04 نوفمبر 2024
"أس 400"... وتركيا في "الناتو"
بدأت تركيا في 12 يوليو/ تموز الحالي، تسلم أنظمة الدفاع الجوي الصاروخي الروسية أس - 400، في تحدّ للتحذيرات الأميركية. وهو الإجراء الأحدث في سلسلة من المواقف التي بدا أن تركيا ثبّتت نفسها من خلالها خصماً للولايات المتحدة الأميركية، لا حليفاً استراتيجياً لها. نفذت الولايات المتحدة تهديداتها، وقرّرت إخراج أنقرة من برنامج مقاتلات إف 35، وصرحت مستشارة وزير الدفاع الأميركي إيلين لورد، بأن المرحلة الرسمية المتعلقة بإخراج تركيا من هذا البرنامج قد بدأت، وستكتمل في مارس/ آذار 2020، وسيغادر الطيارون الأتراك المتدربون الولايات المتحدة نهاية يوليو/ تموز الجاري.
دعت أنقرة التي رأت في القرار خطوة "أحادية الجانب"، وغير مبرّرة، وغير قانونية، واشنطن إلى التراجع عن "الخطأ الذي سيلحق أضراراً لا يمكن إصلاحها بعلاقات البلدين". وفي الواقع، كانت صفقة أس - 400 قشّة قصمت ظهر العلاقات بين تركيا والغرب، فبعد عرقلة أوروبا عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، بحث حزب العدالة والتنمية بجدّية عن هوية تركيا بوصفها قوّة إقليمية كبرى، وبرز الوزن النوعي للعوامل الجيوسياسية، والسياسية الداخلية، والدوافع الأيديولوجية ممثلةً في العثمانية الجديدة التي صاغها مستشار أردوغان السابق، ووزير خارجيته في حينه، أحمد داود أوغلو. وقد بات ذلك كله محددات للسياسة التركية في التعاطي غير التقليدي مع ملفاتٍ عديدة.
توترت العلاقات بين تركيا والغرب بشكل ملحوظ بعد محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا صيف العام 2016، في ظل رفض الولايات المتحدة تسليم المعارض التركي عبد الله غولن. وتعترض أنقرة بشدّة على الدعم الأميركي للمقاتلين الكرد في شمال شرق سورية الذي يهدّد
أمنها القومي، كما تستمر دوائر دبلوماسية وبرلمانية، أميركية وأوروبية، في إثارة مسألة قمع الرئيس أردوغان المستمر وسائل الإعلام، والقضاء، وجماعات المعارضة، بالإضافة إلى ملفات شائكة لا تزال عالقة، وتتصل بدعاوى قضائية متبادلة بشأن مواطنين أتراك وأميركيين. وفي تحدٍّ واضح للغرب، مضت تركيا في استكشاف النفط والغاز المثير للجدل في قاع البحر في شرق المتوسط، وتبيّن أخيرًا أن بنكًا مملوكًا للدولة التركية ينتهك قانون العقوبات الإيراني، وانحازت أنقرة علنًا إلى جانب أعداء الولايات المتحدة، وجديدهم الرئيس الفنزويلي، نيكولا مادورو.
اعترف الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبرغ، بأن لتركيا الحق السيادي في تحديد مسائل الأمن القومي، والسلامة الإقليمية، وشراء أي معدات من اختيارها. وتلك التصريحات منطقية، فلم يكن في وسع ستولتنبرغ الاعتراض على امتلاك تركيا منظومة أس - 400 في حين أن كلًا من اليونان وبلغاريا، وكلاهما عضو في "الناتو" أيضًا، امتلكا نظام الصواريخ الروسية أس - 300، من دون أي احتجاج. فلم تثور الضجة حول تركيا تحديدًا؟
مع أن تركيا أكدت أن الاتفاق مع الروس يتيح للخبراء العسكريين الأتراك الفرصة لتعديل برنامج النظام، وفقًا للمعايير الوطنية ومعايير "الناتو"، تُبدي الولايات المتحدة، وشركاء لها في "الناتو"، قلقًا حيال خرقٍ محتمل لأمن الحلف في حال تم دمج "إس -400" في أنظمة الدفاع الجوي الأوسع للحلفاء، ولا تتوفر بعد إمكانية معرفة آليات تلك المنظومة في جمع المعلومات الاستخبارية، ولا سيما عبر الأبواب السيبرانية الخلفية المدمجة في النظام الروسي، كما أن وجود طائرة مقاتلة من طراز إف - 35 أميركية الصنع، وهي طائرة شبح (خفية) من الجيل الخامس، تعمل بشكل روتيني تحت مراقبة نظام روسي الصنع، يجعلها عرضة لكشف بعض أسرارها، ما يتيح رصدها.
قد تتأخر تركيا في الكفّ عن اللعب على وتر الخسارة الأميركية، فتركيا كانت تنتج ما يقرب من تسعمائة قطعة لبرنامج إف 35، وستكلّف إزالتها من البرنامج تسع مليارات دولار إضافية، مع خسائر لا تقل عن نصف مليار دولار. وهناك سعر استراتيجي يجب دفعه أيضًا، إذ كانت تركيا حصنًا ضد انتشار الفوضى القادمة من العراق، ثم سورية، ومنعت من وصول مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى آسيا الوسطى والقوقاز، أما حرمان ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، من طائرة مقاتلة من طراز إف 35، فهو إضعاف للجناح الجنوبي للحلف. ولكن، على الرغم من رسائل جيوسياسية سلبية صادرة عن تحدي عضو رئيسي في "الناتو" الإرادة الأميركية بشرائه أسلحة من خصومها، لم تحرص واشنطن على رؤية حلفائها من الدول تزداد قوة، مختارة طريق تقرير المصير والاكتفاء الذاتي، واعتمدت على سياسة القيادة بالقوة، بدلًا من التحالفات القائمة على النيات الحسنة، ورعاية المصالح المتبادلة. لم يعد بإمكان تركيا الاعتماد دائمًا على دعم الولايات المتحدة والغرب، إذ في غير مرة انحرفت الأحادية الأميركية عن مصالح تركيا التي تتعرض أكثر من غيرها من دول "الناتو" لمخاطر أمنية على حدودها، وتوقعت من الحلف مساعدةً نشطةً لضمان الاكتفاء الذاتي الضروري، من حيث القدرة الدفاعية على أرض الواقع. ولكن علاوة على رفض الولايات المتحدة بيع أنظمة صواريخ باتريوت إلى تركيا، لم تقدم بدائل للأمن القومي التركي، بل تم سحب منصات باتريوت القليلة المتمركزة على طول الحدود التركية السورية في عام 2015، ثم من قاعدة إنجرليك الجوية التركية، تاركةً ثغرات كبيرة في التغطية الدفاعية لتركيا.
لم يتمكّن حلفاء تركيا في "الناتو" من تلبية طلباتها البسيطة والأساسية، فكان لا بد لصناعة
الدفاع الوطنية في تركيا أن تفعل ذلك، فشرعت في بناء نظام صاروخي محلي للتعامل مع تهديدات الصواريخ الباليستية، ولكن ذلك تطلب وقتًا، وبعد أن استعرضت أنقرة خياراتها، وقّعت في نهاية المطاف (ديسمبر/ كانون الأول 2017) عقدًا مع موسكو لشراء منظومة إس - 400، يوفر شرط "نقل التكنولوجيا" التي باتت أحد الأعمدة الرئيسية لاستراتيجية الدفاع التركية، وتتماشى مع تعهد أردوغان بالقضاء على الاعتماد على تكنولوجيا الدفاع الأجنبي. وصحيح أن خسارة "إف 35" كان ثمنًا باهظًا وجب على تركيا دفعه، لكنها متفائلة بتحويل الأموال المخصصة لمشروع "إف 35" لتطوير مقاتلتها المحلية الشبح TAI TF-X لتكون جاهزة بحلول عام 2023.
لا يبدو أن تركيا تتعجل لترك "الناتو". وعلى الرغم من أعضاء في الحلف يرغبون في ذلك، لا تتيح قوانينه طرد أعضاء فيه بسهولة، ولكن تركيا قد تجد نفسها معزولة بشكل متزايد داخل الهيئات المدنية والعسكرية للحلف، الذي سيقلل ببطء من اعتماده على القواعد التركية، لصالح دول أخرى، مثل اليونان وقبرص والأردن، وفي كردستان العراق، وهو الأسوأ بالنسبة لتركيا التي قد يتم تثبيط دورها في عمليات الحلف، الذي تتجاهل استراتيجياته وتكتيكاته المستقبلية مصالح تركيا، أو تهمشها، لتجد تركيا نفسها عضوًا في "الناتو" بالاسم فقط، بعد مساهمة استمرت 67 عامًا، ما يدفعها إلى أن تغرد نهائيًا خارج السرب الأطلسي. ويصبّ اتساع فجوة الخلافات بين البلدين في صالح الروس، ويبشر بإعادة تشكيل محاور جديدة من التحالفات الجيوستراتيجية والسياسية في العالم.
دعت أنقرة التي رأت في القرار خطوة "أحادية الجانب"، وغير مبرّرة، وغير قانونية، واشنطن إلى التراجع عن "الخطأ الذي سيلحق أضراراً لا يمكن إصلاحها بعلاقات البلدين". وفي الواقع، كانت صفقة أس - 400 قشّة قصمت ظهر العلاقات بين تركيا والغرب، فبعد عرقلة أوروبا عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، بحث حزب العدالة والتنمية بجدّية عن هوية تركيا بوصفها قوّة إقليمية كبرى، وبرز الوزن النوعي للعوامل الجيوسياسية، والسياسية الداخلية، والدوافع الأيديولوجية ممثلةً في العثمانية الجديدة التي صاغها مستشار أردوغان السابق، ووزير خارجيته في حينه، أحمد داود أوغلو. وقد بات ذلك كله محددات للسياسة التركية في التعاطي غير التقليدي مع ملفاتٍ عديدة.
توترت العلاقات بين تركيا والغرب بشكل ملحوظ بعد محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا صيف العام 2016، في ظل رفض الولايات المتحدة تسليم المعارض التركي عبد الله غولن. وتعترض أنقرة بشدّة على الدعم الأميركي للمقاتلين الكرد في شمال شرق سورية الذي يهدّد
اعترف الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبرغ، بأن لتركيا الحق السيادي في تحديد مسائل الأمن القومي، والسلامة الإقليمية، وشراء أي معدات من اختيارها. وتلك التصريحات منطقية، فلم يكن في وسع ستولتنبرغ الاعتراض على امتلاك تركيا منظومة أس - 400 في حين أن كلًا من اليونان وبلغاريا، وكلاهما عضو في "الناتو" أيضًا، امتلكا نظام الصواريخ الروسية أس - 300، من دون أي احتجاج. فلم تثور الضجة حول تركيا تحديدًا؟
مع أن تركيا أكدت أن الاتفاق مع الروس يتيح للخبراء العسكريين الأتراك الفرصة لتعديل برنامج النظام، وفقًا للمعايير الوطنية ومعايير "الناتو"، تُبدي الولايات المتحدة، وشركاء لها في "الناتو"، قلقًا حيال خرقٍ محتمل لأمن الحلف في حال تم دمج "إس -400" في أنظمة الدفاع الجوي الأوسع للحلفاء، ولا تتوفر بعد إمكانية معرفة آليات تلك المنظومة في جمع المعلومات الاستخبارية، ولا سيما عبر الأبواب السيبرانية الخلفية المدمجة في النظام الروسي، كما أن وجود طائرة مقاتلة من طراز إف - 35 أميركية الصنع، وهي طائرة شبح (خفية) من الجيل الخامس، تعمل بشكل روتيني تحت مراقبة نظام روسي الصنع، يجعلها عرضة لكشف بعض أسرارها، ما يتيح رصدها.
قد تتأخر تركيا في الكفّ عن اللعب على وتر الخسارة الأميركية، فتركيا كانت تنتج ما يقرب من تسعمائة قطعة لبرنامج إف 35، وستكلّف إزالتها من البرنامج تسع مليارات دولار إضافية، مع خسائر لا تقل عن نصف مليار دولار. وهناك سعر استراتيجي يجب دفعه أيضًا، إذ كانت تركيا حصنًا ضد انتشار الفوضى القادمة من العراق، ثم سورية، ومنعت من وصول مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى آسيا الوسطى والقوقاز، أما حرمان ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، من طائرة مقاتلة من طراز إف 35، فهو إضعاف للجناح الجنوبي للحلف. ولكن، على الرغم من رسائل جيوسياسية سلبية صادرة عن تحدي عضو رئيسي في "الناتو" الإرادة الأميركية بشرائه أسلحة من خصومها، لم تحرص واشنطن على رؤية حلفائها من الدول تزداد قوة، مختارة طريق تقرير المصير والاكتفاء الذاتي، واعتمدت على سياسة القيادة بالقوة، بدلًا من التحالفات القائمة على النيات الحسنة، ورعاية المصالح المتبادلة. لم يعد بإمكان تركيا الاعتماد دائمًا على دعم الولايات المتحدة والغرب، إذ في غير مرة انحرفت الأحادية الأميركية عن مصالح تركيا التي تتعرض أكثر من غيرها من دول "الناتو" لمخاطر أمنية على حدودها، وتوقعت من الحلف مساعدةً نشطةً لضمان الاكتفاء الذاتي الضروري، من حيث القدرة الدفاعية على أرض الواقع. ولكن علاوة على رفض الولايات المتحدة بيع أنظمة صواريخ باتريوت إلى تركيا، لم تقدم بدائل للأمن القومي التركي، بل تم سحب منصات باتريوت القليلة المتمركزة على طول الحدود التركية السورية في عام 2015، ثم من قاعدة إنجرليك الجوية التركية، تاركةً ثغرات كبيرة في التغطية الدفاعية لتركيا.
لم يتمكّن حلفاء تركيا في "الناتو" من تلبية طلباتها البسيطة والأساسية، فكان لا بد لصناعة
لا يبدو أن تركيا تتعجل لترك "الناتو". وعلى الرغم من أعضاء في الحلف يرغبون في ذلك، لا تتيح قوانينه طرد أعضاء فيه بسهولة، ولكن تركيا قد تجد نفسها معزولة بشكل متزايد داخل الهيئات المدنية والعسكرية للحلف، الذي سيقلل ببطء من اعتماده على القواعد التركية، لصالح دول أخرى، مثل اليونان وقبرص والأردن، وفي كردستان العراق، وهو الأسوأ بالنسبة لتركيا التي قد يتم تثبيط دورها في عمليات الحلف، الذي تتجاهل استراتيجياته وتكتيكاته المستقبلية مصالح تركيا، أو تهمشها، لتجد تركيا نفسها عضوًا في "الناتو" بالاسم فقط، بعد مساهمة استمرت 67 عامًا، ما يدفعها إلى أن تغرد نهائيًا خارج السرب الأطلسي. ويصبّ اتساع فجوة الخلافات بين البلدين في صالح الروس، ويبشر بإعادة تشكيل محاور جديدة من التحالفات الجيوستراتيجية والسياسية في العالم.