركات والتنظيمات الإسلامية، بما فيها جماعة الإخوان نفسها.
بعيداً عن الفقه أو الفكر السياسي، للترابي اجتهادات فقهية تتعلق بكل مناحي الحياة من مشاركة المرأة في الحياة العامة، إلى الموسيقى وكل الأعمال الفنية والأدبية الأخرى، وحتى في الاقتصاد مع افتتاح أول بنك إسلامي في السودان. وثمة واقعة هنا لا بد أن تروى، عند تأسيس البنك قُدّم اقتراح أن يحول مجلس الإدارة كل قراراته إلى أحد العلماء، لتبيان الرأي في مدى ملاءمتها مع الشريعة الإسلامية. استهجن الترابي بشدة، وسأل: كيف سيفتي هذا العالم عن بعد، من دون أي تماس أو انخراط في العمل الاقتصادي؟ واقترح في المقابل أن يكون العالم الديني أو الداعية عضواً في مجلس إدارة البنك، يشارك في اجتماعاته، يستمع إلى النقاش والحوار والجدال، ويدلي بدلوه من داخل الميدان، وليس من خارجه.
لكل العوامل السابقة، ظلت الحركة الإسلامية بقيادة حسن الترابي رقماً صعباً فاعلاً في الساحة السياسية، بينما بقي تنظيم الإخوان المسلمين، السوداني، بالاسم نفسه، تنظيما صغيرا عاجزا عن التأثير الفعلي على مجريات الأحداث والتطورات في البلد، بعدما ظل أسير توجيهات التنظيم الدولي، عاجزاً عن التأقلم مع الواقع السوداني وخصوصيته.
بدأت الفترة الأهم في مسيرة الترابي والجبهة الإسلامية في منتصف الثمانينيات، وتحديداً بعد انتفاضة إبريل 1985، وإسقاط نظام جعفر نميري، وانحياز الجيش إلى الشعب بقيادة المشير
عبد الرحمن سوار الذهب الذي ترأّس فترة انتقالية قصيرة، أجريت في نهايتها انتخابات شاركت فيها الجبهة، وحصدت 51 مقعدا مقابل مائة تقريباً لكل من الأحزاب التاريخية الكبرى، الأمة والاتحادي الديمقراطي، مكتسحة دوائر الخريجين الخاصة بالمثقفين وخريجي الجامعات والمعاهد العليا. وبعد أداء برلماني لافت لها في مقاعد المعارضة، حدثت الخطوة المفصلية في تاريخ الجبهة والسودان ككل، أي انقلاب يونيو/ حزيران 1989، والذي كان الترابي مخططه وعرابه ومهندسه، وهو خطأ لا يمكن تبريره، أو الدفاع عنه. ولكن تمكن محاولة فهمه ووضعه في سياق سياسي، كما التشديد على اعتراف الترابي نفسه بالخطأ، وسعيه إلى التراجع عنه بكل الطرق الممكنة.
في النصف الأول من العام نفسه، وعلى وقع احتدام الحرب في الجنوب والهزائم المستمرة للجيش، وبعدما باتت طريق الخرطوم شبه مفتوحةٍ أمام متمردي الحركة الشعبية، تم رفع مذكرة إلى القصر الرئاسي، في مارس/ آذار، تطالب بإقصاء الجبهة الإسلامية ونوابها المنتخبين من المشهد السياسي كله. كان ما يشبه الانقلاب السياسي غير الدستوري وغير الديمقراطي، رد عليها الترابي بالتخطيط، ثم التنفيذ الناجح لانقلاب يونيو، وقال قولته المشهورة لأحد أعضاء الجبهة، قائد الانقلاب، العميد عمر البشير، "تذهب إلى القصر رئيساً وأذهب إلى كوبر سجيناً"، في إشارة إلى السجن الشهير، واعتقال قادة الانقلاب كل الزعماء السياسيين، بما فيهم الترابي نفسه.
سعى الترابي، في السنوات التالية، إلى تحويل السودان إلى مركز، ومثابة أممية للحركات والأحزاب الإسلامية ومستضعفي العالم. أسس "المؤتمر الشعبي الإسلامي" و"مؤسسة الصداقة الشعبية العالمية". وعمل داخليا على تقوية الجيش، مع دعم معتبر من صدام حسين والعراق (بعد تخلي إيران ورفضها تقديم المساعدة)، موجهاً ضربات قوية للحركة الشعبية، واستعاد منها مدن مناطق مهمة، الكرمك وقيسان التي كانت احتلتها قبل الانقلاب، وجعلت طريق الخرطوم شبه مفتوح أمامها. عمل داخلياً أيضاً على إنعاش الاقتصاد، تحديداً في ما يتعلق بالزراعة والاعتماد على الذات. حقق بعض الإنجازات الداخلية، لكنه أيقن، بعد أقل من عشر سنوات في السلطة، أن الانقلاب وصل إلى طريق مسدود، ولا أفق له. وكمفكر ذكي جداً، كما يعترف حتى خصومه، فهم أن النظام عاجز عن حلّ مشكلات السودان، وأن إرثه الديمقراطي سيفرض نفسه حتماً في وقت من الأوقات، عبر انتفاضة حتمية، كما حصل مع كل الانقلابات والأنظمة العسكرية المماثلة، فدعا إلى العودة إلى الحياة الديمقراطية الحزبية التعددية، مجادلاً زملاءه وتلامذته أن حزب المؤتمر الوطني، وريث الجبهة القومية، بات الأكبر الأقوى والأول، حتى لو لم يستطع أن يحكم منفرداً بعد أي انتخابات تنافسية. وآمن كذلك بأن لا استقرار ونهوض للسودان، من دون إنهاء مشكلة الجنوب التي لا حلّ عسكريا لها، وأن حلها سياسي فقط.
عبّر حسن الترابي عن قناعاته بصياغة مسودة دستور مدني ديمقراطي عصري، في 1999، يكفل وصول أي مواطن سوداني إلى الرئاسة، بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه طالما يختاره الشعب في انتخابات حرة ونزيهة. ثم سعى إلى لحوار مع حركة تحرير السودان وزعيمها الوحدوي جون قرنق، متوصلاً إلى اتفاق سلام معه في سويسرا في 2001، أفضل بما لا يقاس من نظيره الرسمي اللاحق. وكان اتفاقا يكفل وحدة السودان، ويعبر فعلاً عن الاعتدال. كما وصفه آنذاك زعيم حزب الأمة، الصادق المهدي.
وتحت شهوة سطوة السلطة، رفض البشير، وزملاؤه العسكر، دعوات العودة إلى الحياة الديمقراطية الحزبية، بكل الإصلاحات التي اقترحها الترابي، نفّذ انقلابا عليه داخل حزب المؤتمر
الوطني، على الرغم من تصويت الغالبية وانحيازها لصالح الزعيم الإسلامي، ثم ألقى به في كوبر سجيناً، بعد عودته من جنيف واتفاقه مع قرنق. وتاليا توصل البشير نفسه إلى اتفاق سلام سيئ مع الحركة الشعبية في نيروبي في العام 2005، ورفضته معظم قيادات الحزب، فضل فيه البشير الاحتفاظ بالسلطة في الشمال فقط على إبقاء السودان موحداً شمالاً وجنوباً.
خلال تلك الفترة، وبعد تنفيذ الانقلاب على الترابي، تخبط حزب المؤتمر الوطني في السلطة يميناً ويساراً، خصوصاً بعد صدمة فقدان الجنوب. تحول أولاً إلى حزب إسلامي مستبد، ثم في السنوات الأخيرة إلى حزب سلطوي مستبد مع مسحة إسلامية ما، من دون حتى غطاء أو إطار أيديولوجي إسلامي واضح المعالم.
بعد ذلك بسنوات، وإثر خروجه من السجن، وتزعمه حزب المؤتمر الشعبي، قبل الترابي في العام 2014 دعوة النظام إلى الحوار، بغرض العودة إلى الديمقراطية والتعددية. وحتى بعد وفاته، سار حزبه على خطاه، مشاركاً في الحوارات الموسعة في 2017، والتي أفضت إلى وثيقة معقولة جداً لحل مشكلات السودان، وهي الوثيقة التي انقلب عليها البشير، رافضاً تنفيذها بشكل أمين نزيه ودقيق.
بإيجاز، ليس النظام الذي أسقطه الشباب الثائر في الخرطوم في شهر إبريل/ نيسان الماضي نظام انقلاب الإنقاذ في 1989، الذي قاده الترابي، إنما النظام الذي أقامه البشير، بعدما نفذ انقلابا آخر عام 1999 للاحتفاظ بالسلطة. كان الزعيم الإسلامي، رحمه الله، قد فهم ذلك كله، وبعدما أرسل البشير إلى القصر رئيساً، حرص على إيجاد مخرج آمن له، لكي لا يذهب أيضاً إلى "كوبر" سجيناً، غير أن هذا ما حصل فعلاً للجنرال الذي لم يفهم حركة التاريخ، كما استشراف قائده ومعلمه للمستقبل.
فكرياً؛ رأى الترابي ما رآه آخرون بعده بنصف قرن. انفصل عن الإخوان المسلمين، بداية
بعيداً عن الفقه أو الفكر السياسي، للترابي اجتهادات فقهية تتعلق بكل مناحي الحياة من مشاركة المرأة في الحياة العامة، إلى الموسيقى وكل الأعمال الفنية والأدبية الأخرى، وحتى في الاقتصاد مع افتتاح أول بنك إسلامي في السودان. وثمة واقعة هنا لا بد أن تروى، عند تأسيس البنك قُدّم اقتراح أن يحول مجلس الإدارة كل قراراته إلى أحد العلماء، لتبيان الرأي في مدى ملاءمتها مع الشريعة الإسلامية. استهجن الترابي بشدة، وسأل: كيف سيفتي هذا العالم عن بعد، من دون أي تماس أو انخراط في العمل الاقتصادي؟ واقترح في المقابل أن يكون العالم الديني أو الداعية عضواً في مجلس إدارة البنك، يشارك في اجتماعاته، يستمع إلى النقاش والحوار والجدال، ويدلي بدلوه من داخل الميدان، وليس من خارجه.
لكل العوامل السابقة، ظلت الحركة الإسلامية بقيادة حسن الترابي رقماً صعباً فاعلاً في الساحة السياسية، بينما بقي تنظيم الإخوان المسلمين، السوداني، بالاسم نفسه، تنظيما صغيرا عاجزا عن التأثير الفعلي على مجريات الأحداث والتطورات في البلد، بعدما ظل أسير توجيهات التنظيم الدولي، عاجزاً عن التأقلم مع الواقع السوداني وخصوصيته.
بدأت الفترة الأهم في مسيرة الترابي والجبهة الإسلامية في منتصف الثمانينيات، وتحديداً بعد انتفاضة إبريل 1985، وإسقاط نظام جعفر نميري، وانحياز الجيش إلى الشعب بقيادة المشير
في النصف الأول من العام نفسه، وعلى وقع احتدام الحرب في الجنوب والهزائم المستمرة للجيش، وبعدما باتت طريق الخرطوم شبه مفتوحةٍ أمام متمردي الحركة الشعبية، تم رفع مذكرة إلى القصر الرئاسي، في مارس/ آذار، تطالب بإقصاء الجبهة الإسلامية ونوابها المنتخبين من المشهد السياسي كله. كان ما يشبه الانقلاب السياسي غير الدستوري وغير الديمقراطي، رد عليها الترابي بالتخطيط، ثم التنفيذ الناجح لانقلاب يونيو، وقال قولته المشهورة لأحد أعضاء الجبهة، قائد الانقلاب، العميد عمر البشير، "تذهب إلى القصر رئيساً وأذهب إلى كوبر سجيناً"، في إشارة إلى السجن الشهير، واعتقال قادة الانقلاب كل الزعماء السياسيين، بما فيهم الترابي نفسه.
سعى الترابي، في السنوات التالية، إلى تحويل السودان إلى مركز، ومثابة أممية للحركات والأحزاب الإسلامية ومستضعفي العالم. أسس "المؤتمر الشعبي الإسلامي" و"مؤسسة الصداقة الشعبية العالمية". وعمل داخليا على تقوية الجيش، مع دعم معتبر من صدام حسين والعراق (بعد تخلي إيران ورفضها تقديم المساعدة)، موجهاً ضربات قوية للحركة الشعبية، واستعاد منها مدن مناطق مهمة، الكرمك وقيسان التي كانت احتلتها قبل الانقلاب، وجعلت طريق الخرطوم شبه مفتوح أمامها. عمل داخلياً أيضاً على إنعاش الاقتصاد، تحديداً في ما يتعلق بالزراعة والاعتماد على الذات. حقق بعض الإنجازات الداخلية، لكنه أيقن، بعد أقل من عشر سنوات في السلطة، أن الانقلاب وصل إلى طريق مسدود، ولا أفق له. وكمفكر ذكي جداً، كما يعترف حتى خصومه، فهم أن النظام عاجز عن حلّ مشكلات السودان، وأن إرثه الديمقراطي سيفرض نفسه حتماً في وقت من الأوقات، عبر انتفاضة حتمية، كما حصل مع كل الانقلابات والأنظمة العسكرية المماثلة، فدعا إلى العودة إلى الحياة الديمقراطية الحزبية التعددية، مجادلاً زملاءه وتلامذته أن حزب المؤتمر الوطني، وريث الجبهة القومية، بات الأكبر الأقوى والأول، حتى لو لم يستطع أن يحكم منفرداً بعد أي انتخابات تنافسية. وآمن كذلك بأن لا استقرار ونهوض للسودان، من دون إنهاء مشكلة الجنوب التي لا حلّ عسكريا لها، وأن حلها سياسي فقط.
عبّر حسن الترابي عن قناعاته بصياغة مسودة دستور مدني ديمقراطي عصري، في 1999، يكفل وصول أي مواطن سوداني إلى الرئاسة، بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه طالما يختاره الشعب في انتخابات حرة ونزيهة. ثم سعى إلى لحوار مع حركة تحرير السودان وزعيمها الوحدوي جون قرنق، متوصلاً إلى اتفاق سلام معه في سويسرا في 2001، أفضل بما لا يقاس من نظيره الرسمي اللاحق. وكان اتفاقا يكفل وحدة السودان، ويعبر فعلاً عن الاعتدال. كما وصفه آنذاك زعيم حزب الأمة، الصادق المهدي.
وتحت شهوة سطوة السلطة، رفض البشير، وزملاؤه العسكر، دعوات العودة إلى الحياة الديمقراطية الحزبية، بكل الإصلاحات التي اقترحها الترابي، نفّذ انقلابا عليه داخل حزب المؤتمر
خلال تلك الفترة، وبعد تنفيذ الانقلاب على الترابي، تخبط حزب المؤتمر الوطني في السلطة يميناً ويساراً، خصوصاً بعد صدمة فقدان الجنوب. تحول أولاً إلى حزب إسلامي مستبد، ثم في السنوات الأخيرة إلى حزب سلطوي مستبد مع مسحة إسلامية ما، من دون حتى غطاء أو إطار أيديولوجي إسلامي واضح المعالم.
بعد ذلك بسنوات، وإثر خروجه من السجن، وتزعمه حزب المؤتمر الشعبي، قبل الترابي في العام 2014 دعوة النظام إلى الحوار، بغرض العودة إلى الديمقراطية والتعددية. وحتى بعد وفاته، سار حزبه على خطاه، مشاركاً في الحوارات الموسعة في 2017، والتي أفضت إلى وثيقة معقولة جداً لحل مشكلات السودان، وهي الوثيقة التي انقلب عليها البشير، رافضاً تنفيذها بشكل أمين نزيه ودقيق.
بإيجاز، ليس النظام الذي أسقطه الشباب الثائر في الخرطوم في شهر إبريل/ نيسان الماضي نظام انقلاب الإنقاذ في 1989، الذي قاده الترابي، إنما النظام الذي أقامه البشير، بعدما نفذ انقلابا آخر عام 1999 للاحتفاظ بالسلطة. كان الزعيم الإسلامي، رحمه الله، قد فهم ذلك كله، وبعدما أرسل البشير إلى القصر رئيساً، حرص على إيجاد مخرج آمن له، لكي لا يذهب أيضاً إلى "كوبر" سجيناً، غير أن هذا ما حصل فعلاً للجنرال الذي لم يفهم حركة التاريخ، كما استشراف قائده ومعلمه للمستقبل.