08 نوفمبر 2024
إثيوبيا.. الانتقال السياسي والصعود القومي
تثير محاولة إطاحة الحكومة الإقليمية في الأمهرا في إثيوبيا، الشهر الماضي ( 22 يونيو/ حزيران 2019)، الجدل بشأن مستقبل العلاقة بين الفيدرالية والقومية، ومع اقتراب الانتخابات التشريعية المنتظمة دوريا، منذ عام 1995، وهو ما يضع الدولة أمام خيارات الوحدة والانفصال أو تعديل النظام الفيدرالي. ويستند النقاش إلى أن عدم حرية الانتخابات السابقة حال دون التعبير الحقيقي عن تطلعات القوميات، وهنا تبدو أهمية تناول تفاعلات السياسة الإثيوبية في ظل تصاعد الوعي القومي وسياسات رئيس الحكومة، آبى أحمد، الوطنية.
وفق تقارير إخبارية، تكشف محاولة التمرّد في عاصمة ولاية الأمهرا، بحر دار، عن تعقيدات النظام الإثيوبي، حيث تطرح هذه الحادثة سؤالا بشأن وحدة الدولة والنزعات الانفصالية، فخلال المشوار السياسي للجبهة الثورية (EPRDF)، ظل اتساع الصراعات الإثنية حول الحدود والحقوق السياسية والاقتصادية يمثل تحدياً للفيدرالية.
ما يعكس شدّة التمرّد أنه، مع استمرار إطلاق النار أربع ساعات، ظهر آبى أحمد بالزي العسكري، كما وصف مكتب رئيس الوزراء الحادثة بمحاولة انقلابية ضد الحكومة الإقليمية، قام بها رئيس مكتب الأمن والسلام في إقليم الأمهرا، وقال إن المحاولة لم تخلّ بأعمال الحكومة الإقليمية، وتدخلت الحكومة الفيدرالية لتولي الشؤون الأمنية. واعتبر رئيس المخابرات العسكرية أن محاولة الانقلاب كانت تهدف إلى إشاعة الفوضى والانقسام في الجيش. ويكتسب التصريح أهميته بعد قتل جنرالين آخرين في أديس أبابا، ينتميان لجماعة التيغري، يقيم غالبيتهم في إريتريا. ومن ثم، تضفي هذه الأحداث معضلةً على سياسات آبى أحمد، الهادفة إلى إعادة هيكلة العلاقات العرقية، حيث تُحدث حالة عدم استقرار، من شأنها إعادة بعث العوامل الكامنة في الأزمة السياسية في إثيوبيا.
ومنذ عام 2017، أدى تصاعد الاشتباكات العرقية في أوروميا والمناطق الصومالية إلى ارتفاع حاد في عدد النازحين، حيث أدت الصدامات العرقية إلى نزوح حوالي مليون شخص في أوروميا والشعوب الجنوبية. وبحلول نهاية عام 2018، ارتفع عدد النازحين إلى 2.4 مليون شخص. وعلى الرغم من تفاوت تقديرات حجم النازحين، فإن ارتباطه بالصراعات العرقية يعكس مدى الرغبة في التعايش بين القوميات.
الميراث السياسي للأمهرا
تشير الدورات التاريخية في إثيوبيا إلى استحواذ الأمهرا على حكم إثيوبيا، الحبشة، فترات
طويلة، فيما وصل التيغراي إلى السلطة باستثناءات قليلة (منلليك الثاني وميلس زيناوي). وهنا، تبدو أهمية التغيرات الحالية المتعلقة بدخول الأورومو على مسار الوصول إلى السلطة، وهي تغيرات تعيد النقاش بشأن العلاقات الإثنية والاندماج القومي.
وتكتسب الأمهرا أهميتها من عدة جوانب، في مقدمتها أنها تمثل الجماعة السكانية الثانية، بعد الأورومو، كما تعد الأمهرية اللغة الرسمية للدولة. وبالتالي، يؤدي انتقال السلطة إلى الشعوب الجنوبية، ثم الأورومو، إلى خفض النفوذ التقليدي للأمهرا. وعلى خلفية الصراع المزمن، لم تفضّل جبهة التيغراي نقل السلطة لجماعة الأمهرا، ما دفع التيغراي إلى تحويل السلطة نحو الجنوب وأوروميا، وهو ما يعني إصرار التيغراي على إضعاف المكانة السياسية للأمهرا، وهنا تبدو أهمية مناقشة انعكاس تراجع التيغراي على تطلع الأمهرا لاستعادة وضعهم التاريخي والتنمية والقضاء على فجوة توزيع الثروة في الإقليم. وعموما، يميل مخيال التيغراي لتبني موقف ثأري ضد الأمهرا، وتراكمت الذاكرة التيغرانية على خلفية التفاوت الاقتصادي والعبودية وتجاهل تاريخهم وثقافتهم. وعلى هذا الأساس، قبلت جبهة التيغراي تولي هايلي مريام ديسالين، ثم آبي أحمد، رئاسة الوزراء.
وفي سياق ميراث الأمهرا، يمكن تناول حادثة التمرّد باعتبارها محاولة انفصالية، تشكل تحدّياً لمشوار الفيدرالية العرقية، وتدفع نحو إجراء تعديلاتٍ دستوريةٍ، لاستيعاب مطالب المحتجين والتصدّي للتفاوت الاقتصادي، بحيث تعيد تأطير الفلسفة السياسية للدولة، فقد كان النظام قائماً على هيمنة التيغراي على الموارد الفيدرالية. ولكن مع وفاة ميلس زيناوي، ظهر التنافس بين القوميات على السلطة، ومطالب بتعديل الدستور.
أزمات الجبهة الثورية
على الرغم من تماسك جبهة تيغراي (TPLF)، ساهمت الانتقادات الداخلية والميراث السياسي للتحالف الحاكم، الجبهة الثورية، في رفض وجود التيغراي في الأقاليم الأخرى، وهي نتائج تضافرت مع ظهور توجهات الاهتمام بالشؤون المحلية والقومية، فمن الملاحظ أن الأقاليم تشهد عودة ظهور الأحزاب القومية القديمة، كجبهة تحرير الأورومو والحزب الديمقراطي الأمهري، كما يشهد الحزب الحاكم في الجنوب، الحركة الديمقراطية لشعوب الجنوب الإثيوبي، (SEPDM) حالة من الفوضى، حيث تتهاوى وحدة الإقليم بسبب سوء الإدارة والصراعات على السلطة، وتنحّي رئيس الوزراء السابق، ديسالين، ومجموعة من القضايا الأخرى.
وقد ساهمت الاحتجاجات في حدوث تغيرات مستمرة، فبينما حصلت منظمة الأورومو ( OPDO) على نفوذ كبير في الحكومتين، المركزية والمحلية، يتزايد الوعي القومي للأمهرا، كما يواجه الجناح الجنوبي للجبهة الثورية ضعفاً مزمناً، بسبب الصراعات بين المجموعات العرقية للشعوب الجنوبية على السلطة والثروة.
وفي الفترة الحالية، يتجه اهتمام أعضاء التحالف الحاكم بشؤونهم الحزبية، من دون الاهتمام
بإصلاح الجبهة الثورية، وتبدو أكثر اهتماماً بالاستحواذ على السلطة والثروة الإقليمية، وترتبط هذه النتائج بتراجع القوة السياسية للحبشة التقليدية، فيما يتزايد نفوذ الجماعات السكانية الأخرى.
ومن وجهة الأيديولوجيا، تعاني الجبهة الثورية من اضمحلال الفكر السياسي، فقد تحولت "الديمقراطية الثورية" من مبدأ ثوري لصيغة بيروقراطية، استفاد منها التيغراي وحلفاؤها في مراكمة ثرواتهم من عدة مصادر غير قانونية، كتجنب الضرائب، والحصول على عقود حكومية من دون منافسة، وحيازة الأراضي بأسعار زهيدة، وتفادي سداد القروض، والمعاملات التفضيلية الأخرى.
وتمهد التغيرات الراهنة الأرضية لظهور تحالفاتٍ محلية، يمكنها تقاسم النفوذ مع الجبهة الثورية، وخصوصاً في إقليمي أوروميا والأمهرا، بسبب توجه أحزاب التحالف نحو تركيز اهتمامها على القضايا المحلية، وتزايد فرصة عودة الأحزاب القومية المناوئة للتيغراي كالحزب الديمقراطي الأمهري(ADP) وجبهة تحرير الأورومو (OLF)، بعد حملة قمع استمرت عشرين عاماً.
هيمنة الأحزاب الإقليمية
على مدى عقدين ونصف العقد، راكمت الفيدرالة الإثنية ميراثاً متماسكاً للوعي القومي ـ الإقليمي، حيث هيمن الطابع القومي على النظام الحزبي. ومنذ العام 2000، لم تغير الجبهة الثورية سياستها في إدارة الانتخابات، فقد تدخلت لتكوين أحزاب إقليمية وقومية ذراعا للسيطرة أو تقسيم الأحزاب المنافسة لها.
وفي اتخابات 2015، سعت جبهة تيغراي إلى تقسيم حزب اتحاد الديمقراطية والعدالة (UDJ)، وشكلت حزباً بالاسم نفسه، وطلبت من الهيئة الوطنية للانتخابات حظر الجناح الأصلي للحزب. ويرجع حظر الحزب إلى اتساع انتشاره في عدة مدن على مستوى الدولة وشبكة علاقاته مع النخبة السياسية، وقد اتخذت اللجنة الوطنية للانتخابات، تحت تأثير التيغراي، قرار الحظر، على الرغم من اعتراض رئيس الوزراء وبعض القادة في منظمة الأورومو OPDO والحركة القومية الأمهرية ANDM. ويعد هذا التوجه امتداداً لسياسة تفكيك الأحزاب الوطنية واعتقال قياداتها، منذ انتخابات 2005.
الانتخابات والانتقال السياسي
وبينما يطالب التيغراي والأورومو باستمرار الدستور الحالي، من دون تعديل، يبدي القوميون الأمهرا رغبتهم في صياغة دستور جديد، على اعتبار أنهم في 1991 إلى 1994 لم يشاركوا في مناقشات الدستور أو صياغته. وبالنسبة للأمهرا، تمثل إعادة النقاش بشأن الدستور مطلبا جوهرياً، حيث يمكنها من فتح الفرصة للمساومة على الأراضي المنزوعة منها، والواقعة في إقليم بني شبنغول ـ غوميز، وغيرها، كما أن اقتراب موعد الانتخابات التشريعية في مايو/ أيار 2020، يفرض صعوبة أمام فرص طرح تعديلات دستورية.
وتكمن أهمية الانتخابات في الكشف عن البدائل المحتملة للنظام الفيدرالي، وهذا ما يتطلب
الاقتراب من مدى توفر شروط الانتخابات الحرة، عاملا حاسما في الانتقال الديمقراطي، أو اتجاهات تصويت الناخبين وتأثيرها على وحدة الدولة. وهناك جدل أن انعقاد الانتخابات في موعدها سيولد نظاماً جديداً، يعكس التوجهات القومية، فبينما كانت تستحوذ الجبهة الثورية على المقاعد التشريعية والمحلية، تشهد إثيوبيا إمكانية دخول أحزابٍ جديدة للتنافس السياسي، استناداً لثلاثة عوامل؛ تراجع نفوذ جبهة التيغراي، تململ التحالف الحاكم، والسياسة الانفتاحية لرئيس الوزراء.
وعلى الرغم من تطلع الآمال إلى انتخابات تنافسية، تطرح البيئة الإثيوبية بعض القيود على حرية الانتخابات، حيث تبدو بيروقراطية النظام الانتخابي بطيئة التكيف مع التوجهات الانفتاحية، فلا تزال مراجعة القوانين المؤثرة على حرية الاتخابات في مراحلها الأولى، مثل قوانين مكافحة الإرهاب والرقابة الإعلامية، وكذلك مراجعة قوانين الانتخابات والإطار التنظيمي للمجلس الوطني للانتخابات في إثيوبيا (NEBE)، حيث لعبت هذه البيئة دورها في تمكين "الجبهة الثورية" من السلطة 24 عاماً.
مركزية السلطة والصعود القومي
ومنذ وصوله إلى السلطة في إبريل/ نيسان 2018، أدخل رئيس الوزراء، آبي أحمد، تغييرات كبيرة، بما في ذلك إعادة توزيع، غير مسبوقة، للسلطة داخل الجبهة الشعبية، وذلك على حساب جبهة التيغراي. وخلال فترة وجيزة، استطاع تخفيف حدة الخلافات بين الجماعات العرقية، وتمكّنت الحكومة من الحفاظ على السلام على المستوى الوطني، كما عمل على تقوية المؤسسات الفيدرالية في الأقاليم، وخصوصاً تطوير الجيش وقوات الأمن لحماية وحدة الدولة، ولعل قدرتها على التصدي لمحاولة الانقلاب في الأمهرا يكشف عن أهمية دور المؤسسات الفيدرالية في الانتقال السياسي.
وقد اتسمت سياسة رئيس الوزراء بالطابع الانفتاحي، عندما أطلق سراح السجناء السياسيين وألغى حظر الأحزاب السياسية، واهتم خطابه بإطلاق الحرية لأنشطة المنظمات الإسلامية، لتطوير سياسات الاندماج القومي، وتبنّيه الوحدة الإثيوبية. وفي هذا السياق، كان انعقاد "المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية" في 4 فبراير/ شباط 2019، ذا دلالة على توفير مناخ يضمن فرصاً متكافئة لكل الأديان، وهي نقطة تحول مهمة في تعريف الدولة وعلاقتها بالمعتقدات الدينية والثقافية.
وعلى الرغم من تماسك مشروع آبي أحمد للسلام والتحول الديمقراطي، تشكل التوترات الإثنية
تحدياتٍ لقدرة الحكومة على المضي في برامج المساواة الإثنية ـ القومية، بسبب شدة التفاوت الاقتصادي والسياسي بين الجماعات المختلفة. كما أنه وفقاً للثقافة السياسية الإثيوبية، تبدو أهمية الحكومة المركزية القوية ضروريةً لنجاح الانتقال السياسي، ويساعد نجاح الحكومة في إجراء في الجيش وجهاز الأمن الحكومة الفيدرالية على بسط سلطتها تجاه الحكومات الإقليمية. ويعد احتواء التمرد المسلح في الأمهرا مؤشّراً على تماسك سياسات رئيس الوزراء وقوة المؤسسات الفيدرالية.
وبينما كانت قوة رئيس الوزراء الراحل، ميلس زيناوي، تكمن في وضع أيديولوجيا لحل المسألة القومية، على أساس التمثيل النسبي للجماعات الإثنية، فإن استناد مشروع آبي أحمد إلى دمج كل القوميات تحت مظلة الدولة الوطنية يتطلب تحييد التوجهات القومية لدى الأمهرا والتيغراي.
وبغض النظر عن طبيعة الفيدرالية، يكمن التحدي الأساسي في أن الجيل الثاني من سياسيي التيغراي/ الجبهة الثورية لا يتمتع بشرعية مناسبة لإقناع القوميات الأخرى بالبقاء تحت الفيدرالية الإثنية، وهو ما يسمح بتراجع نفوذ القوميين التيغراي، ففي سياق تداعيات استقالة رئيس الوزراء السابق، ديسالين، ظهرت اتجاهات قومية متطرّفة، تنطلق من الصراعات الدينية أساسا للعلاقة مع القوميات الأخرى، غير أنه مع تنامي الأزمات الداخلية في جبهة التيغراي، تراجعت حدة الإقصاء القومي، فيما ظل الاتجاه العام، يفضل دعم النظام الفيدرالي، وتجنب العودة إلى المطالب الانفصالية، كما تعمل هيمنة الأحزاب الإقليمية على النظام الحزبي على تكوين حكوماتٍ منقسمةٍ تحت تأثير القومية.
وفق تقارير إخبارية، تكشف محاولة التمرّد في عاصمة ولاية الأمهرا، بحر دار، عن تعقيدات النظام الإثيوبي، حيث تطرح هذه الحادثة سؤالا بشأن وحدة الدولة والنزعات الانفصالية، فخلال المشوار السياسي للجبهة الثورية (EPRDF)، ظل اتساع الصراعات الإثنية حول الحدود والحقوق السياسية والاقتصادية يمثل تحدياً للفيدرالية.
ما يعكس شدّة التمرّد أنه، مع استمرار إطلاق النار أربع ساعات، ظهر آبى أحمد بالزي العسكري، كما وصف مكتب رئيس الوزراء الحادثة بمحاولة انقلابية ضد الحكومة الإقليمية، قام بها رئيس مكتب الأمن والسلام في إقليم الأمهرا، وقال إن المحاولة لم تخلّ بأعمال الحكومة الإقليمية، وتدخلت الحكومة الفيدرالية لتولي الشؤون الأمنية. واعتبر رئيس المخابرات العسكرية أن محاولة الانقلاب كانت تهدف إلى إشاعة الفوضى والانقسام في الجيش. ويكتسب التصريح أهميته بعد قتل جنرالين آخرين في أديس أبابا، ينتميان لجماعة التيغري، يقيم غالبيتهم في إريتريا. ومن ثم، تضفي هذه الأحداث معضلةً على سياسات آبى أحمد، الهادفة إلى إعادة هيكلة العلاقات العرقية، حيث تُحدث حالة عدم استقرار، من شأنها إعادة بعث العوامل الكامنة في الأزمة السياسية في إثيوبيا.
ومنذ عام 2017، أدى تصاعد الاشتباكات العرقية في أوروميا والمناطق الصومالية إلى ارتفاع حاد في عدد النازحين، حيث أدت الصدامات العرقية إلى نزوح حوالي مليون شخص في أوروميا والشعوب الجنوبية. وبحلول نهاية عام 2018، ارتفع عدد النازحين إلى 2.4 مليون شخص. وعلى الرغم من تفاوت تقديرات حجم النازحين، فإن ارتباطه بالصراعات العرقية يعكس مدى الرغبة في التعايش بين القوميات.
الميراث السياسي للأمهرا
تشير الدورات التاريخية في إثيوبيا إلى استحواذ الأمهرا على حكم إثيوبيا، الحبشة، فترات
وتكتسب الأمهرا أهميتها من عدة جوانب، في مقدمتها أنها تمثل الجماعة السكانية الثانية، بعد الأورومو، كما تعد الأمهرية اللغة الرسمية للدولة. وبالتالي، يؤدي انتقال السلطة إلى الشعوب الجنوبية، ثم الأورومو، إلى خفض النفوذ التقليدي للأمهرا. وعلى خلفية الصراع المزمن، لم تفضّل جبهة التيغراي نقل السلطة لجماعة الأمهرا، ما دفع التيغراي إلى تحويل السلطة نحو الجنوب وأوروميا، وهو ما يعني إصرار التيغراي على إضعاف المكانة السياسية للأمهرا، وهنا تبدو أهمية مناقشة انعكاس تراجع التيغراي على تطلع الأمهرا لاستعادة وضعهم التاريخي والتنمية والقضاء على فجوة توزيع الثروة في الإقليم. وعموما، يميل مخيال التيغراي لتبني موقف ثأري ضد الأمهرا، وتراكمت الذاكرة التيغرانية على خلفية التفاوت الاقتصادي والعبودية وتجاهل تاريخهم وثقافتهم. وعلى هذا الأساس، قبلت جبهة التيغراي تولي هايلي مريام ديسالين، ثم آبي أحمد، رئاسة الوزراء.
وفي سياق ميراث الأمهرا، يمكن تناول حادثة التمرّد باعتبارها محاولة انفصالية، تشكل تحدّياً لمشوار الفيدرالية العرقية، وتدفع نحو إجراء تعديلاتٍ دستوريةٍ، لاستيعاب مطالب المحتجين والتصدّي للتفاوت الاقتصادي، بحيث تعيد تأطير الفلسفة السياسية للدولة، فقد كان النظام قائماً على هيمنة التيغراي على الموارد الفيدرالية. ولكن مع وفاة ميلس زيناوي، ظهر التنافس بين القوميات على السلطة، ومطالب بتعديل الدستور.
أزمات الجبهة الثورية
على الرغم من تماسك جبهة تيغراي (TPLF)، ساهمت الانتقادات الداخلية والميراث السياسي للتحالف الحاكم، الجبهة الثورية، في رفض وجود التيغراي في الأقاليم الأخرى، وهي نتائج تضافرت مع ظهور توجهات الاهتمام بالشؤون المحلية والقومية، فمن الملاحظ أن الأقاليم تشهد عودة ظهور الأحزاب القومية القديمة، كجبهة تحرير الأورومو والحزب الديمقراطي الأمهري، كما يشهد الحزب الحاكم في الجنوب، الحركة الديمقراطية لشعوب الجنوب الإثيوبي، (SEPDM) حالة من الفوضى، حيث تتهاوى وحدة الإقليم بسبب سوء الإدارة والصراعات على السلطة، وتنحّي رئيس الوزراء السابق، ديسالين، ومجموعة من القضايا الأخرى.
وقد ساهمت الاحتجاجات في حدوث تغيرات مستمرة، فبينما حصلت منظمة الأورومو ( OPDO) على نفوذ كبير في الحكومتين، المركزية والمحلية، يتزايد الوعي القومي للأمهرا، كما يواجه الجناح الجنوبي للجبهة الثورية ضعفاً مزمناً، بسبب الصراعات بين المجموعات العرقية للشعوب الجنوبية على السلطة والثروة.
وفي الفترة الحالية، يتجه اهتمام أعضاء التحالف الحاكم بشؤونهم الحزبية، من دون الاهتمام
ومن وجهة الأيديولوجيا، تعاني الجبهة الثورية من اضمحلال الفكر السياسي، فقد تحولت "الديمقراطية الثورية" من مبدأ ثوري لصيغة بيروقراطية، استفاد منها التيغراي وحلفاؤها في مراكمة ثرواتهم من عدة مصادر غير قانونية، كتجنب الضرائب، والحصول على عقود حكومية من دون منافسة، وحيازة الأراضي بأسعار زهيدة، وتفادي سداد القروض، والمعاملات التفضيلية الأخرى.
وتمهد التغيرات الراهنة الأرضية لظهور تحالفاتٍ محلية، يمكنها تقاسم النفوذ مع الجبهة الثورية، وخصوصاً في إقليمي أوروميا والأمهرا، بسبب توجه أحزاب التحالف نحو تركيز اهتمامها على القضايا المحلية، وتزايد فرصة عودة الأحزاب القومية المناوئة للتيغراي كالحزب الديمقراطي الأمهري(ADP) وجبهة تحرير الأورومو (OLF)، بعد حملة قمع استمرت عشرين عاماً.
هيمنة الأحزاب الإقليمية
على مدى عقدين ونصف العقد، راكمت الفيدرالة الإثنية ميراثاً متماسكاً للوعي القومي ـ الإقليمي، حيث هيمن الطابع القومي على النظام الحزبي. ومنذ العام 2000، لم تغير الجبهة الثورية سياستها في إدارة الانتخابات، فقد تدخلت لتكوين أحزاب إقليمية وقومية ذراعا للسيطرة أو تقسيم الأحزاب المنافسة لها.
وفي اتخابات 2015، سعت جبهة تيغراي إلى تقسيم حزب اتحاد الديمقراطية والعدالة (UDJ)، وشكلت حزباً بالاسم نفسه، وطلبت من الهيئة الوطنية للانتخابات حظر الجناح الأصلي للحزب. ويرجع حظر الحزب إلى اتساع انتشاره في عدة مدن على مستوى الدولة وشبكة علاقاته مع النخبة السياسية، وقد اتخذت اللجنة الوطنية للانتخابات، تحت تأثير التيغراي، قرار الحظر، على الرغم من اعتراض رئيس الوزراء وبعض القادة في منظمة الأورومو OPDO والحركة القومية الأمهرية ANDM. ويعد هذا التوجه امتداداً لسياسة تفكيك الأحزاب الوطنية واعتقال قياداتها، منذ انتخابات 2005.
الانتخابات والانتقال السياسي
وبينما يطالب التيغراي والأورومو باستمرار الدستور الحالي، من دون تعديل، يبدي القوميون الأمهرا رغبتهم في صياغة دستور جديد، على اعتبار أنهم في 1991 إلى 1994 لم يشاركوا في مناقشات الدستور أو صياغته. وبالنسبة للأمهرا، تمثل إعادة النقاش بشأن الدستور مطلبا جوهرياً، حيث يمكنها من فتح الفرصة للمساومة على الأراضي المنزوعة منها، والواقعة في إقليم بني شبنغول ـ غوميز، وغيرها، كما أن اقتراب موعد الانتخابات التشريعية في مايو/ أيار 2020، يفرض صعوبة أمام فرص طرح تعديلات دستورية.
وتكمن أهمية الانتخابات في الكشف عن البدائل المحتملة للنظام الفيدرالي، وهذا ما يتطلب
وعلى الرغم من تطلع الآمال إلى انتخابات تنافسية، تطرح البيئة الإثيوبية بعض القيود على حرية الانتخابات، حيث تبدو بيروقراطية النظام الانتخابي بطيئة التكيف مع التوجهات الانفتاحية، فلا تزال مراجعة القوانين المؤثرة على حرية الاتخابات في مراحلها الأولى، مثل قوانين مكافحة الإرهاب والرقابة الإعلامية، وكذلك مراجعة قوانين الانتخابات والإطار التنظيمي للمجلس الوطني للانتخابات في إثيوبيا (NEBE)، حيث لعبت هذه البيئة دورها في تمكين "الجبهة الثورية" من السلطة 24 عاماً.
مركزية السلطة والصعود القومي
ومنذ وصوله إلى السلطة في إبريل/ نيسان 2018، أدخل رئيس الوزراء، آبي أحمد، تغييرات كبيرة، بما في ذلك إعادة توزيع، غير مسبوقة، للسلطة داخل الجبهة الشعبية، وذلك على حساب جبهة التيغراي. وخلال فترة وجيزة، استطاع تخفيف حدة الخلافات بين الجماعات العرقية، وتمكّنت الحكومة من الحفاظ على السلام على المستوى الوطني، كما عمل على تقوية المؤسسات الفيدرالية في الأقاليم، وخصوصاً تطوير الجيش وقوات الأمن لحماية وحدة الدولة، ولعل قدرتها على التصدي لمحاولة الانقلاب في الأمهرا يكشف عن أهمية دور المؤسسات الفيدرالية في الانتقال السياسي.
وقد اتسمت سياسة رئيس الوزراء بالطابع الانفتاحي، عندما أطلق سراح السجناء السياسيين وألغى حظر الأحزاب السياسية، واهتم خطابه بإطلاق الحرية لأنشطة المنظمات الإسلامية، لتطوير سياسات الاندماج القومي، وتبنّيه الوحدة الإثيوبية. وفي هذا السياق، كان انعقاد "المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية" في 4 فبراير/ شباط 2019، ذا دلالة على توفير مناخ يضمن فرصاً متكافئة لكل الأديان، وهي نقطة تحول مهمة في تعريف الدولة وعلاقتها بالمعتقدات الدينية والثقافية.
وعلى الرغم من تماسك مشروع آبي أحمد للسلام والتحول الديمقراطي، تشكل التوترات الإثنية
وبينما كانت قوة رئيس الوزراء الراحل، ميلس زيناوي، تكمن في وضع أيديولوجيا لحل المسألة القومية، على أساس التمثيل النسبي للجماعات الإثنية، فإن استناد مشروع آبي أحمد إلى دمج كل القوميات تحت مظلة الدولة الوطنية يتطلب تحييد التوجهات القومية لدى الأمهرا والتيغراي.
وبغض النظر عن طبيعة الفيدرالية، يكمن التحدي الأساسي في أن الجيل الثاني من سياسيي التيغراي/ الجبهة الثورية لا يتمتع بشرعية مناسبة لإقناع القوميات الأخرى بالبقاء تحت الفيدرالية الإثنية، وهو ما يسمح بتراجع نفوذ القوميين التيغراي، ففي سياق تداعيات استقالة رئيس الوزراء السابق، ديسالين، ظهرت اتجاهات قومية متطرّفة، تنطلق من الصراعات الدينية أساسا للعلاقة مع القوميات الأخرى، غير أنه مع تنامي الأزمات الداخلية في جبهة التيغراي، تراجعت حدة الإقصاء القومي، فيما ظل الاتجاه العام، يفضل دعم النظام الفيدرالي، وتجنب العودة إلى المطالب الانفصالية، كما تعمل هيمنة الأحزاب الإقليمية على النظام الحزبي على تكوين حكوماتٍ منقسمةٍ تحت تأثير القومية.